فراديس بودلير المصطنعة بالعربية
فراديس بودلير المصطنعة بالعربية


صدر حديثاً عن منشورات المتوسط بإيطاليا، كتاب “الفراديس المصطنعة – في الحشيش والأفيون” للشاعر والناقد الفني الفرنسي شارل بودلير، وترجمة: ناظم بن إبراهيم.

ويتناول شارل بودلير في هذا الكتاب العلاقة الممكنة بين استعمال المخدّرات والإبداع الشعريّ متطرّقا إلى تجارب إبداعيّة أوروبيّة عديدة، مرتبطة بشكل أو بآخر بالتوظيفات الإبداعيّة للحشيش والأفيون في الشعر والسرد والموسيقى، مازجاً بين لغة علميّة أساسها البحث التاريخيّ والملاحظة المباشرة؛ وأسلوب شعريّ يخلّصُ هذا الكتاب من طابعه البحثيّ ويجعل منه واحداً من الكتب الّتي يمكن أن نفهم من خلالها الخلفيّات الفكريّة والجماليّة الّتي ستحدّد بعض ملامح الكتابة الشعرية لديه لاحقاً.

جدير بالذِّكر، أنَّ هذا الكتاب يترجم للمرَّة الأولى إلى العربية.

من الكتاب:

 

تقديم

في إحدى مساءات صيف 1849، جلس تيوفيل غوتييه في بهو نُزُل لوزون المطلّ على نهر سانت لويس في باريس منتظرًا صديقهُ فيرناند بْواسّار الذي تعوّدَ على لقائه هناك في “نادي الحشّاشين” السّرّيّ صحبة ألكسندر دوماس والطبيب جاك جوزيف مورو. وبينما هو كذلكَ دخلَ بْواسّار مصطحبا معهُ ضيفًا جديدًا على حلقتهم التـي لطالما حرصوا على اختيار عناصرها بحذر كبيـر. وقف غوتييه، وصافح صديقهُ مُسترقًا النظر إلى الرّجل الذي يرافقه: ملامح صارمة، عينان حادّتان، وأنفٌ بارز مثل إصبع اتّهام، ابتسامة حفيفة، ويدٌ تمتدّ إليه:

– شارل بيار بودلير.

– غوتييه .. تيوفيل غوتييه.

تبادلا التّحيّة، ودون أن يضيّعا وقتًا كبيـرًا في التعارف، التحقا ببهوهم السّرّيّ في النُّزُل.

لم يكُن هذا البهو مجرّد مكان يلتقي فيه الأدباء لاستهلاك موادّ مخدّرة فحسب، بل كان مختبـرًا حقيقيًّا لتجربتهم الأدبيّة، وللنقاشات التي قد يُجْرونها حول نصوصهم ومشاريعهم في الكتابة أيضًا. وربّما كان بودلير واعيًا بخطورة اللعبة التي هو بصددها، الأمر الذي سيدفعهُ شيئًا فشيئًا إلى تطوير المكتسبات التي يمكن أن يحقّقها من هذا المختبـر، بِعَدِّه فضاءً ومنطلقًا للملاحظة المباشرة المتعلّقة بما يمكن أن يكون للحشيش وللأفيون من علاقات، قد تربطهما بالكتابة الأدبيّة والإبداعيّة، وهو ما سيقودهُ شيئًا فشيئًا إلى رحلة طويلة، قضّاها وهو يؤلّف هذا الكتاب الذي تبدو طبيعتهُ مُشكلة منذ الوهلة الأولى، فلا نجدُ لهُ وصفة أجناسيّة ملائمة، يمكنُ أن تضعهُ في خانة واضحة من خانات الكتابة، وليس هذا بغريب عن بودلير الذي سيركّز تجربته اللاحقة كلّها على التأسيس لتوتّر اصطلاحيّ، سيطبعُ الحداثة الشِّعْرِيَّة الفرنسيّة والغربيّة والعربيّة (وإن في وقت متأخّر)، وسيجدُ مُجراهُ النظريّ في مفهوم قصيدة النثـر، أو القصيدة في النّثر (En Prose) كما نفضّل أن نترجمها.

