حبيبتي ولوركا
العدد 268 | 05 كانون الأول 2021
زياد عبدالله


استوقفها محل للثياب الرجالية من المستحيل أن أكون قصدته يوماً، كله بذَّات رسمية وربطات عنق، وأحذية من تلك اللامعة المدببة. سألتني:

“تتذكر ما الذي كان عليه بالماضي؟”

لم تنتظر إجابتي، فهي تعرف أنني لن أتذكر:

“كان محل إكسسوارات. أهديتني منه قرطاً ولا أجمل”.

حاولت أن أتذكر، لكن عبثاً.

“أضعت واحداً منهما، وما زلت أحتفظ بالثاني!”

أذناها صغيرتان “كيف تتسع لكل هذه الموسيقى”. داهمني هذا السطر – لريتسوس على الأرجح – ولم أقاسمها إياه، فهي تعرف كل ما يجول في خاطري.

حدَّثتني عن المقهى الذي كنا نقصده صباحاً مروراً بهذا المحل، نحتسي فنجان القهوة تلو الآخر، ولا نطفئ السجائر، رفقة ثلاث أو أربع صحف، نقرأها سوية بحق، تارة أتوقف عن قراءة تلك المفلوشة بين يدي، لأسمعها تروي لي شيئاً من تلك التي بين يديها، وأنا بدوري كنت أفعل الشيء ذاته.

-يداها رقيقتان على جريدة، كيف لها أن تنوء بحمل كل هذه الأخبار. لابد أنها محاكاة سريعة لريتسوس.

“أتذكر تلك الصباحات كثيراً!”

“أعرف!”

نعم تعرف ما أتذكر وما أنسى. لا آبه كثيراً بالنسيان؛ ذاكرتها لا تعطيه أدنى فرصة.

مرّ زمن طويل لم نفلفش صحيفة ونسمع خشخشتها وصخب أوراقها. بتنا نفعل ذلك بماوس بالكاد يصدر بضع تكات.

 

***

 

في السيارة قلت لها:

“عثرت على القصيدة أخيراً!”

“قصيدة لوركا!”

تعرف، نعم تعرف، وبحثي عن تلك القصيدة يعود إلى أكثر من خمس عشرة سنة، أي في صباحات الصحف الورقية والقرط المنسي.

يا الله كم بحثت عن هذه القصيدة! عشرات لا بل مئات المرات!

“قصيدة الزوجة الخائنة”.

“نعم هي هي”.

“أخذتها إلى النهر وأنا أردد:

عذراء عذراء

فإذا هي ذات زوج”

…..

“نزعت عني حزام مسدسي

 وانزلقت في حضني كسمكة”

“تلك شذرات ملفقة من القصيدة، صغتها على هواي كالعادة”.

لا جديد في ذلك مع ذاكرتي على صعيد الحفظ. ذاكرتي العجيبة التي لا تكلّ ولا تملّ من إجراء تعديلات على كل ما يستقر فيها من قصائد أو نصوص، كما لو أنها تعيد كتابتها. لطالما تخيلت حجم الكارثة التي سأحدثها لو كنت من رواة النصوص المقدسة أو الأحاديث، وكل محدّث ومخبّر يروي عن لساني رواية مختلفة لذات الحديث.

قالت وهي تعرف جيداً كل ما أسلفت:

“طبيعي جداً”

ضحكتْ.

ضحكتُ.

“تذكرين؟”

يا له سؤال ساذج! طبعاً تتذكر! أعود ربما خمس عشرة سنة أو أكثر، وقصيدة لوركا “الزوجة الخائنة” تحاصرني من كل حدب وصوب، أريدها كما قرأتها منذ زمن سحيق في كتاب مختارات من شعر لوركا صادر في بدايات ستينات القرن الماضي، عن ما كان يعرف في سورية بـ “وزارة الثقافة والإرشاد القومي”، وبترجمة عدنان بغجاتي. نعم كنت أهجس بالقصيدة بهذه الترجمة تحديداً، بتلك النسخة تحديداً، التي كانت في مكتبة أبي، وقرأتها في “عهد الضباب الدامع” توصيف أنسي الحاج لحال العالم حين يسمّي الشاعر “أوراق الخريف مريم العذراء” ويصدّق ذلك.

 اختفت تلك النسخة. لا أنا ولا أبي عثرنا عليها! وأتذكر الآن أنها احتوت في الصفحة الأولى أو الثانية  صورة بديعة بالأبيض والأسود للوركا، أخذتها وعلقتها على حائط غرفتي.

أرقت حبيبتي لأيام وأيام بتلك العبارات الملفقة من القصيدة. صرت أهجس بها، وسؤالي لها الآن “أتتذكرين؟” على صلة بأنني وفي يوم من تلك الأيام رفعت رأسي صباحاً عن وسادتي فرأيتها تستعد للذهاب إلى عملها. سألتها:

“أين مسدسي؟”

لم تستغرب هكذا سؤال، ولم تسألني شيئاً من قبيل “من أين لك مسدس أصلاً!” بل أجابتني في الحال:

“وضعته في الخزانة”

فأجبتها:

“طيب!”
وعدت إلى النوم.

قالت لي حينها، إنني بمجرد سؤالي عن مسدسي حتى استعادت: “ونزعت عني حزام مسدسي وانزلقت في حضني كسمكة”.

 

***

 

عدنا إلى البيت.

قرأنا القصيدة سوية، كما كنا نفعل مع الصحف، كما كل كتاب قرأناه ونحن نتبادل المقاطع التي تستوقفنا كما الأنخاب. وها هي قصيدة لوركا كاملة كما ترجمها عدنان بغجاتي (1934 – 1992) منذ ما يقرب السبعين سنة:

ومضيت بها إلى النهر

ظاناً أنها عذراء،

غير أنها كانت ذات زوج.

كان ذاك ليلة سانتياغو

وكأنه فرض محتوم.

انطفأت أضواء الشارع

وعلا غناء الصراصير.

عند المنحنى القصي من الشارع

لمستُ نهديها النائمين

فأشرأبا لي فجأة

كأشواك سنبلة.

لتنورتها المنشاة

حفيف بأذني

كقطعة حرير

تمزقها عشر سكاكين.

الأشجار، دونما ضوء فضي على ذراها،

أخذت في السمو

وأفق من كلابٍ

نابحةٍ بعيداً عن النهر.

خلف العليق؛

والقصب والزعرور،

تحت ضفيرة شعرها

حفرتُ حفرة في الرمل الناعم.

نزعتُ عقدتي

فخلعتُْ ثوبها

نزعت حزامي ومسدسي

وعرّتْ صدرها.

ليس للعنبر ولا للصدف

بشرة بهذا النقاء،

وليس للمرايا أمام الفجر

ألق بهذا البهاء.

فخذاها انزلقا بين يدي

كسمكة مذعورة،

شطراً متقداً بالنار

وشطراً مليئاً بالثلج.

عدوت تلك الليلة

على أجمل الدروب

ممتطياً فرساً من المحار

بلا لجام أو رِكاب.

لا أريد، كرجل، قول

ما قالته لي.

نور العقل

جعل مني أكثر من رزين.

أخذتها بعيداً عن النهر

ممرغة بالرمل والقبل.

سيوف الزنابق

اقتلت مع الهواء.

سلكت سلوكي أنا.

سلوك غجري أصيل.

أهديتها حقيبة كبيرة

من قماش بلون القش

وما أردت أن أعشق

لأنها، رغم أنها ذات زوج،

قالت: إنها عذراء

وأنا ماضٍ بها إلى النهر.

 


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.