يوم الزيارة
العدد 159 | 06 تشرين الأول 2014
فكري عمر


*وثيقة تاريخية تحتمل بعض الصحة.

بوضعي في طائفة الصعاليك كما رتبنا شيخ الحارة أتيح للهواجس السيئة أن تحتل رأسي، وتقف على لساني ولا أنطقها، وكيف أنطقها حين حضر الجند منذ شهر بالضبط؟ كانت عرباتهم التي تجرها الخيول الشهباء تفرقع فوق الأرض المرصوفة بالأحجار فينخلع قلبي. في البداية جاؤوا بمادة كلسيه بيضنا بها واجهات الحوانيت، وغسلنا الشوارع بالمياه فزهت الأحجار السوداء بعدما محينا من فوقها غبار السنوات، ثم صرف لكل منا ملابس جديدة رائحتها ترطب أنفي وكانت متنوعة: جلابيب وعمامات وأحذية جلدية خفيفة.

ها هو يوم المرور المرتقب يقترب مثل وعد بالجلد، وها هو المظفر، الظافر، الليث، المتجبر على أعدائه، الراعي لرعاياه، والحامي لحمى الدين (شمس الدين الأبيض) سيقتحم حينا للمرة الأولى في حياته، أقصد في حياتي؛ كيف لي أن أتوغل بصفاقة وأجدف بتاريخ مولانا؟ غليظة أسياط عساكره وقهقهاتهم!

بأمعائي الفارغة قبل يومين من الزيارة كنت أدور مساءً في الماخور الذي لا يعرف سحره سوانا. رغم انتشار العيون والحراب استطعنا الولوج فيه. ما أن نهل أول الشارع الضيق المسدود في نهايته بأحد الحوانيت الكبرى حتى نلتفت وراءنا، ثـم نتقدم بحرص. نجتاز باب محل العطار الضيق، ونتوارى خلف المكتب. نرفع غطاءً خشبياً تحت كومة من القش. كنا نتوافد في ساعة متقاربة متفق عليها بإشارة أثناء سعينا الدؤوب طوال النهار. نوغل في الدهليز الرطب الذي تُغرس في جوانبـه أعمدة خشبية وعوارض متينة من جذوع الأشجار الضخمة لتسند السقف. أضواء الزيت تشعل الروح الشبقة. على المدخل يقف حارسان بأردية متسخة، لكنها متشابهة. ينحيـان حرابهما للقادم الجديد بعد أن يفحصوه من منبت شعره حتى أخمص قدميه. 

قيل أن العطار العجوز وقد كان عاملا بدار الكتب بوسط المدينة قد اطلع على أسرار جمة، وقام بمجموعة من الأبحاث قضى ما يزيد عن عشر سنوات في وضعها لتحويل التراب إلى ذهب ولم يفلح، فقضى عشرون عاما أُخر في التنقيب عن ذهب تحت القشرة الطينية لتلك الأرض الحافظة لمجد الأجداد.. اشترى بيتاً، وحانوتاً، واستأجر عمالًا وها هم يديرون الماخور السري الآن بعد أن تعمقوا بلا جدوى. 

أجمل ما في مملكتنا السفلية أن الكل يعرف دوره بالضبط، ثم ينفذه بدقة، حتى الراقصة الزنجية تبدو كما لو أنها تبيع الهوى لحفنة من الثمالى.

نتمدد فوق أرض البهو. لا أثاث سوى مفرش من الخوص، طاولة فوقها زجاجات وكؤوس، وراءها أقفـاص مليئة بالقـش. أحيانا تنغلق الستار الباهتة فنشعر بالوحدة. نسلي أنفسنا بالخيالات التي  تتراقــص وراءها في نــوبة تبديل الأدوار. نحتسي الخمر الرديئة بعد أغنية فجة كتبها شاعر ماجن من أبناء مملكتنا الأرضية، ونصفق بانتظام، وحين تزحزح الستار لتخرج الراقصة الزنجية زبيدة تستعر النار بجوفنا اليابس.

لأول مرة أحتسي زجاجتين، ثم أقف متأهبا. رأسي ثقيل لكن المرئيات لم تفقد توحدها بعد. خلعت جلبابي المرقع، ووقفت عاريا إلا من قطعة تستر خصري، ثم سحبت عصا من يد الراقصــة، وخلعت الستار التي ضاع لونها؛ ولففتهـا حول كتفي عباءة، وفي نشوة تفوق نشوة الخمر درت حول نفسي. الكل صامت. في أعينهم المحمرة ضحكة مكتومة. زعقت بلا توقف. لوحت بيدي لهؤلاء الهالكين لا محالة من البرد والجوع والخمر الرديئة، وأدليت مقصلة من خشب السقف، ثم ارتميت على جنبي. مرفقاي العاريان يستندان إلى حواف الكرسي الوهمي. مددت صولجاني الخشبي إليهم كما اعتدنا، وبكل ضراوة الوحش المولود داخلي للتو قلت: “فليشنق الأعداء واحداً واحداً وبلا رحمة” وأنا أرشقهم بسهام حادة من نظراتي فيتساقطون صاخبين.   

في اليوم التالي انبرى أحد الجند – أعتقده كبيرهم – لما تكلل به هامته من شارات ولما تلقاه كلماته من توقير وتنفيذ؛ لتعليمنا. اتخذ هيئة الملك وكبرياءه؛ فمارسنا بمهارة الأدوار الواجبة للرعايا الصالحين..

***

صهلت الخيول الملكية، ومن أعلى قبة في الحي نُفِخَ في البوق النحاسي، فاختفت شمس الصباح خلف سحب دكناء،  وطارت العصافير مبتعدة، واختبأت الكلاب في الأزقة، وهرع جيش النمل بصفة الرتيب إلى الجحور، بينما مرقت نظراتنا المتلهفة من بين رؤوس الحراب المتشابكة في أيدي الجنود المصطفين على جانبي الشارع.

أهو هذا؟ أتلك الرأس الثعلبية الصغيرة، وذاك الجسد النحيل هو ما أضج مضاجعنا منذ ولدت. فكرت أن أبصق باتجاه الملك الهزيل، لكن نظرة جهنمية تصوب باتجاهك. فقط أنت تؤدي دورك بلا زيادة أو نقصان، هذا وحده يجعلك آمناً: أن تبتسـم ببلاهة، وتلِّوح هاتفا كما علموك.

لوح بأصابعه المكتنزة المكللة بخواتم صفراء زاهية، ومسح بعينيه الغائرتين أجساداً مرهقة تتراقص هتافا بحياته. دهشتنا ضاعفت لجسده عافية، فوقف بشيخوخة عظيمة على قدميه. لف عباءته حول كتفه مثلما فعلت أمس في الخمارة السرِّية، وأشار بصولجانه الذهبي إلى الأمام مستنشقًا عبير النصر الوهمي. 

كان أولو الأمر من أهلِ حيّنا قد وطدوا أنفسهم من قبل على جمع تبرعات؛ لتقديم هدية متواضعة تعبيرا عميقاً عن سعادتنا بالزيارة. لم تفتنا المشاركة إذ أنهم حين لا يجدون المال لدى أحدنا فإنهم يقبلون الغلال، وإذا لم يجدوها فإنهم يقبلون الأثمال التي نرتديها، ليتم بيعها في السوق الكبير.

أعدت دار شيخ التجار “حسين بن علي” للاستقبال. لم يتعب الرجل نفسه ونحن نلتف حوله نسأله عن عدد الحروب التي انتصر فيها الملك. كان يشيح بوجهه، ويغمز بعينه العوراء. حين ألححنا في السؤال لم يذكر إلا عدد العيون التي تتربص بالحي. توجسنا خيفة وآثرنا الصمت والبلاهة. 

أعد لنا مكاناً خلف نوافذ الأرابيسك تحقيقاً لمبدأ الملك في المساواة والإعلان عن كافة ما يقول دون نسخ أو تحريف.

كنا نلوك شفاهنا اليابسة حين نحدق في الكؤوس التي تدور بينهم، فبعد التهام الطعام أشار الملك بيده ابتداء للكلام. قام على الفور كبير التجار صاحب المقام، تقدم في تؤدة، ثنى جذعه السمين، وتدلت رأسه كثمرة ناضجة، واستأذن في الكلام:

– مولاي الملك المعظم.. أجل الله مقامكم، ونصركم دوما على أعدائكم، وجعل لكم خير الدارين.. كنتم للرعية خير حام، وللدين خير ساند، وللحرب خير مجاهد.. لو يسمح مولاي أستفسر في أمر شغل الرعية أيما شغل (سكت برهة) إن أمتكم يا مولاي تود لو تعرف دور عظمتكم في الحرب الدائرة بين الجان في الأفلاك؟

تحرك ثغر الملك باسمًا، وعلى أثره نبتت ابتسامة جماعية في الحشد فقال:

– لقد قلنا وكررنا، أطلنا الخطب وسودنا الصحف؛ بأننا دائما لا نتراجع عن مواقفنا المعروفة مهما تكبدنا الضرر.