لا تخفي مجمل المصادر التي اهتمّت بالتأريخ للحركة الأدبية الفرنسية في منتصف القرن التاسع عشر، حرصَ بودلير الدّائم على لعب دور الملاحظ عندما يتعلّق الأمر بالحشيش أو الأفيون، وقد يرتبط هذا الحرص بتعلّات أخلاقيّة أو صحّيّة، حاول التأكيد عليها في أكثـر من موضع من هذا الكتاب.

غيـر أنّ هذا الحرص – وإن كان لا ينفي حقيقة استهلاكه لهذه الموادّ المخدّرة، وتجربته لها – مُتّصل بنزوعه إلى التأكيد على كونه، مثله مثل النُّخب الفرنسيّة التي كوّنت حلقات الحشيش السّرّيّة وقتها، لم يكن مجرّد مستهلك عاديّ، بقدر ما حاول في مجمل تأمّلاته وبحوثه، ربطَ تناول الحشيش ومختلف أنواع المنبّهات والمخدّرات، بالكتابة والخلق الإبداعيّ، بطريقة تقلبُ الفَهْم الذي يمكن أن يحصل في ذهن القارئ عندَ مصافحته عنوان هذا الكتاب، فالهدف الأوّلُ منه لم يكن الحشيش أو الأفيون، ولا التشريع لتناولهما، وإنّما تمثُّل العمليّة الابداعيّة، وتتبّعها في ضوئهما، ولم يكُن هذا التّمثّل ممكنًا، لولا المجهود المعرفيّ الذي قام به وهو يتتبّع مواضيع بحثه، سواء تعلّق الأمر بما هو معرفيّ ولسانيّ وتاريخيّ وثقافيّ أو بما هو حسِّيٌّ وواقعيّ وذاتيّ وتجريبيّ.

داخل هذا الأفق متعدّد الأبعاد، يحضرُ بودلير في “الفراديس المُصطنعة” بأبعاد مختلفة أيضا، تتداخل فيها أساليب الكتابة بين الموضوعيّة التي تفترضها العلميّة التي طمح إليها وهو يضع الخطوط المنهجيّة الأولى لمشروع بحثه؛ والذّاتيّة التي لم يستطع أن يتخلّص منها الشاعر الذي في داخله رغم محاولاته العديدة في تنويمه وإخماد صوته وتطويع رمزيّته لصالح نبرته السرديّة الهادئة. وإذا أردنا أن نفكّك العناصر التي كوّنت الخطاب البودليريّ في هذا الكتاب بطريقة لا تمسّ من تماسكها ووحدتها الأدبيّة، يمكن أن نجمل الوجوه التي حضر بها في “الفراديس” في المستويات الأربعة التالية:

 

1- بودلير المفكّر والكاتب: لقد أراد الإنسان أن يحلُم، وها هو الحُلم يتحكّم به:

يبدو بودلير هذا واضحًا في بداية الكتاب، وفي أثنائه، لكنّنا يمكننا أن نخمّن بالقوّة أنّهُ كان حاضرًا أكثر قبل تأليفه، أيْ في الفرضيّات المعرفيّة والضوابط المنهجيّة التي اعتمدها قبل الشروع في الكتابة التي ستنفلتُ في أكثـر من موضع من مشروعها الذهني، لا في مستوى موضوع الكتابة، وإنّما في مستوى شكل مقاربته. وفي هذا الصدّد، إلى جانب المجهود الإيتيمولوجيّ والبحث التاريخيّ اللافتَيْن للانتباه والمتعلِّقَيْن بكلمة “حشيش”، وبهذه المادّة المخدّرة وأنواعها المختلفة واستعمالاتها المتعدّدة بتعدّد الثقافات والحضارات، تركّز عمل بودلير المفكّر والكاتب على دراسة ظاهرة الحلم، بِعَدِّها المنطقة التّخييليّة التي يشتغل داخلها المخدّر، ويفعل فعلهُ السِّحْرِيّ مُستفيدًا من البنية الذهنيّة للمُستهلك، وموظّفًا للعناصر المكوّنة لشخصيّته وذاكرته وثقافته.

