“ديبان”.. رامبو نمور التاميل
العدد 190 | 08 أيار 2016
زياد عبدالله


المهاجر أولاً ثم يأتي العرق والدين على يمينه ويساره، وهكذا نكون حيال شخصية أودياريه بامتياز نسبة إلى المخرج الفرنسي جاك أوديار الذي سأتناول هنا فيلمه الأخير Dheepan “ديبان” (سعفة كان الذهبية 2015)، حيث المهاجر يصبح لاجئاً، وليضع هذا اللاجئ رحاله في مجتمع مهاجرين في الضواحي الباريسية حيث تتسيد الجريمة وتجارة المخدرات كما يظهر لنا الفيلم، وإن كان للمهاجر أو الفرنسي من أصول عربية أن يصير نبياً في فيلمه “نبي” 2009 الذي عُرف به، فإن ديبان سيمسي بطلاً خارقاً أو رامبو آتٍ من “نمور التاميل”.

لا تستدعي مقاربة “ديبان” المرور على “صدأ وعظم” 2012  وصولاً إلى “اقرأ شفتي” 2001 وغيرهما من أفلام أوديار، فما يستدعيه “ديبان” كامن في “نبي” – مع انحيازي لهذا الأخير إن كان من مقارنة بينهما – ليس لأن البيئة متشابهة فقط، بل لأنه ومجددا يؤسس فيلمه على شخصية رئيسة لمصيرها ومنعطفاتها وتغيراتها أن تشكّل بؤرة الفيلم الدرامية الأساسية، لا بل إن مالك في “نبي” هو الفرنسي ذو الأصول العربية الذي يصعد سلّم عصابات المخدرات وهو في السجن حيث يكون مسحوقاً وأمياً وهامشياً ليمسي زعيماً ومتحكما في مفاصل الأمور، لكن عبر بناء استثنائي للشخصية ودوافعها ومتغيراتها المنحوتة والمصاغة بحنكة، فهي لا تتغير وتنتقل من مستوى إلى آخر إلا وقد مهد لذلك عميقاً على صعيد شخصية مالك أو ما يحيط به من ظروف ومتغيرات، بينما يكون على ديبان أن يكون تحت رحمة من هم مثل مالك بوصفه لاجئاً حط رحاله في محيط من الفرنسيين ذوي الأصول العربية، أي اللاجئ والمهاجر وجهاً لوجه ، مع تداخل المسميين في أيامنا هذه، ولتأتي تحولات ديبان في النهاية على شيء من المفاجأة غير السارة، لها أن تكون مقحمة ومفتعلة، كما لو أنها نوبات حنين مفاجئة ألمت بأوديار للأكشن المدهش الذي حمله “نبي”.

يبدأ “ديبان” من سيرلانكا، خمس أو ست لقطات مدهشة تلخص الحكاية هناك، ديبان يبدّل ثيابه العسكرية بأخرى مدنية بعد أن تم إحراق جثث مقاتلين جثثهم مكدسة فوق بعضها البعض، فهو كما سنعرف ينتمي لفصيل “نمور التاميل”، وامرأة تبحث في مخيم للاجئين عن ابن أو ابنة فقد والديها، ولنكتشف أن ديبان في طريقه للجوء إلى فرنسا لكن عليه أن يكون لديه زوجة وابنة غير زوجته وأبنائه الذين قضوا في الحرب، وكل ذلك يجب تلفيقه، إذ إنه يمضي إلى فرنسا ومعه امرأة اسمها ياليني لا يعرفها لكنها أصبحت زوجته وابنة هي ايليال لا يعرفها لا هو ولا المرأة التي أمست زوجته من حيث لا يدري.

سينالون ثلاثتهم اللجوء في فرنسا، وسيدفعون ثلاثتهم وإن بدرجات متفاوتة لأن يلعب كل منهم دوره أبا وأما وابنة، الأمر الذي سيتجسد واقعاً مع تخطي صعاب وأشياء كثيرة تعصف بهم في بلد لا يعرفون لغته، ولتكون البنت أول من تتعلمها، وتحديدا حين يكون سكنهم في حي من أحياء الضواحي الباريسية، بحيث يمسي نشدانهم الأمان في بلد المنفى أمراً لا يقل خطورة من حيث آتوا، كما لو أنهم انتقلوا من حرب أهلية إلى حرب عصابات المخدرات والجريمة المنظمة وكل من في الحي من أصول عربية.

الصراع الأساس في “ديبان” له أن يتجسد بإمكانية أن يكون بلد اللجوء أشد خطورة من البلد الأصلي الذي تمزقه الحرب، وبكلمات أخرى فإن الانتقال يمكن أن يكون من جحيم إلى آخر، مع الحب الذي ينشأ بين ديبان وياليني، ومشاعر الأبوة التي سيحملها اتجاه ايليال، وما تشهده هذه العلاقات من مد وجزر.

لا يريد ديبان أن يتكرر في فرنسا المصير المأساوي الذي حلّ بعائلته في سريلانكا، وتبدو سريلانكا غائبة تماما عنه وياليني وايليال، لا يأتي ذكرها أبداً، وإفي المرة الوحيد التي يحتك فيها ديبان مع مواطنيه فإنه سيلتقي قائده السابق في “نمور التاميل” الذي يقول له بأن عليهم أن يستجمعوا أنفسهم ويواصلوا القتال، وحين يرفض فإنه ينهال عليه بالضرب، ولا أعرف إن كان ذلك كفيلاً بأن يمهد للمشاهد ما سيقوم به ديبان بعد ذلك في مواجهة عصابات المخدرات في سعيه لإنقاذ ياليني التي تعلق في بيت إبراهيم الذي يجري اغتياله، والمعركة التي تتبع ذلك.

الممثلون في فيلم أوديار يظهرون أمام الكاميرا للمرة الأولى، ويقال إن من جسد شخصية ديبان هو نفسه كان مقاتلاً في نمور التاميل، وللفرنسية أن تكون لغة شبه غائبة عن الفيلم في ظل هيمنة التاميلة، على شيء من الرهان على ذلك في صياغة فيلم يتخذ من الواقع معبراً نحو “الاكزوتيك” وصولاً إلى الافتراضي الذي يقود إلى حلول درامية تلحق بالواقع ضربات أليمة خاصة حين تكون النهاية مغلقة بوصفها حلاً فردياً ملفقاً للشخصية، ونحن نتابع يومياً مصائر اللاجئين وهم يتنائرون في أصقاع العالم، غير قادرين على رفع اصبع أمام بندقية حارس حدود.


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.