“حفلة التفاهة”..التفاهة جوهر الوجود
العدد 171 | 19 نيسان 2015
زياد عبدالله


وصلتني دعوة ميلان كونديرا إلى “حفلة التفاهة”، لقد مضى زمن طويل لم أقرأ له، وقد أتت هذه الدعوة وأنا غارق بكتاب معلم كونديرا ألا وهو فرانسوا رابليه وروايته العجيبة “غارغنتوا وبنتاغرويل”، وقد كان آخر ما قرأته لكونديرا مسرحية “جاك وسيده” وهي مسرحة لرواية ديدرو الشهيرة “جاك المؤمن بالقدر”، المعلم الآخر لكونديرا، والرواية التي قرأتها قبل “غارغنتوا وبنتاغرويل”.

حسناً، لم يكن من مجال لمقاومة غواية هكذا بداية وأنا أمضي نحو تقديم قراءة لرواية كونديرا الأخيرة “حفلة التفاهة” (الصادرة عن المركز الثقافي العربي بترجمة معن عاقل)، لكنها وإن بدت هذه المقدمة شخصية على نحو فاقع، إلا أنها تحتكم على مجموعة من المصادفات تتوافر دائماً للمهوسين بالقراءة، أو أولئك الذين تتوالد قراءة الكتب لديهم من بعضها بعضاً إما في سياق تاريخي أو تسلسل نقدي، وهكذا فإن  قراءتي رابليه معبر أساسي ربما لمقاربة جديد كونديرا وكل منجزه الروائي، وهو يعتبر ديدرو حاملاً لرابليه إلى القرن الثامن عشر، كما لا يخفى لكل قارئ حصيف لكونديرا.

تتضمن وليمة كونديرا في “حفلة التفاهة”على أصناف متقشفة من أدواته، وهي أقرب لـ “النوفيلا” وهي لا تتجاوز الـ 110 صفحات في العربية، وهي تسعى إلى أن تكون الوليمة الروائية متأسسة على التفاهة أصلاً، ولعل الإيمان بأن هذا العالم تسوده التفاهة وتتحكم به أمر فيه الكثير من الحقيقة، ما لم يكن الحقيقة بعينها، فحقوق الإنسان ليست إلا طرفة “الحقوق التي يمكن أن يحصل عليها إنسان لا تتعلق إلا بتفاهات” أو كما يقول في مقطع آخر من الفصل الأخير من الرواية: “التفاهة يا صديقي هي جوهر الوجود. إنها معنا على الدوام وفي كل مكان. إنها حاضرة حتى في المكان الذي لا يرغب أحد برؤيتها فيه: في الفظائع، في المعارك الدامية، في أسوأ المصائب. وهذا غالباً ما يتطلب شجاعة للتعرف عليها في ظروف دراماتكية للغاية ولتسميتها باسمها، لكن ليس المقصود التعرف عليها فقط، إنما يجب أن نحبها، التفاهة، يجب أن نتعلم حبها”.

لا تستدعي الحكايات المتأسسة على فكرة التفاهة إدانة لهذه التفاهة، أو تقول لنا مثلاً إن على الإنسان أن يكون جاداً وصارماً وملتزماً وكل ما هو عكس التفاهة، بل على العكس تماماً، وإن كان لنا توصيف بنية الكتاب فهي تأخذ ما يمكن اعتباره تافهاً معبراً إلى أفكار كبيرة، فالرواية أولاً كما معظم أعمال كونديرا متأسسة على الأفكار، وهكذا فإن بداية الرواية بآلان مراقباً للفتيات الشابات “اللاتي يظهرن سررهن العارية بين بنطال واطئ وقميص قصير” سيقود إلى قصته كاملة وقد تركته أمه طفلاً، ولم يلتقيها إلا مرة واحدة قامت فيها بوضع اصبعها في سرته، الأمر الذي سيتطور في النهاية ليصل إلى أن “السرة” أمر لا يخص المرأة بل هو خاص بالجنين، وبالتالي فإن تشويهاً للإيروتيكية قد حدث من خلال التركيز على السرة “ثمة شكل مختلف للفخذين والردفين والنهدينعن كل امرأة . هذه الأماكن الذهبية الثلاثة ليست مثيرة فحسب، إنما تعبّر في الوقت ذاته عن فردية المرأة . لا يمكن أن تخطئ أرداف المرأة التي تحبها. ستتعرف على الأرداف المحبوبة من بين مئات الأرداف الأخرى، لكنك لن تستطيع تحديد هوية من تحب من سرتها، فجميع السرات متشابهة”.