وفي هذا المستوى، وداخل هذا الطابع العلميّ للكتابة البودليريّة، تناول بودلير الحُلم، واجتهدَ في تحديد بعض أنواعه، بل وربطه في أكثر من موضع بالطفولة، بِعَدِّها الإطار المرجعيّ الذي تتحقّق في سياقه (دون وعي) شخصيّة الكهل اللاحقة ومخاوفه وهواجسه وعُقده. يقول: “وسنجدُ في الملاحظات المتعلّقة بالطفولة أصل أحلام الكهل الغريبة. لقد فهم كتّاب السيرة جميعهم، بطريقة شبه كاملة، أهميّة الحكايات المرتبطة بطفولة كاتب أو فنّان. لكنّني أجد أنّ هذه الأهمّيّة لم تؤكَّد بما فيه الكفاية مطلقًا. وفي كثيـر من الأحيان، بينما أتأمّل الأعمال الفنّيّة (…) أحسّ بشيء مّا يغمرني، كما لو كان إحدى الرؤى القادمة من طفولة أصحابها.” (1860) .

أليس هذا شبيهًا بالجملة الشهيرة لرائد التحليل النفسي (الذي لم يتجاوز عمره ثلاث سنوات عندما كتب بودلير هذه الكلمات) سيغموند فرويد حين يقول: “الطفل أبُ الرجُل” (1908)؟ وبغضّ النظر عن إمكان اطّلاع فرويد (الذي سافر إلى فرنسا سنة 1889 ليُحسّن تِقْنِيّاته في التنويم مع بعض الأطبّاء الفرنسيّيْن) على بودلير، واستفادته منه، الأمر الذي لا نجدُ له أثرًا في جلّ المصادر التّاريخيّة التي تناولت الكاتبَيْن، فإنّ هذه الملاحظات التي أبداها بودلير تظلّ جديرة بالتثمين المعرفيّ مثلها مثل عديد الملاحظات الأخرى المبثوثة في كُتُب مختلفة سابقة لنظريّات التحليل النفسي دون أن تجدَ صيغتها النظريّة والمنطقيّة النهائيّة، الأمر الذي يمكن أن نفهم في ضوئه، وفي السياق نفسه، انتهاء بودلير إلى القول: “إنّ الحلم قاموس يجبُ دراستهُ، ولغة يمكن للحكماء الوصول إلى مفاتيحها.”

 

2- بودلير المترجم: لدى آكل الأفيون أيضا مُترجمٌ معتم بالقرب منه:

ظلّ بودلير بعدّهِ مترجمًا، في كواليس الوعي الجمعي الغربيّ والعربيّ، وحتّى إذا ما استُحضر هذا الأمر في سياق الحديث عنهُ يُستحضر في سياق التذكير باتّساع اطّلاعه وتعدّد منابعه دون التركيز على الدّروس الكبيرة التي تعلّمها من هذا التمرين الذي كان يمكن أن يتحوّل إلى مشروع ضخم، لولا انشغالاته الشِّعْرِيّة والنقديّة الأخرى.

ولا يخفي بودلير في هذا المؤلّف الذي يترجم فيه مقاطع طويلة من كتاب الروائي الإنجليزيّ توماس دي كوينسي “اعترافات آكل أفيون إنجليزيّ” ليعتمدها عيّنة لتناوله لموضوع الكتاب، لا يخفي الجُهد الجبّار الذي بذلهُ ليقدّمَ ترجمة في مستوى بهاء النّصّ الإنجليزيّ الذي كان يقدّمه لأوّل مرّة للقرّاء الفرنسيّيْن آنذاك. وهذا الجهدُ، لم يرتبط بالقلق الذي أبداه تجاه غياب بعض المرادفات الفرنسية الدقيقة لبعض الكلمات الإنجليزيّة فحسب، بل يتجاوز ذلك ليشمل تطوّر حساسيّته الشِّعْرِيّة إزاء المفردات والجمل والكيمياء اللفظيّة الناتجة عن وصف أو سرد أو لوحة أليغوريّة أو رمزيّة، قد يواجهها في أثناء الترجمة يائسًا من إمكان الحفاظ المطلق على شفافيّتها ونقائها، ومحاولًا في أثناء خيانته الجميلة أن يعيد كتابتها بوعي مؤلّفها داخل السياق الثقافيّ الجديد، ليصل به الأمر، في بعض الأحيان، إلى القول: “للمُتـرجم في علاقته بعقله، العلاقة نفسها التي تربط طيف بروكن بذاك المسافر (الذي يحاول أن ينظر إلى نفسه في مرآة الطيف). وتمامًا مثلما يضطرب الطّيف بالعواصف والضباب والأمطار؛ يخلطُ المترجمُ المُلغزُ أحيانًا طبيعتهُ الانعكاسيّة بعناصر غريبة. إنّ ما يقوله عامّة، ليس غيـر ما قلتهُ (…) لكنّ كلماته تضطرب مثل وجهه، ولا تبدو مثل تلك التي فكّرتُ بها”.

 

3- بودلير الناقد والمعلّق: عليّ أن أذكّر نفسي بهدف هذا العمل:

يحضرُ النَّفَسُ النقديُّ في هذا الكتاب مصاحبًا لمشروع الترجمة الذي يقترحهُ من ناحية، ولمسار البحث الذي اتّبعهُ بودلير في رصد المراحل المختلفة لتأثير الحشيش والأفيون على ذهن مُستعمله، غيـر أنّهُ لا يقفُ عندَ هذا الحدّ، بل يتجاوز ذلكَ نحو التّوغّل في أعقد القضايا الأسلوبيّة المرتبطة بالأدب الإنجليـزيّ ومواضعاته آنذاك، فهو لا يدرس رواية دي كوينسي لأجل الرواية في حدّ ذاتها، وإنّما لتوافقها مع موضوع بحثه، بِعَدِّها شهادة حَيّة لأحد الكتّاب الكبار الذين قضّوا فتـرة طويلة في استعمال الأفيون، وكان لهم من الجرأة ومن الوعي ما يكفي ليقدّموا تفاصيل تجربتهم الإنسانيّة والإبداعيّة مع هذا المخدّر، ولا نكادُ – ونحنُ نقرأ الكتاب، خاصّة في قسمه الثاني – نفرّقُ بين الباحث وموضوع بحثه، أي بين بودلير ودي كوينسي، إلا في اللحظات التي يختار فيها بودلير أن يُحيّد ذاتيّتهُ، ويقدّم بعض الملاحظات الموضوعيّة لطبيعة المرحلة التي يتناولها ضمن مجمل المراحل التي يكون عليها الوعي البشريّ في استعمالات المخدّر المختلفة، أو لطبيعة الأسلوب الذي يعتمدهُ الموضوع، وهو يتحدّث عن تجربته.

 

4- بودلير الشاعر والإنسان: قصيدة الحشيش، مسرحُ سيرافين والإنسانُ الإله:

