يوميات الغربة الواحدة قبل الألف
العدد 177 | 01 أيلول 2015
دنيا ماهر


يوم ما (1)

كان قلب في زنزانته الضيقة قد بات عاجزاً منذ فترة عن تحديد الوقت، الضوء لا يأتي منذ شهور إلى قَلايته الساخنة. الآن يُضَيع الوقت في الهذيان، “أوبرا وينفري” تقدّم الحاصل على جائزة نوبل للسلام هذا العام. يظهر هو، بتواضع وخفة ظل فيحتدم التصفيق. يراقبه الحارس من فتحة مستطيلة ضيقة في الباب، يُحدّث قلب نفسه بعظمة ويضحك بتثاقل رأس مهتز، يصفق بأعصاب مهزوزة كمن يحيي الجموع، يبعد الحارس عينيه عن الفتحة ويدس فيها رغيف عيش ضاحكاً:

– براوة ع اللي خلفتك.

قبل أن يقفل الفتحة تاركاً الرغيف على الأرض أمام قلب الذي استمر في الهمهمة والضحك:

– كنت متأكدة انك قاومت سحري لسبب وجيه. 

قال طيف جونفيف واقفا على الباب المفتوح الآن على أضواء راقية، فستانها يتطاير في الزنزانة بكل الألوان، تحمل كيسا ورقيا ملفوفا بعناية: إنتي جايبة لي نبيت؟

تضحك جونفيف ضحكتها العالية:

– لا طبعا، دي شمبانيا… هنحتفل.

سهر قلب ليلتها مع أوبرا وينفري وغالي وجونفيف يرتشفون زجاجة خمر لا تنتهي أبدا. كان المرح سائدا والصورة في عينيه كأفلام الستينات المنزلية المشرقة الملونة المليئة بالعيوب. صراخ فرح، ألعاب، أطفال وجوائز ومفاجآت، بعض المناقشات العقلانية للبالغين، حفلات شواء في الجبال، والكثير من النبيذ هو كل ما استدعاه قلب ليبقى حيا في تلك الليالي.

 

يوم ما (2)

لم أكتب منذ أسابيع، نجحت خطة قلب وانشغلت بالطين والدولاب عن قصصه وحكاياته. لا تختلف جلستي الآن وسط الفخار الملون الحار عن جلستي أمام الدفاتر المكدسة في غرفتي، كل ملف يحمل اسم شخصية وأجزاء منتشلة من ذاكرة قلب المكسورة. لا بد أن أختار الآن من سيصعد معي من هذه الشخصيات للجولة الجديدة، حيرة كبيرة.

 يقول أن السجن كماكينة سجق كرتونية، تدخل بقرة من ناحية، لتخرج سجق من الناحية الأخرى، سجق يساوي ويحتوي على كل ما كوّن البقرة، إلا أنه لا يشبهها في شيء. يضحك كثيرا، أراه في صوره القديمة مطلقا لحيته، ثم كره عجزه عن حلاقتها في السجن، هو الآن حريص على طقس الحلاقة الصباحي، قلب الذي لم أعرفه دخل إلى المعتقل ليخرج قلب الذي أتعرف إليه الآن، لكنه لم يعد يتذكر نفسه.

 يقول أنه لم يفقد ذاكرته، هو فقط لا يجدها مرتبة، ذاكرته مقطعة ومتناثرة في خلايا البقرة التي صارت سجقا. ذكرى واحدة تائهة، اثنتان أو مائة، لا يعرف تحديدا، لكنه يعرف أنها مخبأة في سجقة ما لا يُخمنها. يرفع رأسه ويتوقف عن الكلام مركزا نظره في نور المصباح، إما أنه سيعطس أو أنه يطارد ذكرى تستعصي عليه. يضحك ضحكة يأس مغتاظة من بين أسنانه المضغوطة ويقول: لا ليست تلك السجقة، لما أطبخ السجقة التالية سأجد الخاتم.               

