وراقبنا المطر يسقط كستار رمادي
العدد 153 | 02 حزيران 2014
د. هـ لورنس/ترجمة: أسامة منزلجي


   نُكِثَ وعد حلول فصل الربيع الرائع قبل أنْ يكتمل تفتُّح زهر شهر أيار. فطوال ذلك الشهر المحبوب ظلت الريح تهبّ علينا من الشمال والشمال الشرقي، جالبة المطر العنيف والغزير. وارتعشت الأشجار ببراعمها الرقيقة وأنّتْ؛ وعندما أضحت الريح جافة، رفرفت الأوراق الغضّة بترهُّل. وأصبح العشب والذرة كثيفة الأوراق، لكنَّ الضوء الذي يشع من الهندباء البرية انطفأ تماماً، وبدا أنه مضى وقت طويل منذ أنْ مرحنا أمام الوهج العريض لتلك الأزهار. تلكأت أزهار الجريس وتلكأت: كانت قد حفّت بالحقول على مدى أسابيع كشراشيب الحِداد القرمزية. تفتح المنثور البري لكي يتدلى ثقيلاً من المطر؛ وبقيت براعم الزعرور البري متماسكة وقاسية كالآلئ، تتقلص لتُصبح النبات الأخضر الرائع؛ وكان أذن الفأر، مخلوقات الغابة المسكينة، عشباً بائساً. وغالباً في آخر النهار، تنكشف السماء، وتتشبث الغيوم المهيبة فوق الأفق نائية إلى الأبد، تتوهج، عبر المدى الأصفر، برونق كهرمانيّ. لم تكن تقترب أبداً، بل دائماً تبقى نائية، تنظر بهدوء وفخامة إلى الأرض المرتعشة، ثم تحزن، مخافة أنْ يعتم إشعاعها، فتبتعد، وتغيب عن الأنظار. أحياناً، مع اقتراب الغروب، يمتد حاجز عظيم قاتم من الغرب إلى السمت، مشوشاً الضوء على حوافه. ومع ارتفاع قبة السماء أكثر، ينكسر، يتبعثر، وتتلون السماء بلون وردي، شامخة وشاحبة فوق القمر المتلألئ. ثم تتكوم قطعان الماشية بين نبات الجولق، يوجعها البرد، بينما طيور الشنقب بمناقيرها الطويلة تحوم مرفرفة عالياً فوق الرؤوس، تحوم وتحوم بدوار واسعة، وكأنها تحمل أفعى من نحرها، وتحكي صارخة مأساة، أشدّ إيلاماً من الأنين والاحتجاج المؤثّر لطيور الطيط. بعد تلك الأمسيات كانت تأتي أوقات صباح باردة وكئيبة.

   في أحد أوقات الصباح تلك صعدتُ إلى جورج، في الأرض المُراحة العليا. كان والده في الخارج مع الحليب – كان وحده؛ وعندما وصلتُ إلى قمة التل رأيته واقفاً في العربة ينثر السماد الطبيعي على الحقول الحمراء الجرداء؛ كدتُ أسمع صوته يُنادي بين الفينة والأخرى الفرسة، وخرير الجدول وقعقعة العربة وهي تتقدم. كانت طيور الزرزور والذُّعرة تركض بخفّة عبر كتل التربة، وكالبرق مرّت العديد من الطيور الصغيرة، ورفرفت، وقفزت هنا وهناك. ودرَج أبو الطيط وصرخ كعهده دائماً بين الغيوم المنخفضة والأرض، وبعضها ركض بجمال بين الأخاديد، فائقة الجمال ومتلألئة بصورة لا تتلاءم مع الحقل الخشن.

   تناولتُ مذراة ونثرت السماد على طول الحُفر، وهكذا كنا نعمل، يفصل بيننا حقل واسع، لكننا شديدا القُرب بالمعنى الحميم للكلمة. راقبته من بين طيور أبي الطيط العابرة بسرعة، بينما الغيوم المنخفضة تمر خلسة من فوق الرؤوس. وتحتنا، كانت أبراج شجر الحور في الأيكة بلون ذهبي دافئ، وكأنَّ الدم يشعّ من خلالها. وأبعد منها لمعت المياه الفضية، وتحتها كانت الأسقف الحمراء. كان وادي نذرمير شبه مُستتر، ونائياً. لم يكن هناك في هذا العالم الكئيب، الموحش، غير طيور الطيط تتمايل وتصرخ، وجورج يتمايل في صمت وهو يعمل. جذبت حركة الحياة النشطة انتباهي كله، وعندما رفعت بصري فذلك لكي أرى حركة أعضائه ورأسه، وارتفاع وانخفاض جسمه المنتظم، وحركة ارتفاع وانخفاض طيور أبو الطيط المتماوجة البطيئة. وبعد قليل، عندما فرغت العربة، تناول مذراة واقترب مني، وأنا أعمل على أداء مهمتي.