مع شاعر مثل بودلير، كان التّخلّص من الشِّعْر في كتابه مستحيلًا رغم محاولاته العديدة في التأكيد على رغبته في تقديم كتاب، ينـزعُ إلى العلم والنقد أكثر من الأدب والشِّعْر. ولا تظهرُ هذه الاستحالة في بعض الجمل الشِّعْرِيّة المبثوثة هنا وهناك فحسب، وإنّما ترتبطُ بالطابع الاستعاريّ الذي وسم الكتاب في مجمله منذ البداية إلى آخر سطر خطّهُ الشاعر وهو يقارب موضوع بحثه. ولا يمكن لعناوين من قبيل “قصيدة الحشيش” أو “مسرحُ سيرافين (مسرحُ الظلال)” أو “الإنسان الإله”، أو غيرها أن تشي بأيّ طابع علميّ، بل هي، على العكس من ذلك، تحضرُ لتؤكّد أنّ الشِّعْر بِعَدِّه رؤية للعالم ورؤيا (بالمعنى الرامبوي – نسبة إلى آرثر رامبو – اللاحق والمتأثّر كثيرًا ببودلير) يوجّه إنشائيّة النّصّ البودليريّ الذي بين أيدينا وهويّتهُ الأجناسيّة القلقة. بل، يمكننا، ودون مجازفة، أن نعثر في هذا الكتاب على أكثـر من قصيدة في النثـر انفلتت من وعي كتابتها (في خطاب بودلير أو خطاب المتكلّمين معه)، وأن نجدَ بها العناصر التكوينيّة كلّها التي ستتجلّى بأكثر وضوح في الكتابة الشِّعْرِيّة لدى بودلير لاحقًا:

“كم مرّة، كان يعيش مجدّدًا في تسليات المدرسة، وفي الغرفة المأتميّة، حيثُ تتمدّد جثّة شقيقته، في ضوء الصّيف وجليد الموت، وفي الطريق المفتوحة على النشوة، من خلال قنطرة السماوات الزرقاء؛ ثُمّ، الكاهن وهو يقف في جبّة بيضاء إلى جانب قبـر مفتوح، والنعشُ وهو ينـزل داخل الأرض، والغُبارُ الموارى على الغبار؛ وأخيـرًا، القدّيسون والرُّسُل وشهداء الزجاج الملوّن، وقد أضاءتهم الشمس، وشكّلوا إطارًا رائعًا لتلك الأَسِرّة البيضاء ومهود الأطفال الذين بأصوات الأبواق الشنيعة يعرجون إلى السماء! رأى هذا كلّه مرّة أخرى، وإنّما بطريقة منوّعة ومزيّنة، وبألوان أكثـر كثافة أو أكثر تبخّرًا. أعاد رؤية عالم طفولته كلّه، ولكنْ، مع الثـراء الذي يضيفه الآن عقل مثقّف وحادّ ومتعوّد على استخراج أكبر ملذّاته من الوحدة والذكريات.”

وعمومًا، إذا أردنا بنيويًّا أن نرصدَ المكوّنات المنهجيّة التي وجّهت الوعي البودليريّ النقديّ في مجمل هذا الكتاب، يمكن القول إنّها قامت على ثلاث عناصر أساسيّة:

العنصرُ الأوّل غالبًا ما يكون فكرة أو فرضيّة نظريّة سابقة أو لاحقة للمجهود البحثيّ الكبيـر والقراءات التي قام بها، مثل أصل الحشيش وطبيعته الكيميائيّة وممكناته التأثيريّة، أو الفرق التّخيّليّ الذي قد يُحدِثهُ مقارنة مع الأفيون.

أمّا الثاني، فيكون مثالًا تجريبيًّا، ينقلهُ بودلير إلى القارئ من تجربته الحيّة وملاحظاته المباشرة سواء تعلّق الأمر بالتجارب التي عاشها واستمع إليها في محيطه الأدبي والاجتماعيّ، أو بتلك التي اطلّع عليها في كُتُب مختلفة كلاسيكيّة ومعاصرة لهُ، واختار منها التركيز على أحد أهمّ نماذجها (دي كوينسي). وفي هذا المستوى، يخفتُ صوت بودلير لصالح أصوات المتكلّمين معهُ. لكنّهُ سيظلّ خفوتًا مقصودًا، بعَدِّ أنّهم سيتكلّمون على لسانه، وبالتالي سيخضعون إلى اختياراته المعجميّة والفكريّة التي سيحدّدها وعيه الحادّ بموضوع كتابته وملابساته.

