90 ثانية وثانية
العدد 247 | 06 أيلول 2019
محمود عبد الدايم


 

 قصص قصيرة جدًا

 

الأحمرُ شديدُ الدمويّة الذي تفجَّر من دائرة إشارة المرور تمكَّن باحتياليّة من إنهاء سيطرة الليل الأسود على المكان، انعكست دمويته على الجميع.. ملابس باهتة.. ألوانُها كأصحابِها غير متزنة.. أجسادٌ متعبةٌ انهارتْ في الدقائق الماضية بجوار سور دار الأوبرا، أو وجوه منهكة تمرُّ في الجوار دونَ حتّى أن تُبادلَ تحيَّةً تُشير إلى أن أصحابَها لا يزالون على قيد الحياة.. سيارة غاضبة تتأهب بتحفز -لا يُمكن تجاهلُه-  للقفز على الأسفلت لحظة الوصول إلى الإشارة الخضراء.. وساعة تعلو زجاجها طبقات تراب منحتْ المشهدَ كآبة صافية.. وعقارب تتأرجح سرعتها بين البطء الشديد والسرعة القصوى في طريقها لاغتيال الدقيقة قبل الأخيرة من الساعة الأخيرة.. مُعلنةً بداية عصر «الواحدة صباحًا».. بينما يحملُ الهواء صوتَ أم كلثوم.

10 ثوان..

«وصفولي الصبر لقيته خيال.. وكلام في الحب.. كلام في الحب.. يدوب.. يدوب يتقال».

20 ثانية

«أكيد ماما هترجع.. مش ممكن تكون نسيتني هنا وروحت».. همست بها الطفلة التي اتكأت بظهرها على سور كوبري الجلاء الحديدي.. بصعوبة -لم تخلُ من خجلٍ- تركت أقدامها الصغيرة تغادر صدرها بعدما ضمتها لساعات ست في انتظار عودةِ أمّها.. فردتْ قدميها.

انعكس الأحمر الدموي على حذائها الأبيض.. للحظة أوجعتْها نغزات «التنميل».. انتابتها موجةُ رعبٍ هائلة بعدما تلطَّخَ أبيض حذائِها بالأحمر الدموي.. لا تَعرفُ كيفَ تتصرف.. والدتُها لم تُخبرْها يومًا ماذا تفعل عندما تتركها وحيدةً.. وهيَ الّتي لم تتركْها طوالَ السنواتِ السبعِ الماضية.. فعلتْها الآن.. منحتْها ثلاثَ بالّونات.. صفراء، وحمراء، وخضراء، وضعت في كفَّيْها خمسَ قطع حلوى.. وطلبت منها بحزم انتظارها حتى تعود.. مرَّتْ ساعات ست ولم ترجع الأم.. لم تأكل الطفلة قطعَ الحلوى.. والبالونات اختطفتها منها فتاة عابرة.. أخذتها.. ولم تشكرْها حتى!

             …

«عيني.. ع العاشقين.. حيارى مظلومين»

30 ثانية..

في الجهة المقابلة جلس وحيدًا.. ينقل نظراته بين الإشارة الإلكترونية الوقحة.. والورود القليلة الّتي يحتضنها بأيدٍ لم يشأ أن يخفي ارتعاشاتها وهو الذي لم يقفز بعد حاجز  التاسعة والأربعين من العمر، اللون الأحمر الوقح تمرَّدَ على زهوره البيضاء، احتلَّ مساحة البياض التي تمتع «بوكيه الورد» منذ ثوانٍ عدة.. وعادَ اللون الكئيب.. الحزين، ليرفع رايته الملطخة بدماء ضحاياه فوق جثة الأبيض منعكسًا على وجه الرجل الذي يمسك بالورود.. تحديدًا نصف وجهه.. فالنصف الآخر كان غارقًا في الحزن.. الظلمة.. الأسود الكامل.. ما جعلها فرصة لتنحدر دموع متمهلة دون أن يلحظها أحد.. وكالعادة.. لم يلحظه – لم يلحظها- أحد.

«ع الصبر مش قادرين..»

40 ثانية..

لا يحب التوقف كثيرًا في أي مكان.. حاول تحريك الصمت المطبق على المكان بنقرات غاضبة على آلة التنبيه.. بغضب يماثل غضبه، غير أنه لا يتفوَّقُ عليه، خرج الصوت.. لثوانٍ شقَّ جدارَ  السكوت المسيطر على المكان.. لكنَّه – دون أية مقدمات- أصيب بالخرس.. إلى حين!