   بدأتْ تُمطِر، لذلك جلب كيساً من العربة، وانضممنا معاً تحت السياج الكثيف. جلسنا متلاصقين وراقبنا المطر يسقط كستار رمادي مُخطط أمامنا، حاجباً الوادي؛ راقبناه يسيل بمسارات قاتمة عن ظهر الفرسة، وهي واقفة موهنة العزيمة ؛ أصغينا إلى هسيس القطرات تسقط في كل مكان حولنا؛ شعرنا ببرودة المطر، والتصقنا معاً في صمت. دخّن هو غليونه، وأشعلتُ أنا سيجارة. واستمر هطل المطر؛ لمعت الحصى الصغيرة والتربة الحمراء وسط الظلام الكئيب. جلسنا معاً، نتحدث بين حين وآخر. وكأنَّ تلك الأوقات شكّلتْ الارتباط المشبوب الذي زال ببطء خلال السنوات اللاحقة.

   عندما توقف هطل المطر، ملأنا دلاءنا بالبطاطا، ومضينا على طول الأخاديد الرطبة، نغرز الدرنات النابتة في التربة الباردة. ولما كان الحقل رمليّ القوام فإنه سريع الجفاف. وعند حوالي منتصف النهار، بعد غرز البطاطا كلها تقريباً، غادرني، ثم جلب بوب من جانب السياج الأبعد، وشدَّ الفرسة وهو إلى المتن، لكي يُغطي البطاطا.  قلبَ المحراث الخفيف والحادّ التربة وحولها إلى أخاديد متساوية فوق البطاطا؛ ورفرف حشد من الطيور الصغيرة، واستقرّ، وقفز من جديد خلف المحراث. نادى على الحصانين، فهبطا أسفل التلّ، والنجوم البيضاء فوق أنفيهما البُنيين يومئان إلى أعلى وإلى أسفل، ومشى جورج بخُطى ثقيلة وثابتة خلفهما. جاؤوا نحوي؛ وبهتاف استدار الحصانان، متحولين بحركة خرقاء جانباً؛ رمى بنفسه بقوة خلف المحراث، وضغط عليه، وأداره بحركة سريعة؛ وفي الحال بدءا يرتقيان التل من جديد. عندما انسابت الطيور خلفه وتبعت الأخدود الجديد تعالى صوت رفيف عظيم. وبعد أنْ تمت تغطية الصفوف كلها فكّ الحصانين وتبعناهما على سفح التل الرطب لتناول وجبة العشاء. 

   اقتحمتُ طريقي خلال العشب المُخضّل بالماء، ساحقاً زهر الربيع العطري تحت ثقل خطواتي، متجنباً زهر السحلبية القرمزي القزم بسبب التنشئة الخشنة، لكنه رائع في ألوانه الساطعة، ساحقاً حُرف الماء الشاحب، والمنثور البري المُرهق. ثم وعيت لوجود شيء بالقرب من قدمي، شيء صغير وداكن، يتحرك بغموض. وعثرت من جديد على عش القبّرتين. ميّزتُ المناقير الصفراء، ورموش العيون الجاحظة للقُبّرتين الصغيرتين، والخطوط الزرقاء لريش الأجنحة. الحركة الغامضة كانت للارتفاع والانخفاض السريعين للظهرين البُنيين المكسوين بالزغب، اللذين تموجت عليهما جدائل طويلة من الزغب الدقيق. انضمّ الطائران الصغيران جداً معاً جنباً إلى جنب، ومنقاراً إلى منقار، وجسداهما المنمنمين يرتفعان وينخفضان في انسجام سريع. وأنزلتُ أصابعي برفق لألمسهما؛ كانا دافئين؛ فسُررتُ لمعرفتي أنهما دافئين، وسط كل ذلك البرد والرطوبة. وانهمكتُ بفضول بأمرهما، عندما حرّكت دوامة الريح جدائل الزغب. وعندما تحرك أحد الفرخين باضطراب، ناقلاً كتلته الناعمة، فرحتُ كثيراً؛ لكنه عاد فاستكان من جديد، ورأسه قريب من رأس أخيه. في أعماق قلبي تقت إلى وجود مَنْ أستكين إليه، شخص يحول بيني وبين الحزن والرطوبة السائدة. وحسدتُ المعجزتين الصغيرتين المُعرَّضين للوطء، ومع ذلك  تخيم عليهما السكينة. وكأنَّني كنتُ أتجول طوال حياتي، بحثاً عن شيء عثرا هما عليه حتى قبل أنْ يقتحم النور عليهما قوقعتهما. شعرت بالبرد؛ بدا الليلك في حديقة مزرعة ميل أزرق وميتاً. ركضتُ بقبقابي الثقيل وقلبي المُثقل بالاشتياق المُبهم، إلى أسفل نحو ميل، بينما جعلت الريح القيقب الدلبي شاحباً، ودفعت أشجار الصنوبر النكد بفظاظة، ذلك أنَّها كانت متجهمة لأنَّ ملايين الجنيات البيضاء لا تستطيع الطيران بأجنحة مبللة. وأبقت كستناء الحصان شموعها البيضاء مستقيمة بشجاعة في تجويف كل غصن، على الرغم من أنه لا توجد شمس تُضيئها. انساب طائر تمّ حزيناً بارداً عبر صفحة الماء، يجر وراءه قائمتيه السوداوين، يُطقطقُ جناحيه الأجوفين العظيمين، هازاً دجاجات الماء الخائفة، ومُهيناً الإوز الرصين ذا العنق الأسود. ماذا كان غرضي من انتقالي هكذا من شيء إلى آخر؟