وأمّا الثالث، فيكون تعليقًا إبداعيًّا أو فكريًّا، يكون فيه صوت بودلير الشاعر والمفكّر واضـحًا، وهنا، يمكن للقارئ على امتداد الكتاب أن يجدَ بعض المنابع الأسلوبيّة والتجريبيّة التي ستحدّد بعض ملامح الرؤية الشِّعْرِيّة البودليريّة اللاحقة، والتي ستجدُ صيغها النهائيّة في كتابه الشِّعْرِيّ الشهير: سأمُ باريس: قصائد صغيرة في النثر.

 

لقد مثّل الحشيش والأفيون ومختلف الموادّ المخدّرة، موضوع كتابة وبحث علميّ في الحداثة الغربيّة، خاصّة مع تطوّر العلوم الطبيعيّة والإنسانيّة التي قلّصت من وطأة النزعة الأخلاقويّة التي وسمت أغلب الأعمال المقاربة لهذا الموضوع. ولئن حفلت المكتبة الإنسانيّة بكتابات كثيـرة تتحدّث عن ملامح مجتمعات الحشيش السّرّيّة أو تربط استعمالات هذا المخدّر بالكتابة الفلسفيّة والإبداعيّة مِثل مؤلَّف الكاتب الألماني بنيامين فالتر: عن الحشيش Über Haschisch (1972) الذي يشير إلى كتاب بودلير في أكثر من موضع؛ يظلّ “الفراديسُ المُصطنعة” نصًّا تأسيسيًّا، لا غنى عنهُ للراغبين كلهم في مقاربة هذا الموضوع سواء تعلّق الأمر بما هو علميّ، من جهة الملاحظات الوصفيّة الدقيقة التي يقدّمها بودلير؛ أو بما هو إبداعيّ، فيما يرتبطُ بالشكل الذي يكون عليه الوعي الإبداعيّ في ضوء الاستعمالات المختلفة لهذه الموادّ المخدّرة.

بقي أن نشير هنا، إلى أهمّيّة الوقت الذي قضيّناهُ متأمّلين عنوان هذا الكتاب المُشكل (Les paradis artificiels) لنستقرّ في النهاية على ترجمته الحاليّة “الفراديسُ المُصطنعة”، ويعود هذا القلقُ المعجميّ الذي أبديناهُ إزاء العنوان إلى تعدّد المدلولات التي دلّ عليها بودلير في كتابه بمفردة Artificiel الفرنسيّة، فتارة يعني بها المُبتكَر، وتارة يعني بها الوهميّ أو الموهوم، وأخرى يربطها بالاصطناعيّ أو المُصطنع، وقد ارتأينا، مجتهدين، الحفاظ على النعت “المُصطنعة” في العنوان، وفي أغلب مواضع الكتاب، والتّصرّف في بقيّة المواضع في ترجمة Artificiel داخل ممكنات معجميّة أخرى حسب ما يقتضيه السياق.

إلى جانب ذلك، كان من الضروريّ أيضًا، ونحنُ نتـرجم هذا الكتاب، أن نعود إلى النسـخة الإنجليزيّة من مؤلّف توماس دي كوينسي Confessions of an English Opium Eater، معدّلين في بعض المواضع التي ارتأينا أفضليّة أن نُترجمها مباشرة عن الأصل أحيانًا، ومعتمدين على عبقريّة بودلير في إعادة كتابتها وتحويرها في السياق الفرنسيّ أحيانًا أخرى.

لم يبقَ الآن سوى أن أنسحبَ، وأتركَ المجال للقارئ ولبودلير وهو ينبّهه:

“يجب على النّاس وعلى الجَهَلَة الذين لديهم فضول التّعرّف على ملذّات استثنائيّة، أن يعرفوا أنّهم لن يجدوا في الحشيش أيّ شيء خارق، أيّ شيء مطلقًا سوى الطبيعة في صيغتها المضاعفة والمفرطة. لقد تجهّزت الآن بما يكفي لرحلة طويلة ومميّـزة. دقّ الجرسُ، واتّخذَ الشراعُ وجهتَهُ، بينما لديكَ مقارنة ببقيّة المسافرين امتيـاز أنّكَ لا تعـرف إلى أينَ تذهب.”

ناظم بن إبراهيم