“باترسون”.. جارموش يكتب قصيدته
العدد 219 | 30 أيلول 2017
خالد بن صالح


بعد مشاهدة فيلم “باترسون”، سيناريو وإخراج جيم جارموش للمرة الثالثة  -كمن يعيد قراءة قصيدة أحبَّها – تذكَّرت قصيدة “دمار كامل” لوليم كارلوس وليامز: كان نهاراً قارساً / دفنّا فيه القطّة / ثمَّ أخدنا صندوقها / وأحرقناه./ في الفناء الخلفي / البراغيث التي نجت / من التُّراب والنّار / ماتت من البرد.

لعلَّ أهم تحول في الفيلم حدث في نهاية الأسبوع، وأسبوع هو ما يسرده الفيلم من حياة شاعر، حينما ترك باترسون )آدم درايفر( دفتره على الأريكة أو مسوَّدته الشعرية، والنسخة الوحيدة من قصائد كتبها على مدار سنوات عمله كسائق باص، كجندي سابق، كزوج محب، صامت أغلب الوقت، يلتقط بإمعان ما يدور حوله من أحاديث ومشاهد وأشياء. شخص هادئ يلتمس سعادته في قاع كأس البيرة حين يفرغ بسلام في حانة المدينة الصغيرة، يساير شريكته التي يستحيل العالم بين يديها لوحةً فنية بالأبيض والأسود، بجانبها غيتار، والكثير من الحلويات المصنوعة في المنزل. دون إغفال هذه الثنائية على تضادها في حلمها بإنجاب توأم.

غفلةٌ جاءت بعد لحظة فرحٍ، أجَّلت حلم لورا )غولشيفته فراهاني( في أنْ تُطبع قصائـد زوجها الشاعر في شكل كتاب، كرجاء منها من أن يكتشف “العالمُ” هذا الشاب الموهوب في مدينةٍ بولاية نيوجيرسي الأمريكية شكَّلت ملحمة شعرية لواحد من أهم شعراء أمريكا المعاصرين. لكن كلمة “العالم” المخيفة والغريبة بنسبة لشخص لا يملك هاتفاً نقالاً ولا يستعمل أي وسيلة تواصل حديثة، ستتلاشى بحلول نهاية الأسبوع، الموعد الذي حدده باترسون لكي يصور نسخاً عن قصائده.

مورفي الكلب المدلل، وهو كلب عنيد، أتى على ذلك الدفتر الصغير وجعله قطعاً ممزقة وكلمات وحروفاً متناثرة على الأرض. سيعود الزوجان إلى البيت في وقت متأخر بعد مشاهدة فيلم رعب كلاسيكي بالأبيض والأسود لن يكون سوى “جزيرة الأرواح الضائعة” لإيرل كينتون، وهو مقترح لورا بعد أن تمكَّنت من بيع ما صنعت من حلويات في سوق المدينة، ليجدا فيلمَ رعبٍ من نوع آخر بطله مورفي وقد قرأ قصائد باترسون بطريقته، لاسيما وأنه لم يحظ بنزهته المعتادة في الخارج تلك الليلة.

جيم جارموش المخرج والشاعر المتأثر بالأدب الفرنسي، بقصائد شعراء مدرسة نيويورك، بتلك المسحة الأدبية لأعماله كمن يسعى لإنجاز كتابٍ ما، برؤية سردية لا تتقيَّد بقواعد الحبكة السينمائـية، بقدر ما تنحى إلى مقاربات أدبية للحكاية، للشخصيات التي تظهر وكأنها خارجة للتو من رواية ما، أو قصيدة ينسى في آخرها الشاعر الباب مشرعاً على العالم.

في خضم الروتين اليومي، والصور الواقعية لحياة مسطرة كمعزوفة تتكرر فيها الكثير من المشاهد كلازمة موسيقية. تأتي ما يمكن أن نسميه بالصدف الشعرية، من خلال قصائد الشاعر رون بادجيت، صديق جارموش النيويوركي وهي تظهر على الشاشة ككلماتٍ وأسطر تُقرأ بصوت آدم درايفر الذي تمتزج في أدائه لدور باترسون تفاصيل الحياة اليومية بروح شاعر يعيش في الظل، سعادته الوحيدة تكمن في فعل الكتابة وحبه للشعر ولمدينته. يبدو ذلك في ابتسامته الدائمة وهو يستمع إلى أحاديث الركاب في الحافلة، ويصبح زجاجها الأمامي مثل كاميرا تنقل لنا عن طريق مشاهدات باترسون انسيابية الحياة ورتابتها عبر طرق وشوارع المدينة. شاعرية سائق الحافلة تظهر أكثر في المشهد الذي يلتقي فيه أثناء عودته من العمل بفتاة في العاشرة تكتب الشعر في دفتر مذكراتها السري وتعلق بذهنه عبارة تصف فيها شَعرها الطويل الذي يسقط على كتفيها كشلال. وهنا يكون للفتاة أخت توأم، ليتكرر ظهور التوائم في الفيلم كحركة سينمائية ذكية تعكس رتابة المدينة.

الدمار الكامل الذي لحق بقصائد باترسون ذكرني بقصيدة وليم كارلوس وليامز وقد استعاده جارموش في أكثر من مشهد، بصورته المعلقة على جدار القبو الذي يتخذه سائق الشاحنة كمكان للكتابة والقراءة، إلى قراءة إحدى أشهر قصائده “فقط لأقول”. وصولاً إلى المشهد الختامي والهدية التي يحصل عليها “باترسون”، وهي عبارة عن دفتر صغير، من شاعر ياباني جاء ليكتشف مدينة وليامز أو ما شكل عمله الأهم “باترسون”، تلك الملحمة الشعرية المكونة من خمسة أجزاء، إذ تتداخل سيرة الشاعر الطبيب بمدينته، حين يقول: “إن رجلاً ما، هو بحدِّ ذاته مدينة”.

يؤكد لنا في الأخير جيم جارموش أن بطله شاعر حقيقي، تجتمع من خلاله أرواحُ شعراء آخرين من المدينة، على غرار ألن غينسبرغ، يحتفي بهم على طريقته. ولما لا تكون البداية مرَّة أخرى من ذلك السطر الذي نحتفظ به من أغنية شعبية لا نريد تكملة باقي أجزائها لأسباب شعرية محضة.

*****

خاص بأوكسجين


شاعر من الجزائر صدر له "سعال ملائكة متعبين" 2010، "مائة وعشرون متراً عن البيت" 2012، و"الرقص بأطراف مستعارة" 2016، و"يوميات رجل إفريقي يرتدي قميصاً مزهراً، ويدخن L&M في زمن الثورة" 2019. و"مرثية الأبطال الخارقين" 2023.