– أنت تخلط بين السمك والسجق، هل أنت جوعان؟     

أحب مشاكسته كما يحب مشاكستي. تركني ليدخل في حاسوبه الحبيب؛ لديه مائة وعشرون ألف متابع على تويتر وصديق واحد حقيقي مغترب وصديقة بالمراسلة تدعى لمياء بالإضافة طبعا إلى كارما، التي ستُعرّف نفسها لأني لا أجد لها تعريفا. هي صديقة قلب فقط إذا ما ثبت إمكانية مصادقة الإنسان لمرض مزمن كالسكر، مؤلم كالصداع النصفي، أو منهك كالفشل الكلوي، ولكن هذا موضوع آخر. على الأقل قلب الآن خارج قوقعته التي وجدته بداخلها، أن يخرج مع كارما أفضل من أن لا يخرج على الإطلاق.

 لو يخرج القديمُ أيضا من عتمة النسيان ويقدم نفسه إلي كما فعل قلب الجديد، لو يرمي أمامي كل تاريخه اعترافا أنظف من تلك الأوراق المتسخة: كسرات صور، تفاصيل حكي، وتداوين منقولة. رمى أمامي على الأرض حياته مختلطة بحياوات أناس لا أعرفهم، رماها غاضبا، عنيفا، كمن يشعر بالذل لإرغامه على السماح بانتهاك حرماتهم، وكأنه يفتح قبر الكلمات للنباشين.                                                                           

  ـ لو هتساعدك تشوفي لمحة تريحك من قلب الأصلي اللي عايزة تعرفيه اتفضلي، لما تخلصي تقدري تبدأي ساعتها في التعرف على البني آدم الموجود هنا دلوقت.  

يقلب أمامي أكواما من الدفاتر والرسائل والقصاصات ويمضي.       

يغضب. يظنني لا أقيمه كما هو، أُنكره كما أنكرت أمه أباه، أنكره لصالح رواية أخرى تعجبني أكثر، وتقنعني أكثر حتى لو لم تكن حقيقية، تماما كما اعتنق هو قصة والد غالي عن والده، تلك القصة التي تملك أمه نسخا عديدة غيرها، بعضها خيالي وبعضها به لمحة من حقيقة، إلا أن قلب اختار الحقيقة التي تعجبه وسكن إليها. أنا لست راضية مثله، أريد اختبار كل الروايات لتتكثف روايتي الخاصة. لا يفهم احتياجي لبناء قصته كاملة في ذهني لأسكن قصتي، البناء الموجود الآن تبدو خارطته كخطأ مطبعي كبير أو كلوحة لإيشر، غرف بلا مداخل، أروقة طويلة لا تفضي إلى شيء، سلالم تصعد إلى حيث تبدأ، مقابض بلا أبواب ونوافذ بلا جدران تحوطها، شلال يسقط لأعلى وزوايا ميل مستحيلة. لا يستقيم أن ترى نفسك رسما مربكا.

 الغموض هالة ترتديها أمام الناس وتخلعها مع نفسك وإلا تتحول إلى سيف ناري، يقتطع منك أعضاء بت لا تشعر بها ليرميها في النيل، أو ليأكلها، لا فارق، هو الفقدان في الحالتين. أريد استرجاع إحساسي بتلك الأعضاء المفقودة مني ومن قلب، فالفقدان يورث كالسمعة والتاريخ، أليس هذا جزءا من معرفتنا لذواتنا؟ هل هناك بشر بلا تاريخ؟ حتى الآلهة يحتاجون تاريخا.

 

يوم ما (3)

طرق خفيف على باب حجرتي، يسألني مباشرة:

– عايزة إيه علشان عيد ميلادك. أنظر إليه بقوة: 

– مفيش اختيارات؟

 يبتسم ابتسامة خفيفة: 

– اخلصي يا حبيبتي.

 أستجمع شجاعتي:

– عايزة أسافر سويسرا، عايزة أقابل غالي.