..

« مقدرتش أصبر يوم على بُعده.. ده الصبر عايز.. صبر لوحده».

..

50 ثانية..

في منتصف الكوبري تحديدًا.. وقف.. لم يُحرّك نظره عن الماء.. حواسه اجتمعت في نقطة المنتصف.. دققَ النظرَ في الدوَّامات الصغيرة التي وُلِدت من رحم موجات المياه المندفعة من تحت الكوبري.. أصغى جيدًا إلى الصوت.. سمعَ من يناديه من هناك (تعال.. ).. تأكد أن مفعول حبة المهدئ بدأ.. دقّات قلبه قطعت تأمله.. عنيفة جدًا.. ظن أن قلبه سيشق صدره ويخرج راكضًا على الأسفلت.. لا إراديًّا أمسك به.. اعتصره.. وهمس «اثبت.. تعاهدنا على البقاء سويًّا حتى النهاية»!.

«فين دموع عيني اللي ما نامت ليالي.. بابتسامة من عيونه نسّهالي»

60 ثانية..

كعادته.. وكما اعتاد الناس وجوده في المكان.. متكئًا على ذراعه اليمنى.. يداعب قطة تشاركه مساحته التي اقتطعها من الرصيف.. يلاعبها بدوائر الدخان المُحكمة التي يصنعها بفمه.. يبتسم والقطة تقفز عاليًا لتقتل دائرته الدخانية المكتملة.. يضحك عندما تسقط في النهاية متعبة.. يغمز لها بعينه اليمنى وهو يمنحها نصفَ نصفِ الرغيفِ الذي ربحَه منذ دقائق في معركته الدائمة مع «صندوق الزبالة».

لا يعرفُ أحدٌ متى أعلنَ المتشردُ الهادئ عن وجوده في المكان.. كان حضوره مفاجئًا مثل غيابه الذي لم يَقْللْ يومًا في حضوره.. فارغًا.. كئيبًا كان يترك مكانه لأيام طويلة.. وفي كل مرة كانت ترحَلُ قطتُه معه.. ويعود المكان نظيفًا.. ومملًّا!

«أمرّ عذاب.. وأحلَى عذاب.. عذاب الحب.. عذاب الحب.. للأحباب»

70 ثانية..

من الوهلة الأولى ستظنها تائهة.. ليل القاهرة على الدوام ممتلء بالتائهين.. حركات رأسها السريعة يمينًا ويسارًا جعلتني أجزم أنها تائهة.. غير أن مهارتها في التلفّت.. التلصّص.. التمهّل في إلقاء النظرة جعلتني أشكُّ في نظريتي حول «توهان العاصمة».. الأسود الذي ترتديه عاديًّا.. قدرتُ عمرها بما فوق الأربعين بسنوات ثلاث أو أربع.. عادي أن ترتدي امرأة الأسود في هذا السن.. وجهها لم يكن يوحي بشيء.. لا قلق.. لا غرور.. لا خوف.. لا ثقة.. محايدٌ.. شبيهٌ بالوجوه التي أصطدم بها كل صباح.. متطابقٌ إلى حد كبير مع وجهي.. وإن كنت لا أنظر كثيرًا إليه..!

..

«وملينا الدنيا أمل»

80 ثانية..

اعتاد في ساعات الخدمة الأخيرة اللجوء إلى الشجرة الكبيرة التي تُخفي «كشك المرور».. لم يكن مسموحًا له أن تطأ «بيادته» أرض الكشك «ده لسيادة اللواء والبيه الظابط».. لم تغادر أذنيْه الجملةُ هذه طوال سنوات خدمته الثلاث حارسًا لإشارة المرور.. ولم تطأ «بيادته» الأرضية الخشبية للكشك المُكيّف إلا لإدخال الشاي أو إعادة مفتاح سيارة «البيه الظابط» بعدما تكفل بمسحها جيدًا وركنها فوق الرصيف تحت ظلال الشجرة الكبيرة طوال الساعات الثلاث التي يقضيها صاحبها مختفيًا في الكشك.

