وحش أخضر العينين
العدد 245 | 08 تموز 2019
عائشة أحمد


أتخيلهما معاً: هي في البالطو الأبيض، وكمامة طبية ذات لون أزرق فاتح، تغطي نصف وجهها، والنصف الآخر يختفي وراء نظارات مظللة وعاكسة. تنحني عليه وتلقي الأوامر بآلية: “أعد رأسك للخلف قليلاً، التفت يميناً، اقترب مني أكثر، انظر لليسار الآن، إلى الأمام من فضلك، افتح أكثر، هكذا جيد، شكراً، أغلق فمك، عض، أرخِ شفتيك.”

في عمق الحجرة نافذة عريضة تسرب نوراً ضعيفاً مقارنة بالإضاءة البيضاء الحادة المنصبة من السقف السالتكس بمربعاته العريضة، ونباتات ظل موزعة هنا وهناك: على إفريز الشباك، والأكبر قليلاً على الأرض، وأخرى في أصايص صغيرة مدلاة من فوق وتمتد فروعها الناحلة ووريقاتها المصفرة على طول الإطار المعدني للنافذة. ثم هنالك رائحة المعقمات التي تنبعث من البلاطات اللامعة والممسوحة حديثاً؛ الرائحة التي تقلب معدتي. وهي كما أسلفت في البالطو الأبيض شعرها قصير ملموم للخلف في ذيل حصان، خفيف لأنها لم تعد شابة، ونهداها عامران يكادان يقفزان من فتحة القميص الحريري الذي ترتديه تحت البالطو -قطعاً ليس حريراً طبيعياً. أراهما هكذا: هي تدنو منه أكثر فأكثر، وأحد ذراعيها يتكئ على صدره، وأصابعها في القفازات حليبية اللون بين فكيه المتشنجين. أما هو، فالضوء المصوّب باتجاهه يكاد يُعمي بصره، وهي تستغل هذا لتقترب محتكة به عمداً وأحياناً عن غير قصد، وهو يستمتع بهذا متناسياً ألم ضرسه.

أتخيل كل هذا وتندفع الغيرة، “وحش أخضر العينين” كما يصفها شكسبير، ومع مرور كل هذا الوقت، وتجارب شبيهة في علاقات سابقة، لا زلت لا أعرف كيف أصفها، أهي وحش أخضر العينين فعلاً؟ أم بقعة نفط على وجه البحر؟ بقعة ضخمة جداً، ولزجة جداً لكنها متماسكة، ولا تختفي مهما حاولت التخلص منها، وقادرة تماماً على تلويث محيط بأكمله. بقعة سوداء لا أدري كيف أتعامل معها.

لكن هل من السهل تعلم ذلك؟ ينسحب صوتي، ويغدو باهتاً إذا حاولت أن أنطق، وكذا الدم ينسحب من جسدي. لا أدري إلى أين يذهب، لكني أشعر بانسحابه في برودة تجتاح أطرافي وتنميل يخز شفتي، ودوّار خفيف يهبط عليّ. قلبي يرتعش. ثم وفي لحظات أتحوّل، أجدني أغلي، حرارة تجعلني لا أكاد أطيق منامتي الخفيفة. رأسي نار موقدة. أشتم بصوت عالٍ؛ سيل من البذاءة لم أكن أدري بأني أحفظها. أخلع ثيابي، وأجرجر قدمي متثاقلة إلى الحمام. أقف تحت الدش، وأفرك وأفرك حتى تحمّر بشرتي، وتدمي ركبتاي. وأشعر بالاختناق، بعد أن يعود لي البرد وأترك الماء الساخن ينهمر على ظهري، والبخار يلف الحمام في ضباب لا ينقشع. لكني آخذ نفساً طويلاً، وأتلهى بتنظيف أظافري بفرشاة لها مقبض خشبي له انحناءات تتماهى وراحة اليد، شعيراتها الفاتحة خشنة بعض الشيء، تروح وتجيء عشرات المرات حتى يرق الجلد حول الظفر، وأخاف أن أجرحه أكثر فأتوقف، لأني أعشق يديّ. أسكب المزيد من الشامبو على شعري، أشطفه، وأكرر العملية أكثر من مرة كما تقترح النشرة الإرشادية على ظهر العبوة، ولما أشعر بنشفان خصلاته، أسكب عليه البلسم بكرم طائي.

أرتدي قميصاً قطنياً جديداً، وأتعطر، أرش من العطر على رسغي، وعنقي، ووراء أذني. وأنا أدرك تماماً أن لا أحد سيشمه. أشعر بشيء لا أعرف كيف أصفه، أم أنه الجفاف في حلقي، وفي أطراف شعري وبشرتي المتيبسة؟ وأومِن بأني كريهة، ولا أستحق أي شيء جميل. ولا شيء ينقذني، ولا حتى المشط العاجي الذي أغرمت به وابتعته مؤخراً من محل هدايا وتحف صغير وفي زاوية مغمورة في المدينة. أمرره مرات ومرات من مفرقي النصفي إلى الأطراف على كلا الصوبين، تتجمع الشعرات بين أسنانه الناعمة وتتشابك معه. وأنا أمام المرآة أتابع قطرات الماء تهبط خلال خصلاتي، ثم تنحل في نسيج القماش الخفيف وتتركه ملتصقاً في بعض المواضع بجلدي، أنظر إليّ في حمامي الأنيق هنا، لكنني غائبة تماماً.