الجواري طفن مرة أخرى رشيقات كغزلان بالكؤوس. قام ممثل الفقراء “قمر الزمان برهان” وقال:  

– بعد الصلاة على نبينا العدنان خير الأنام.. أظن أني يا مولاي لست محتاجًا أن أرغي في فضلكم وجهادكم المعروف فلن يزيد كلام الفقير إلى الله في ملككم الكريم أدامه الله لكم، وجعل سعد أمتكم في سعادتكم.

سكت فجأة كأنما انحشر الكلام في فيه. عقد الملك ما بين حاجبيه الكثيفين واستنكر. 

– لي طلب واحد عندكم مولاي.

شهق الملك بارتياح، وشهقنا وراءه بارتياح أيضا.

– تفضل.. أحسبك ممثل الفقراء، ماذا تريدون؟ 

– مولاي.. باعتباري كما قدمتم ممثل الفقراء، مهنتي التي ورثتها، فإن ضميري يلهبني بسياط من العذاب.. كنا فيما مضى من الزمـان أكبر أركان المملكة، أما الآن ومنذ أن وفق الله الأمة بحكمكم فقد صارت وظيفتي غير ذات بال.. تمعن مولاي فلن ترى إلا الخير، كل الخير..

قال الملك:

– فضل الله ونعمته، قد رأينا ما حكيت وإنا مجيبون لطلبك. 

أخرج الملك كيسا يخشخش بالذهب، ثم نفحه لممثل الفقراء مكافأة على صدقه وإخلاصه، وثقبنا بنظرة كالسهم.. طأطأنا رؤوسنا في ذل. بدأت الجواري في التخفف من ثيابهن، والتهبت صدورهن بموسيقى خافته انبعثت في الأركان فأقفلت في وجوهنا النوافذ. تسلحفنا عائدين أمام حراب الجنود المشرعة.

كالمعتاد ذهبت وخلاني إلى مملكتنا الأرضية السرِّية. عــدت لتقليـد الملك كما تخيلت من قبل وفعلت لكن أعضائي تصلبت كأنما أصابها شلل. حاولت أن أقتنص لحظة النشوة الطارئة التي اختلج لها قلبي منذ أيام ولم أفلح، أظن أن شجاعتي نفسها قد خانتني، وأطرافي فقدت قوة توازنها لسبب لا أستطيع تحديده.

انسحبت أجر أذيال خيبتي. خرجت إلى أضواء الشارع أرقب الجنود الذين لم يستطيعوا معرفة طريقتنا في الدخول؛ ليمنعونا، ودمعة تتفجر في مآقيّ. ناداني الصحاب الذين استطاعوا أن يخرجوا كما دخلوا خلفي بصوتٍ واهنٍ، ولم أستجب. رفعت رأسي في الشارع فتملكتني رغبة عارمة في الجري بلا هدف. سقطت بعد خطوتين فقمت، وجريت وأنا أرغب في تحطيم كل ما يقابلني، وفي النهاية حين أصل أسكب نفسي فوق الأوراق التي أدونها؛ لتفريغ همومي. أحسست بأن أقدام كثيرة تهرول خلفي وتقترب بشدة. أضواء المشاعل حينئذ انسلت هاربة مني؛ لتسلمني فجأة لظلام مريع حين توالت الصفعات على رأسي واللكمات في كل جزء بجسدي، فقابلتني الأرض بوجهها الجهم الدامي، حتى غاب عني وعيي، ولم أفق إلا على لهيب النهار مضرجا بجراحي.

***

* تذييل

كنت قد دأبت – أنا كاتب القصة – في البحث في فترة حكم “شمس الدين الأبيض” بعد أن عثرت على هذه الوثيقة فى كتاب قديم، وغير متداول، كاتب الوثيقة أيضاً راوٍ وشاعر شعبي مغمور. كان “شمس الدين الأبيض” قد سقط حكمه فيما بعد حين عمت الاضطرابات والفتن، ولم يستطع رجاله أن يصمدوا. كنت أريد أن أعثر على  تفاصيل أكثر ثراءً عن تلك الزيارة التي قام بها لحي الفقراء من مصدر تاريخي آخر غير هذه الوثيقة الصغيرة، كي أقيم صرح حقيقة واحدة منذ أن اتخذت تاريخ أجدادي البعيد مادة لي ألوكها صباح مساء، غير أنني لم أجد ذكرًا لكاتب هذه الزيارة العجيبة في أي مصدر آخر.   

_______________________________

كاتب من مصر    

 

الصورة من فيلم “كلاب شاردة – Stray Dogs” للمخرج التايواني تساي مينغ ليانغ 

*****

خاص بأوكسجين