*

   في نهاية شهر حزيران عاد الطقس صافياً من جديد. كان مُقرراً أنْ يبدأ موسم حصاد التبن حالما يستقر. وهذا العام لم يكن هناك إلا حقلان يجب حصدهما، من أجل تزويدنا بما يكفي حتى فصل الربيع. ولما كانت عطلتي قد بدأتْ قررتُ أنْ أمدّ يد المُساعدة، وأننا نحن الثلاثة، الأب، وجورج وأنا، سوف نحصد التبن من دون استئجار يد عاملة.

   في صباح أول يوم استيقظتُ باكراً جداً، حتى قبل أنْ ترتفع الشمس. كان في الإمكان سماع صياح الديكة المتحدي بصفاء على طول الوادي. في الأعماق، فوق المياه وفوق العشب المُخضّل بالرطوبة، كان ضباب الليل لا يزال راكداً أبيض ومتماسكاً. لدى مروري على طول حافة المرج كان جزر الأبقار الأبيض قد نما حتى بلغ طولي، يعلو حتى قمة السياج، جاعلاً الزعرور البري يصطبغ بقليل من التورّد. كانت طيور صغيرة مبكرة – لم أكن قد سمعت القبّرة – ترفرفُ داخلة خارجة من وإلى بحر المرج المُزبد، غائصة  تحت مدّ الأزهار مندفعة نحو إحدى الزوايا، ثم خرجت متهادية من جديد، مارة بسرعة من أمام مشعل الحمّاض. تحت زبد الأزهار كانت أجمات البيقية القرمزية، والأصفر والحليبي، واللون الوردي المتناثر لعشبة القمل، ونجوم المرغريتا الطافية. كان هناك حِملٌ من صريمة الجدي على الأسيجة، حيث الورد الوردي يستيقظ استعداداً لانتشاره الواسع في أرجاء النهار.

   لوَّن الصباح صفوف الجزازات في المرج النائي باللون الفضي،  وانساب بمنحنيات ناعمة، براقة حول حجلرة الجدول؛ وتغلغل الصباح في شراييني، وتسابق الصباح مع السمك الفضي، المندفع بسرعة من الأعماق، وأنا، الذي شاهده، فرقعت أصابعي له، وجعلته يتراجع. 

   سمعت تريب ينبح، فهرعت في اتجاه البركة. كان القارب  عند الجزيرة، حيث تمكنت من خلف الأمات أنْ أسمع جورج يُصفّر. ناديت عليه، فاقترب من حافة المياة نصف عار.

   هتف ” أحضِر منشفة، وتعال “

   رجعتُ بعد بضع لحظات، فرأيت صاحبي شيرون  يُرفرفُ في الهواء البارد. تقدّمنا بدفعة قوية واحدة نحو الجزيرة الصغيرة. أسرعت بخلع ملابسي، لأنه كان مستعداً لنزول الماء، وتريب يقفز في المكان، ينبح بفرح لمظهره الجديد. 