فجأة شعرت بمدى غرابة تلك الأمنية، ثواني الصمت التي تبعت سؤالي كانت هي الأثقل، تعبيراته غير مقروءة لكن من عينيه رأيت ذهنه يجري بسرعة في كل الاتجاهات. لم يقل شيئا، تحركت شفتاه بكلمة غير مسموعة ثم هز ذراعه ومضى. بكيت في تلك الليلة لأول مرة منذ سنين، لم أكن قد بكيت أمي بعد، لكني بكيتها تلك الليلة مع أشياء أخرى فقدتها.

 

يوما ما- غير مرقم

أخبرني أن جونفيف قالت أن والد كارما أهداها سيارة في عيد ميلادها، سيارة صغيرة وسريعة، صفراء ككتكوت ناضج، كانت تسرع بها على كورنيش جنيف ومنحنيات برن. كان ذلك بعد وفاة والدتها الأكثر تزمتا. تعلمت الحرية لما تعلمت القيادة. بدأ الأب يندم قليلا على هديته حين تأخرت كارما عن موعدها التاريخي للوصول إلى المنزل، موعد سندريلا ناقص واحد، الحادية عشرة. تحررت من مواعيد المواصلات العامة وطارت بعربتها من طريق لآخر تحلم بصور مجنونة. تضحك جونفيف، لكن أوان الندم كان قد فات، تماما كما فات زمن الأب العجوز الذي ضعفت صحته وهمته فلا يقف أمام الشابة العفية ومات بعد شهور. باعت عربتها وجاءت إلى مصر لتكتب هذيانها المجنون، تضحك جونفيف عاليا. دائما ما كانت تضحك ضحكة رائقة ولامعة حين تتحدث عن كارما، وتدعوها بحبيبتها، تستكمل: الأستاذ إبراهيم كان رجلا مسكينا وضعته الظروف أمام تلك المجنونة، كانت تجلس بجانبه وتتحرش به حتى ملّ الرجل الشريف، فرماها فريسة لغابة السيارات المذعورة ليشغل يديها وعقلها بشيء آخر غير العبث بجسدها بلا مبرر غير إثارته، قادت السيارة بسلاسة ضايقت الأستاذ إبراهيم المسكين. عرفَت كارما الأستاذ إبراهيم على جونفيف لاحقا، كان أعزب لم يسبق له الزواج، لكننا لا نعرف كيف امتدت علاقتهما ولا كيف انتهت.

 

سحر الكلمة

ظهرت الكلمة للإنسانية كناي سحري عملاق يعزف نفسه ويتمايل فتسقط منه كلمة تتبعها كلمة. تلتقط الإنسانية الكلمة ويعجبها الطعم، كلمة وراء أخرى يخلفها الناي وهو يتحرك، فتنكب الإنسانية على طريق تعلمت أنه الأمام المحبوب المتخيل، تغترب الإنسانية منحنية تتبع الناي تاركة وراءها الطبيعة تبكى الجهل والخيبة. الإنسانية لا تهتم لنواح الطبيعة، لا ترى السحر في الناي ولا تراقب نفسها، تغتر بالكلمات وفنونها فتغرق بعيدا عن أصول ذواتها.

 

 

 

أمسك كتابه الأخير وأندهش، كيف يكتب عني وعن نفسه وكارما بهذا التعري، كيف يتخلى عن كل شعور شخصي بالمهانة ويفضح احتمالات نقصاننا بهذه الشجاعة، شفقتي عليه زادت مع كلمة قرأتها من يوميات غربته، يؤلمني استعداده الكامل للتخلي عن عالمه ليجمع الكلمات، يمشي بالفعل منحنيا وناظرا بين قدميه. تبدو لي الكتابة الآن فعلا شريرا ومؤذيا، قلب يحب الكتابة ويخشاها، كممارس للسحر الأسود يعلم أن مع كل انتصار لسحره يعمق قبره ويقترب منه. أنا على العكس، الكتابة في حياتي ظهرت كالرقية والبخور، تبعد الأرواح الشريرة وتسلسلها، أنا لا أمارس سحرا سفليا بالكتابة، بل أحاول إبطال هذا السحر.