يوضح ما تقدّم الآلية المتبعة في الرواية، ولعل هذا المسار هو الأوضح، ولتأتي حكاية ستالين  “أربعة وعشرون طيراً من الحجل” مثالاً ثانياً على ذلك، والتي تقول إن ستالين ذهب إلى الصيد وشاهد أمامه أربعة وعشرون طيراً من الحجل جاثمة “لكن يا لسوء الحظ! لم يأخذ معه إلا اثنتي عشرة طلقة! يطلق النار عليها، فيقتل منها اثني عشر طيراً، ثم يعود ويجتاز من جديد ثلاثة عشر كيلو متراً نحو منزله ويأخذ مجدداً اثنتي عشرة طلقة ويجتاز مرة أخرى الثلاثة عشر كيلو متراً ليجد نفسه أمام طيور الحجل لم تزل جاثمة على الغصن ذاته. فيطلق النار عليها وها هي جميعاً أخيراً…”

هذه الحكاية التي يرويها خرتشوف عن ستالين، ستشكل لغزاً بالنسبة للأول وللمعاونين الآخرين، وحين يحكيها لهم لن يعرفوا ما هو رد الفعل المناسب الذي عليهم اتخاذه، إلا أن ملاذهم في التعبير عن سخطهم واستيائهم من روايته هكذا قصة سيكون في الحمام المخصص لهم، حيث لكل واحد مبولته الخاصة، بينما حمام ستالين منفصل عنه وخاص به وحده، ويبدو أنهم كما سيرد في الرواية سينسون أن هناك شيء اسمه الفكاهة والتندر، وستالين  جراء جلوسه الطويل وحيداً يجد متنفسه في هكذا حكايا، كما هو الحال بالنسبة لعلاقته مع رئيس مجلس السوفيت الأعلى كالينين كثير التبول، وقد أطلق ستالين اسمه على المدينة البروسية “كوينغسبرك” فأصبحت بعد الحرب العاليمة الثانية “كالينينغراد”، كالينين الذي – كما تورد الرواية – يعاني من تورم في البروستات يجبره على التبول في أغلب الأحيان.

طبعاً هناك قصص أخرى كثيرة، ولها أن تلتقي على التفاهة، ولعل هذه التفاهة تشكّل الجانب المجهول من شخصية بحجم ستالين، والذي لن يتركه كونديرا من دون أن يخرجه من ايمانه بحركة التاريخي (كما يفترض) ليجعل منه “شوبنهاوري” (نسبة إلى شوبنهاور) وهو يقوّله “فكرة شوبنهاور العظيمة أيها الرفاق، هي أن العالم ليس إلا تصوراً وإرادة. هذا يعني أنه ليس ثمة وراء العالم كما نراه أي شيء موضوعي، ولا (الشيء بذاته كما يقول كانط) وانه لإيجاد هذا التصور وجعله واقعياً، لابد أن تمتلك إرادة فيه، إرادة عظيمة لفرضها عليه”.

بالعودة بما بدأت به مع رابليه في بداية هذه القراءة فإنني سأستعين أيضاً بباختين وقراءته رابليه في سياق الكرنفال الذي يعتبره “حياة الشعب الثانية التي تتأسس على مبدأ الضحك” وكونديرا في هذه الرواية يؤسس على مبدأ التفاهة حياة ثانية للشخصيات، وإن شئتم للبشرية جمعاء، التي لها كما الضحك عند رابليه أن تشكّل جوهرا إنسانياً أصيلاً، لكن بنزق يجعل من القصص مكتوبة باقتصاد ونزق ليس لمن وصل الخامسة والثمانين إلا أن يتحلى به.

اسم الكتاب

اسم الكاتب


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.