في العاشرة يختفي «البيه الظابط» فـ«سيادة اللواء» لا يمرُّ من هنا بعد التاسعة.. لم يحدث يومًا وأن مرَّ.. كان يُمني نفسه بمروره بعد العاشرة.. وثق الشكوى التي سيقولها له عن سوء معاملة «البيه الظابط» له.. عن حرمانه من الدخول إلى «الكشك المُكيف» بعدما يرحل.. عن «المهمات العائلية» التي لو علم أحد بتفاصيلها في بلدته البعيدة لقتلوه بعد تعليقه على عمود الإنارة الوحيد المضيء هناك.. كان سيروي له الحقيقة كاملةً.. لكنَّ مرورَ «سيادة اللواء» تأخّر كثيرًا.. وفي كل ليلة يبتلع شكواه مع آخر رشفة من كوب الشاي محتضنًا جذع الشجرة الكبيرة.

«ده.. الصبر.. عايز صبر لوحده»

90 ثانية..

تحرّك من موضعه بحماس واضح.. مسرعًا أعاد تركيب قدمه الخشبية.. تأكَّد من ثباتها وظهورها للعيان.. مررَ إصبعه الأوسط على لسانه.. بالتساوي قسّم لعابه على عينيه فصار يمتلك دموعًا.. أزاح ابتسامة ساخرة ترقد على وجهه طوال اللحظات التي يقتنصها للاستراحة.. ثبت مكانها نظرة انكسار يتقن تمامًا جعلها نظرة صادقة.. وبيدٍ مرتجفة.. واهنة.. متعبة.. نقر على الشباك الزجاجي.. أحنى ظهره.. وانتظر!

..

«ما بين بعاد وخصام»

91 ثانية..

برودة منتصف الليل دفعتها لاحتضان قدميها.. تكوّرت حول نفسها.. تركت دمعة تنساب على خدها الأيمن.. ارتخت أصابعها على قطع الحلوى.. وحملتها سحابة النوم إلى البيت.. إلى الأم.. إلى الوهم.

..

تزحزح بتعب من مكانه.. منحَ رأسَه نصف دورة في المكان.. تمتم «موعدنا كان في الخامسة.. ولم تأتِ.. انتظرتُها.. ولم تأتِ.. حملتُ لها الوردَ ولم تأتِ.. أعرف أنها ماتت منذ سنواتٍ سبعٍ.. لكنّها ستأتي».. برفق وضعَ بوكيه الورد إلى جواره.. وتحرَّكَ مسرعًا حتى لا يتأخرَ عن موعده معها كل ليلة في الشرفة.. موعد الذكريات.

..

ضغطَ بحقدٍ مكتملٍ على دوّاسة البنزين.. الصوت أنهى لحظات استراحة الطيور النائمة على أغصان الشجرة الكبيرة.. ارتعش العسكري منهيًا حديثه الذي لم يحدث مع «سيادة اللواء».. وانطلق في الثانية الخضراء الأولى.

كان شجاعًا هذه المرة.. قفز إلى الماء.. لم يصرخ.. ضحك كثيرًا طوال لحظات طيرانه.. قبل أن تبتلعه واحدة من الدوامات الصغيرة الهاربة من تحت الكوبري.. واختفى.

..

اضطربت القطة من صوت السيارة الغاضب.. تراجعتْ ثلاثَ خطواتٍ إلى الوراء.. رفعَ رأسَه.. لمح سحابة دخان كبيرة تغادر مؤخرة السيارة.. ألقى نصفَ نصفِ رغيفِ الخبز.. شتمَ السائقَ.. العالمَ.. ابتسمَ.. وعاد ليتكئ على ذراعِه اليُمنى في هدوء!

..

توقفت السيارة الغاضبة أمامها.. الباب الأيمن أمامها مشرعًا.. تبادلت النظرات معه.. اتفقَا على سعر الليلة.. أخبرتْه «هيّ ساعة.. ورايا شُغل».. مرَّرَتْها إليه في نعومة وهي تضعُ يدَها اليسرى بين ساقيه وتُطلقُ ضحكةً قتلها صوت انطلاق السيارة مجددًا!

..

««تلاقي أمك جايبهالك».. تمتمَ بها «العسكري» بعدما أيقظه صوت السيارة.. وعاد لاحتضان شجرته الكبيرة.. واستكمال حديث الشكوى لـ«سيادة اللواء».

..

ارتطمت ساقه الخشبية بمؤخرة السيارة.. طارت في الهواء.. تابعها ترتفع.. ترتفع.. واختفت.. للحظات ظن السماء أخذتها بلا رجعة.. غير أنَّ صوت ارتطام الخشب بالمياه أكدَ له أنها ترقد الآن إلى جوار ساقه السليمة التي فقدها في المكان نفسه من سنوات سبع.. فسقط على الأسفلت ميتًا!

*****

خاص بأوكسجين


كاتب وصحافي من مصر.