   قال، ضاحكاً، مُبعِداً الكلب بقدمه العارية مُداعباً،  ” إنه يتساءل ماذا ألمَّ بي “. قفز تريب مبتعداً، ثم قفز متقدماً، ولعقه بلعقات صغيرة كأنه يُداعبه. وبدأ يلعب مع الكلب، وأخذا يتدحرجان على العشب النضر مباشرة، الرجل العاري، الضاحك، العنيف، والكلب المتحمس، الذي أقحم رأسه الضخم على وجه الرجل، يلعقه، وعندما ارتمى مبتعداً، عاد فاندفع إلى الأمام، عاضاً بمزاح الذراعين والصدر العارية. وأخيراً استلقى جورج على ظهره، ضاحكاً يلهث، مُمسكاً تريب من قائمتيه الأماميتين المغروزتين على صدره، بينما أقحمَ الكلب، اللاهث أيضاً، رأسه نحو الأمام لكي يلعق بشكل متقطع نحره، فدفعه إلى الخلف نحو العشب، وأصبح الفم بعيداً. وعندما استقرّ الرجل ساكناً هكذا بضع لحظات، واكتفى الكلب بوضع رأسه على عنق سيده ليرتاح هو أيضاً، هتفتُ، فقفز جورج واقفاً، وغاص في البركة معي، ولحق تريب بنا.

   كانت المياه باردة برودة الثلج، جرّدتني برهة من أحاسيسي. وعندما بدأتُ أسبح، سرعان ما أصبحت المياه منعشة، ولم أعد أشعر إلا بشاعرية الحركة الحيوية. ورأيتُ جورج يسبح على ظهره ويضحك لي، وفي الحال أندفع بقوة نحوه. فيختفي الوجه الضاحك عندما يغوص ويهرب، وألاحق الرأس القاتم والعنق المتوردة. ويأتي تريب، البائس، نحونا مُجذفاً، يُقاطعني؛ ثم، في غمرة الإثارة، يندفع نحو الخلف. أقهقه لنفسي عندما أراه يفر هارباً، ثم أغوص متهادياً نحو جورج. كنتُ أُتقدم. حاول أنْ يُبعِد الكلب، وأتقدم بسرعة. عندما أصل إليه وأُمسك به من كتفيه، يتناهى ضحكٌ من الضفة. كانت إميلي.

   ضربتُ المياه، ورششتها بحفنة من الرذاذ. ضحكت واحمرت خجلاً. ثم خاض تريب الماء خارجاً إليها فسارعت إلى الهرب من رذاذه. كان جورج يعوم بجواري مباشرة، ينظر إلى أعلى ويضحك .

   وقف وتبادلنا النظرات وأخذ كل منا يُجفف الآخر. كان متناسق البنية، وصاحب وسامة جسدية طبيعية، وأعضاء ثقيلة. ضحك لي، قائلاً إنني أُشبه أحد شخصيات أوبري بيردسلي القبيحة، النحيلة والطويلة. فأحلته إلى العديد من الأمثلة الكلاسيكية النحيلة، مُعلناً أنني أفضل بكثير من ضخامته، فتسلّى بكلامي.

   ولكن كان ينبغي أنْ أستسلم، وانحنيتُ له باحترام، فاتخذ مظهر المتسامح، الرقيق. ضحكت واستسلمت، لأنه لم يكن يعلم أنني مُعجَب بنبل، وبياض إيناع شكله. وبينما كنتُ أراقبه، وقف بارتياح أبيض أمام كتلة من الخضرة. أخذ يصقل ذراعه، ماداً إياها باستقامة وصلابة؛ دعك شَعره حتى أضحى مجعداً، بينما كنتُ أراقب عضلات صدره الضخمة، والأطواق بارزة في عنقه وهو يشدّه؛ وتذكرتُ قصة أنابل.

   رأى أنني نسيتُ أنْ أتابع الدعك، فأمسك بي وهو يضحك وأخذ يدعكني بخفة، وكأنني طفل، أو بالأحرى، امرأة يحبها ولا يخشاها. واستسلمتُ باسترخاء بين يديه، ولكي يُمسك بي بصورة أفضل، طوّقني بذراعه وضغطني عليه، وكانت عذوبة تلامس جسدينا العاريين فائقة. لقد أشبعت بصورة ما اشتياق روحي المُبهم، الغامض؛ والأمر نفسه بالنسبة إليه. وبعد أنْ انتهى من دعكي حتى أصبحتُ دافئاً، حررني، وتبادلنا النظرات بعيون ملؤها الضحك الساكن، وكان حبنا للحظة مثالياً، بل أكثر مثاليةً من أي حب عرفته حتى ذلك الحين، سواء لرجل أم لامرأة.

__________________________________

من رواية “الطاووس الأبيض”

الصورة من أعمال المصور السوري أشرف زينة.

زوروا موقعه www.zeinah.net للتعرف أكثر على أعماله الفوتوغرافية المميزة.

*****

خاص بأوكسجين


مساهمات أخرى للكاتب/ة: