«مسكون»: أن تخسر نعمة الرجوع إلى المنزل
العدد 176 | 22 آب 2015
بهيج وردة


مع كثرة الحكايات السريالية التي سمعتها لواء يازجي عن قصص السوريين مع بيوتهم وغرابتها، صارت الفكرة أكثر وضوحاً في رأسها وترجمتها في فيلمها الوثائقي «مسكون» (2014)، الذي جال على عدد من المهرجانات العربية والدولية، ولا يزال. 

علاقة السوريين مع بيوتهم في ظل الدمار والخراب المحيط هو الموضوع. الأسئلة المفروضة على الخارجين من بيوتهم من قبيل: ماذا نأخذ معنا قبل الخروج؟ أو بالأحرى ماذا نترك؟ أي الذكريات تصلح لترافقك خارج المنزل؟ وأيها يمكنك التضحية به؟ ربما لا تعود إلى المنزل، وربما لا يعود هناك منزل، وربما يسكنه أحدهم (مضطراً)، ويشاركك حياتك. 

كل هذه الأسئلة كانت محورية في فيلم تناول الثيمة المركزية للعلاقة بين الإنسان والمكان، ألا وهي البيت. إحدى شخصيات الفيلم التسع تقول: “لقد حرمنا من نعمة الرجوع إلى المنزل”، في انزياح يحيلك إلى الوطن، والعلاقة الجدلية بين البيت والوطن.

 

الخطة ب

وقت الحرب تصبح كل الأسئلة مسموحة، وكل التصرفات مبررة للبقاء على قيد الحياة. التساؤل عن خطط بديلة في حال اضطررت لمغادرة منزلك تحت وطأة أي ظرف صارت ضرورة. كثير من السوريين يتحدثون عن الخطة «ب»، والتي تتعلق بكيفية خروجهم (المنظم) من المنزل رفقة الأغراض الضرورية. الحقيبة التي تضم كل الوثائق والأوراق المهمة التي تتعلق بالهوية وإثبات الملكية وكل الأوراق الضرورية جمعت في حقيبة لتكون في المتناول وقت الضرورة، إضافةً إلى القليل من الملابس وبعض ما خف حمله وغلا ثمنه. ليس من الضروري أن هذا ما يحصل في كل الحالات فربما لا يتاح لك رفاهية الحديث عما سبق، وربما تخرج صفر اليدين بعيداً عن البيت (الأمان).

 

حقيبة النزوح

اختارت لواء تسعة سوريين كعينة تمثيلية للحديث عن رحلة النزوح داخل سوريا، أو اللجوء خارجها، ورافقتهم في تفاصيل الحياة اليومية التي تبدو للوهلة الأولى رتيبةً وغير مهمة في حال كان الظرف مختلفاً عن حالة “الخراب” التي يعيشونها، لكنها اكتست بقيمة مضافة في الوقت الذي تصبح فيه المحافظة على الحياة أولوية. 

بعض السوريين تشاهده مجهداً للحفاظ على حياته من أجل رمي القمامة بعيداً عن نيران قناص يتمركز في مكان خفي، فيما تشاهد الصناديق الموضبة لأحدهم، وهو يشرح موجوداتها لك (للكاميرا) ويدون هذه الكلمات على أوراق، لعله يسهل المهمة على القادم إلى المنزل ليترك ما ليس له قيمة إلا لصاحبه، ويكتفي بما له قيمة. المفارقة أن الشخصية تدون بأمانة كل الموجودات، لكنه يفكر باستخدامها ساتراً في حال أصاب الرصاص المنزل، فيما يضحك وهو يضع احتمال نزول هاون، حيث لا ينفع أي ساتر!.

المكتبة واحدة من أهم المتروكات في البيوت، حيث يحول الوزن الكبير للكتب دون اصطحابها في حالة الخروج السريع أو الممنهج، كحال ابن الجولان الذي رفض لوقت طويل الهوية الإسرائيلية، لكنه مع اندلاع الرصاص المتزايد يوضب أغراضه، ويقرر الخروج، إلا أن ما يؤرقه هو المكتبة وكيف سترافقه الكتب التي شكلت معرفته بوزنها الكبير. آخر يطمئن على تذكارات والدته التي ورثتها عن عائلتها، فيما يتعامل آخر بلا مبالاة مع كل ما سبق مؤثراً السلامة.

 

رهان الوقت

على مدى 117 دقيقة ترافقك الحيرة والخراب والضحكات والسخرية من الموت في مزيج غريب، إلا أن المخرجة تحيل طول الفترة الزمنية (والتي قد تبدو طويلة على فيلم وثائقي) إلى رغبة عاطفية بالحفاظ على الناس في بيوتهم حيث أمانهم القلق، لذا تشرح هذا بالقول: “أعرف أني أراهن على مدة زمنية طويلة نسبياً، وأدرك تماماً أن هذا الخيار قد يجعلني أخسر بعض المشاهدين، إلا أنني لم أكتف بفترة التصوير مع أبطالي إنما عشت معهم قبل وبعد التصوير وتعرضت للخطر معهم، لذا أنحاز إليهم عاطفياً، ولربما وددت أن أترك هؤلاء الناس في بيتهم أطول وقت ممكن، وهو ما قمت به في الفيلم”، إلا أنها تعود إلى اللغة السينمائية لتوضح: “أنا لم أقدم ريبورتاجاً. أنا أقول كم هو مرهق أن نعيش في هذا الظرف. أعلم أنه متعب أن تعيش معي هذه التجربة، وكان من الممكن أن أضع حلولاً فنية مختلفة، لكني في بعض الأحيان أمضي معهم في زمن صمت وحيرة، وبرأيي الإيقاع السريع للتلفزيون استهلك المشكلة السورية”.


كاتب وصحافي من سورية مقيم في كندا.