رجع الصوت، التواصل هو الحل

كتبت لمياء في إحدى خطاباتها لقلب “أكره الشارع والناس” لا عجب أنها تعيش الآن في الأدغال، تقول:

“إن انعدام المنطق يقتلني، أفهم أن لكل تصرف ما يبرره من منطق، قد يكون منطقا معيبا، منحرفا أو مشوها لكنه يظل منطقا، غير مفهوم وبعيد، يحرقني عذابا إلى أن أجده وأتعرف عليه حتى لو لم أستسغه أو أتعاطف معه، فقط أحتاج لمعرفة ماهية هذا المنطق الملعون.” 

“لعنتي أنا يا قلب ليست الخجل، بل الغضب. أنعزل عن الناس لأنهم ينفخونني بغضب أسود ثقيل، يملأني كما ثعبان محشور في جلد وَجَبَ تغييره. كلما عزَ علي فهم منطقهم يطغى علي الغضب فيؤلمني، ولطالما أغضبني حبي لك.”

“قد يفسد يومي أو أسبوعي حادث واحد عابر يعتبره سكان المدينة اللغز صغيرا، ملعونة هي النفوس التي لا تتسامح، يأكل الغِل أحشاءك ويقترب العنف الذي تكرهه ويبدأ ودودا وجسورا، تبكي نفسك مرات عديدة على صدره وتفقد الرغبة في الفعل، هذا ما عانيته في مدينة لا ترحم أحد. أصبح اختفائي أمنية، حين بات من العسير تحمل رؤية الآخرين.”

أقرأ الخطاب وأتذكر خيرية، جاموستنا الأحب إلى قلبي. لكم كانت أنيسة تلك البهيمة ومبهجة ! كانت آخر عهدي بحب الشوارع والمشي فيها، كنا نسير جنبا إلى جنب، فتاة مراهقة بضفيرتين، وجاموسة شابة بقرنين. لم أكن أسحب خيرية كما يفعل باقي العيال بجواميسهم، فخيرية لم تكن كأي جاموسة أخرى، كانت كالحمير تحفظ البيوت والعناوين، كانت تقف أمام باب الزبون فأنادي أنا على اللبن. أخرج مع خيرية في أيام الجمع، عطلات المدرسة، أيام الانتخابات والعيد، أمشي بجانبها فخورة وآمنة؛ كانت خيرية تحرسني ككلب، تخور بزومة مخيفة كلما ضايقني ولد. كانت خيرية آخر عهدي بالاطمئنان. كأية جاموسة أخرى، بيعت خيرية في السوق بعد أن شح لبنها وخلفت لنا ثورا وجاموستين تم بيعهم جميعا. رحلت خيرية فلم أسم جاموسة بعدها أبدا، وكلما تخيلتها تذبح في تجمع بالسوق، أعاف أكل اللحم، هكذا صرت نباتية.

 

عقدة الراوي – الكذب هو الحل 

 الجموع تفضل التصريحات الكاذبة الصحية، كما تفضل رواية ذات ترتيب نموذجي وبناء متوقع. افتتاحية تبدو مشوقة وتبدو لي مصنوعة، ثم سلاسل التبريرات. أسميها عقدة الراوي، الراوي المسكين يريد أن يكتب قصصا عن أناس لا يعرفهم لسبب يجهله تماما، يُرجع من حوله ركونه للكتابة إلى كسله وعدم حماسته للخروج إلى العالم ليبحث عن عمل حقيقي، تماما كما وُبِخ إنسان الكهف على إضاعة وقت الصيد الثمين في جمع الألوان.

 يريد الكاتب أن يجدد ويندهش، يريد أن يغوص ويلمس ويصور تلك الكائنات الخرافية التي تعيش على عمق كيلومترات تحت سطح النفس البشرية، أن ينشر الدهشة عبر عكس عوالم لا يود بالضرورة الاختلاط فيها، وأيضا دون تواصل حقيقي مع من يدهشهم. يريد كتابة رواية جديدة جدا إلى الحد الذي لا يُغضب الأساتذة الذين سيناقشون ما يكتب لدرجة تُرمى بها روايته من جنة تصنيف الرواية إلى المجهول.

يسائل أخونا الراوي نفسه كثيرا ويجاوبها، هل أعرف حقا ما أكتب عنه؟ نعم، نعم أعرف ما أكتب عنه. صاحبنا المبلبل مشغول بتبرير ولعه بالتأليف لقرائه ولأصدقائه ولنفسه عن الكتابة نفسها.

 

كابوس كارما

أكثر أحلامها رعبا دخل حياتها مع تعبير الثورة المضادة، تبدو بشعرها المفرود وبذلتها كموظفة غالية ومتحفظة، ابتسامتها تتأرجح بين الخوف وبرود أدب خادمي العملاء. لا أرى المحقق لكن كلماته تلتف حول كلماتها كثعبان، كمحام ضلالي تتقمصه روح صوت عبد المطلب. المشهد الأول والأخير: كارما على كرسي مكتب تنزلق في أرجاء مكان، حوائط عالية لا يظهر لها سقف، مقسمة إلى شاشات، ونوافذ مغطاة بسلك معدني وقضبان ومن خلفها لا شيء، مكاتب كثيرة تتناثر في المكان ولا تملؤه. تتأمل في انزلاقها الأضواء الملونة في فراغ السقف المظلم بوجه طفل رضيع ويد تحرص ألا تطير تنورتها، مذهولة في ذلك المكان الذي تتجمع فيه صفات زنزانة، استوديو تصوير، ومكتب إداري تتزايد فيه معدلات الانتحار. فجأة يغمرها ضوء قوي، ترفع كفيها لتحمى عينيها فتفاجأ بنظارات كبيرة، كعدسات ضخمة تلملم  كل الضوء لتضرب شبكيتها. كارما لا تلبس نظارات، قلب يلبس النظارات… تتوجع فيختلط أنينها بصوت مجسم وعال يشع من كل مكان: ثابت، أكشن، سبيد. فورا يتحرك بها الكرسي لبقعة محددة على الأرض، علامة إكس كبيرة وحمراء تقف عليها دون أن تراها. ورغم عماها المؤقت، تتخذ وضعية مذيعة أخبار على الهواء، مشدودة الظهر وجامدة الوجه، عيناها المفتوحتان لا ترين أبعد من شاشة أمام وجهها. رعبها يظهر من انتفاضات جسدها، تظن أنها ستموت نتيجة قصف مفاجئ للاستوديو.

تعرض الشاشات أمامها مشاهد لكائنات خرافية من أعماق المحيط ودببة قطبية. تحافظ على مظهرها أمام كاميرا لا تراها وتسمع هدير الجماهير، صوت المحقق/ المذيع: 

– دي مش أول مرة نتقابل، اتقابلنا قبل كده، في مواقف مشابهة، مشابهة قوي. 

تكاد تسمع ابتسامته الخبيثة. تتردد قليلا، لا تفهم إن كان الصوت لمحقق يسأل أو لمعلق رياضي، تتعالى أصوات الجماهير كل مرة في نهاية حديثه، تتغير الصور على كل الشاشات إلى بطاريق تتدافع وتسقط من أعلى صخرة مهيبة للمحيط، تتزاحم على الشاشة بطاريق مجبرة على القفز ومذعورة تدفع بعضها بعضا في اتجاه الهاوية. لحظات من الرعب يعيشها البطريق المقذوف من أعلى حتى يلامس الماء ويفهم أنه لم يمت، فينطلق عائدا إلى الهواء ويسبح بفرح الناجين من الموت.

يوقظ كارما صوت الجماهير الخفية السعيدة، هييييه هيييه، ثم يهدأ كل شيء. يقول الصوت بأداء المحقق:

– لكن اليوم غير أي يوم.

 صمت. 

– ممكن تقربي ؟ 

تنظر حولها ولا تعرف إلى أين تتجه، فصوته ينبعث من كل اتجاه. آمرا، قربي، قربي كمان، كانت كل كلمة منه تحمل وقع اتهام خطير ومثبت. كان تعرق كارما يزداد مع تصلب ظهرها في محاولاتها إيجاد البقعة التي يقصدها الصوت. تتبع بقع الضوء المتغيرة على الأرض مجدفة بقدميها إلى أن تضرب إحداها هاوية، يختل توازنها وتقفز من الكرسي قبل أن يسقط في العمق الخرافي وتقف سريعا. ضحكات مسجلة وأخري حية. في الظلمة خلف الأنوار يجلس جمهور ما أو يقف. يضربها جسم من الخلف، تلتفت للكرسي ذي العجل ذاته الذي سقط في هاوية. الظلام يعود إليها، تنظر حولها، ليس ثم شيء غير الفراغ، لكنها تشعر بأنفاسهم خلف الأضواء المبهرة. تنظف المقعد بطرف جيبتها قبل أن تجلس على طرف الهاوية وتتأسف للصوت. تشعر بالضعف. يضحك الجمهور ويقول الصوت بأداء معلق كروي:

– ما يهمكيش، لكن يهمنا نعرف

بنبص عليكي ولازم نعرف، إيه يا ترى اللي

اللي جري؟ وإيه يا ترى اللي

ياترى حصل؟

 تهز رأسها، لا شيء يحدث معي، أنا أكتب مسرحية. فكرت كارما فرد عليا الصوت كمن يعلن فوزه في مباراة هامة: 

– إذن فصديقتنا تكتب قصة. تنطق كارما أخيرا:

– مش قصة، باكتب مسرحية. 

يضحك الصوت ضحكة خليعة ويصمت الجمهور، تختفي المكاتب والأرض وتحتجزها بقعة الضوء اللعينة وتربط كفيها وقدميها بالكرسي اللعين، تدفع الكرسي أيادي خفية فتجري عجلاته بلا فرامل، تصرخ من الخوف ويصفق الجمهور على الإيقاع المتسارع للاستعراض. يتوقف الكرسي المتحرك فجأة كما يتوقف تصفيق الجمهور، كأن يدا برزت من الأرض وثبتت كارما، ثم أدارتها لتواجه الوجوه الشامتة لجمهورها، يقول الصوت: 

 

ـ هل تعلمون مما تستلهم صديقتنا روايتها؟

 تهمهم : 

– مسرحيتي… يقاطعها الصوت: 

– اخرسي، أيتها الفاسقة.

 ويدور الكرسي حول نفسه بسرعة مستحيلة. في طريقها للإغماء كان هناك غثيان شديد، سمعت الصوت يعلن عن علاقة ما تكتب بمواقع الاعترافات المشبوهة، وعن إدمانها كشف أشنع عورات الناس. ولما زادت شهقات الجمهور وصيحات استنكارهم، لمحت صورتها الضخمة تستمني على الحائط بينما تقف جدتها في الخلفية مبتسمة بود. يعود الغثيان وتظلم الدنيا، تصحو كئيبة ومحملة بالذنب فتحادث قلب لتتسلى.

____________________________________

كاتبة وفنانة من مصر، والمقطع مأخوذ عن رواية “تلفريك” الصادرة لها أخيراً عن دار نبض في القاهرة.

الصورة للفوتوغرافي الفرنسي هنري كارتييه بريسون (Henri Cartier-Bresson‏)‏ الذي يُعتبر مؤسس التصوير الفوتوغرافي الصحفي الحديث.

*****

خاص بأوكسجين