أعود إلى الفراش بعد أن أشعر بهبوط حاد في دورتي الدموية، أستلقي واضعة قدمي على مخدات صغيرة، وأغمض عيني، لكنهما ينطان أمامي. هكذا أتخيلهما معاً: في شقتها الآن، تعيش وحيدة لا بد، بعد أن تطلقت أو ترملت، هل هنالك فرق؟ دون أولاد أكيد -لأنه يكره الأطفال- وشعرها المصبوغ والخفيف سائب على كتفيها العاريين، وعيونها واسعة، ووجهها ربما مدور، وممتلئة قليلاً كما يفضل. تعد له سمكاً غالباً، لأنها كما قال لي “متدلهة بحبه”، وهو؟ يقول بأنها تحبه أكثر، وأنا؟ يرد بأنه لا يدري، ولا أنا أدري.

لا يقصد أن يوجعني، هذا ما يردده، وأنا أكاد أشم رائحة زفر السمك التي تتصاعد من مطبخها الضيق، ولا تقلق بشأن الجيران؟ لا، إنها تدخل وتخرج معتدة بنفسها، لأنها طبيبة ربما، أو لديها أصدقاء كثر من كلا الجنسين، لا يوجد فرق. يضاجعها ويغتسل في حمامها، وقد يصلح لها لمبة الصالة التي تومض منذ وقت وباتت تزعجها، أو صنبور مغسلة المطبخ الذي ينقط، لكن لا، لم يكن يوماً جيداً في هذه الأمور. غالباً سيجلب فرشاة أسنان له –بسبب وساوسه فيما يتعلق بالنظافة الشخصية- ويضعها بجانب فرشاة أسنانها، وقد يترك غياراً أو اثنين في خزانة ثيابها للحالات الطارئة. لكن هل أحدها هدية مني؟ هل يقابلها بقميص أنا ابتعته له؟ ولا أشعر بالغضب إزاء هذا، لكن يتملكني الحزن.  

يتملكني الحزن كما تملكني على الحب الطويل الذي لا أعرف ما أنا صانعة به. وأسأل نفسي ما هي المدة المناسبة للوقوع في الحب؟ شهر، اثنان، ثلاثة؟ أم أن الأمر أعمق قليلاً؟ يحتاج لكتابين، أو فيلم أو قصيدة ملائمة؟ يستغرقني الأمر، ولا أفكر سوى في عدد الأيام التي نحتاجها لكي يدق قلبنا تجاه شخص ما، إذا ما حضر اسمه صدفة في حوار، أو دق الهاتف حاملاً صوته، أو رنت رسالة قصيرة تحوي أي شيء من طرفه. في فيلم روماني، شاهدته البارحة، لم يحتج البطل إلا خمسة شهور ليترك زوجته، والدة ابنته التي يدللها كثيراً، منتقلاً للعيش مع صديقته الأصغر سناً. خمسة شهور فقط، لا خمس سنوات.

يستغرقني هذا، وأغيب في النوم بعد أن ابتلعت أقراصاً منومة، وأحلم. أحلم أني مكانها، في العيادة ذاتها، في البالطو الأبيض، وهو على الكرسي البني الذي يعلو ويهبط بضغطة زر، محاطاً بكل تلك الأجهزة البراقة، وأراني أقترب منه ووجهي مختفٍ وراء القناع، وهو يظن بأنه آمن بين يديها لأنها طبيبة لطيفة كما قال لي، لا بد أنها تعتذر كلما أوجعت مريضاً. أميل فوقه، وأسلط الضوء على وجهه، يغشاه ويعميه، وأنا في غفلة منه أبسط يدي باتجاه الممرضة التي تمرر لي فوراً جهاز حفر الأسنان الدقيق واللامع، بإبرته الحادة. أحشره في فمه بحرفية، وأعمل به، يزّن كما الحفارة التي تنقب في الأرض، ورذاذ الماء المتطاير من الجهاز يلوث ثوبي وشعري الجميل الطويل الذي ما زال محتفظاً برونقه، يزعجني الصوت والماء، لكني أستمر في الحفر حتى تغدو أضراسه رقيقة وهشة كما حلوى الميرانغ، تنكسر على بعضها من إطباق فكيه فحسب، وأتخيله كما يستحق وكما يجب، كهل مريع من دون أسنان. لكن هذا لا يشفي غليلي، ولا يسعدني.

أصحو من الحلم هذا، وأول ما يخطر لي هيئتهما معاً، بعد الحب، مضطجعان في الفراش راضيان وهانئان ويروح هو سريعاً في الشخير كعادته. هل تتمنى ساعتها أن يتوقف الزمن لتحتفظ بلحظة الغبطة هذه كما كنت أفعل. سألتُه عن اسمها ولم يجب. قال بأني لا أعرفها، ومثل مراهقة تقتفي أثره، ذكرت له اسمين لطالما شككت فيهما، لكنه يقول “لا” باتة وقاطعة، ويؤكد بأنها طبيبة وبأني لا أعرفها. لكن هل تعرفني هي؟ لا أسأله. وهل حدثها عني كما فعل معي عن الأخريات؟ وما سيكون لقبي يا ترى؟ كانت هناك المهووسة به، تلك التي تحتفظ بقميصه الداخلي غير المغسول قبل أن يغادرها. وكانت هناك السمينة التي تحتاج، إن هي أرادت أن تضع ساقاً على أخرى، أن تستعين بيدها لرفع فخذها المكتنز. وهناك أيضاً الشاحبة الكئيبة، ومن أيضاً؟ فقدت ذاكرتي، لأن كل ما يدور في رأسي الآن، ما عساي أكون في ثرثرتهما ما بعد الحُبّ، وهي تتغنج له، بينما يعد لها هو القهوة، على طريقته الخاصة.

ينقض عليّ الوحش أخضر العينين ويخطر لي أن أكلمه كيما أسأله: “ما هو اسمي الآن؟”

*****

خاص بأوكسجين


كاتبة من قطر.

مساهمات أخرى للكاتب/ة: