هدية رأس السنة
العدد 191 | 21 أيار 2016
ممدوح حمادة


هدية رأس السنة

 

أكره اللصوص، وخاصة أولئك الذين يسرقونني شخصيا، كما أكره حمل الأكياس وأفضل ترك يدي حرتين، ولذلك تربطني علاقة مقدسة بحقيبة الكتف، أعلقها على كتفي وأنساها تماما، وأكره المشافي والمستوصفات، وأشعر بالغثيان كلما دخلت إلى مثل هذه المؤسسات، وأكثر شيء أكرهه هناك هو الفحص الطبي الذي يفرضونه علينا كل عام، ولم أذهب إليه بشكل طوعي ولا مرة في حياتي.

في كل عام أتأخر عن الذهاب لإجراء الفحص في الموعد المحدد لذلك، آملا أن يتجاهلني المستوصف فأتخلص من إجراء التحاليل، لكن المستوصف لا يتجاهلني، وتبدأ مشاكلي معه من نهاية الشهر السادس، حيث أعود في أحد أيام هذا الشهر فأجد قصاصة معلقة على بابي:”عليك مراجعة المستوصف فورا”، أتناول القصاصة، أقرأها ثم أمزقها وأرمي بها في سلة القمامة، أشعر بالامتعاض قليلا ولكنني أتابع حياتي بالشكل المعتاد، وأكاد أنسى موضوع الفحص الطبي، ولكنني بعد شهر بالتحديد أعود فأجد على بابي قصاصة أخرى كتب عليها نفس العبارة:”عليك مراجعة المستوصف حالا” أمزقها أيضا وأرمي بها في سلة القمامة، وأتابع حياتي لعلهم في المستوصف ينسون أمري، ولكن العملية تتكرر بعد شهر أيضا، أعود فأجد القصاصة وأمزقها إلى أن يحل شهر كانون الأول الذي يحمل الرقم 12 من السنة ولهذا أيضا أكره الرقم 12، ففي الخامس عشر من هذا الشهر أعود فأجد على بابي نفس القصاصة وقد أضيفت إليها عبارة تهديد: “عليك مراجعة المستوصف وإلا ستتخذ بحقك كافة الإجراءات القانونية” والإجراءات القانونية هذه تعني طردي من مسكن الطلبة، عندها لا يبقى أمامي مخرج  فأذهب إلى المستوصف.

أحمل سجلي الصحي وأدخل العيادات تباعا، يسألني الأطباء: (هل تعاني من شيء؟) فأجيب : (لا)، يوقع الطبيب وأمضي أنا إلى عيادة أخرى للحصول على توقيع آخر، في قسم تحليل الدم يأخذون عينة من دمي للبحث داخلها عن فيروسي الإيدز والسفلس، منظر الدم لم يكن يزعجني فقد تعرضت في حياتي لجراح كثيرة وقد اعتدت على رؤية دمي ينزف، ولكن الذي كان يبعث في نفسي شيئا من القلق هي تلك الكمامات والقفازات التي كانت ترتديها ممرضات ذلك القسم فتولد لدى الشخص إحساسا بأنه موبوء، كما أن الانتظار عشرة أيام لمعرفة النتيجة كان يبعث على الاضطراب، خاصة إذا كان الإنسان قد ارتكب إثما دون أن يتخذ إجراءات الأمان، ومع ذلك فإن الإزعاج الذي كانت تسببه تحاليل الدم لا يقارن أبدا مع الإزعاج الذي تسببه التحاليل الأخرى التي يجب على الشخص إحضارها صباح اليوم التالي  على الريق في زجاجة وعلبة كبريت.

هذه التحاليل كانت مهينة،فإضافة إلى أنها تبعث على القرف، كان حملها إلى المستوصف مشكلة حقيقية، فإن وضعت البضاعة في حقيبة الدراسة أخشى أن تنفتح علبة الكبريت أو تندلق الزجاجة بين دفاتري وكتبي، ومجرد التفكير بأنني أحملها في جيبي يبعث على الاشمئزاز، لذلك كنت مضطرا أن أحملها كل مرة في كيس منفرد أكره حمله كما قلت، وفي هذا العام أردت فعل الشيء نفسه، ولكنني لم أعثر على كيس فمزقت صفحة من الجريدة وقمت بلف علبة الكبريت بها، ثم مزقت صفحة ثانية من نفس الجريدة وقمت بلف الزجاجة، وضعت علبة الكبريت في حقيبة الدراسة وحملت الزجاجة لأنني خشيت أن تندلق، فقد كانت مغطاة بقطعة شفافة من كيس بلاستيكي ومربوطة حول الزجاجة بمطاطة، ماذا لو انقطعت المطاطة؟ سأحملها بيدي.

نزلت إلى الشارع أحمل بيدي الزجاجة الملفوفة بصفحة الجريدة، ولكن إحساسا تولد لدي بأن الناس جميعهم يعرفون ما الذي أحمله دفعني لأن أتوقف عند الكشك الذي كان على الرصيف كي أشتري كيسا أضع فيه الزجاجة وعلبة الكبريت.

لم يكن في الكشك أكياس بلاستيكية، كان هناك فقط أكياس ورقية بيضاء لامعة مخصصة لهدايا رأس السنة، وقد رسم على كل منها “بابا نويل” والحسناء التي ترافقه و قد كتب فوقهما “كل عام وأنتم بخير بمناسبة رأس السنة”، اشتريت الكيس رغم أن سعره مرتفع قليلا ووضعت فيه الزجاجة ثم أخرجت علبة الكبريت من حقيبتي ووضعتها فيه أيضا.

صعدت إلى الترامواي وجلست هناك على مقعد منفرد ووضعت الكيس في الممر قرب المقعد وأخذت أنظر من النافذة أراقب الطريق ريثما أصل إلى المحطة القريبة من المستوصف.

كان الترامواي قد قطع ثلاث أو أربع محطات عندما شاهدت شخصا يعبر الطريق مسرعا إلى الجهة المقابلة، ينظر إلى الخلف وفي يده كيس يشبه كيسي، هكذا تصورت في بداية الأمر(كيس يشبه كيسي)، ولكن بعد دقائق، عندما اكتشفت أن الكيس الذي كان قربي في الممر غير موجود أدركت أنه الكيس الذي كان في يد الرجل هو كيسي تحديدا.

شعرت بالانزعاج لأنني سأضطر لتكرار العملية، ولكن ذلك اللص كان أول لص لا أشعر نحوه بكراهية، لقد شعرت نحوه بالشفقة، ماذا سيكون انطباعه عندما ينزع صفحتي الجريدة عن الزجاجة و عندما يفتح علبة الكبريت؟

 

الرائحة

 

منصة المراسم التي فرشت درجاتها بالسجاد الأخضر وتوزعت عليها الكنبات والمقاعد الخالية، تحتل شاشة التلفزيون منذ الصباح الباكر، الكاميرا الثانية التي ينتقل إليها المخرج أحيانا، ترصد أسفل المنصة، حيث دبت حركة نشيطة حولت المكان إلى خلية نمل حقيقية، عسكريون من ضباط صغار وصف ضباط وجنود يروحون ويجيئون، لا نسمع صوتهم ولكننا نرى حركاتهم المتشنجة، ومدنيون يبدو أنهم فنيون، بعضهم يجر أسلاكا وبعضهم يشد براغي أو يدق مسامير، والبعض ينادي أحدا ما خارج الكادر، صوت المذيع يصدح بالشعارات الوطنية التي اعتاد عليها الجمهور منذ خمسين عاما، المراسلون يلتقون بعضا من المدعوين الذين ازدحموا على المنصات الملحقة منذ ساعات وقد حمى معظمهم الرؤوس من أشعة الشمس الحارقة بيده أو بجريدة في يده أو بأشياء أخرى سمح باصطحابها، هذا فنان مشهور يسألونه عن رأيه بالمناسبة فيشيد ويعدد الانجازات ، وذلك أستاذ جامعي يشيد أيضا ويكرر نفس الانجازات، وآخر مؤرخ  يشيد ويكرر الانجازات عن ظهر قلب كما لو أنها قصيدة يجب تلاوتها في الامتحان،غير أنه يضيف على من سبقه في الحديث، الأثر العميق الذي تركته هذه المناسبة على حركة التاريخ، كل شيء يدل على عظمة المناسبة التي تجمع هؤلاء وسُخّرت لها شاشة التلفزيون منذ ساعات الصباح الأولى في بث حي ومباشر.

مرت ساعات على هذه الحال قبل أن تشرئب أعناق الواقفين على المنصات الجانبية وتستدير باتجاه المدخل الخلفي الذي يتوسط المنصة الرئيسية، ويشد قصار القامة منهم قاماتهم ويقفون على رؤوس أصابعهم للتمكن من استراق نظرة إلى الإمبراطور الذي ظهر على رأس رهط من الضباط العابسين والموظفين الحكوميين الذين بدوا بكامل أناقتهم الرسمية، أما المذيع فقد ازدادت نبرته انفعالا وتصاعدت خلجات صوته وأطلق مجموعة جديدة من العبارات التي خصصت لهذه الذكرى، ولشدة انفعاله فقد كان يفقد السيطرة على نفسه وينتحب بين الفينة والأخرى، أفراد الفرقة الموسيقية العسكرية اتخذوا وضعية الاستعداد التي تدربوا عليها وانتظمت صفوف خلية النمل التي كانت تنغل أسفل المنصة من العسكريين بينما اختفى المدنيون ولم يعد يقع في الكادر إلا مصور هنا أو هناك.

وما هي إلا لحظات حتى  كان الإمبراطور يقف في وسط المنصة وقد اصطف الجنرالات وكبار موظفي الحكومة حوله من الخلف وعلى الطرفين، كل على مسافة تناسب مستوى المنصب الذي يشغله، وانطلقت الفرقة الموسيقية، وأعلن المذيع بدء العرض العسكري الذي تم تحضيره على شرف هذه المناسبة العظيمة.

أخذت الكاميرا تتنقل بالتناوب بين الملك وبقية المسؤولين بلقطات قريبة وبعيدة متوقفة على كل شخصية بحسب أهميتها، وكانت كاميرات أخرى نصبت في أماكن ما على المنصة أو تحتها ترصد صفوف الجنود الذين كانوا يصطفون في أرتال منتظمة على مسافة من المنصة في انتظار أن ينتهي الملك من إلقاء كلمته التاريخية المقتضبة.

ولكن وأثناء بعض اللقطات القريبة، رصد المخرج انفعالات غريبة على وجوه الشخصيات التي ملأت درجات المنصة، انفعالات بدا فيها تذمر واضح من أمر ما، وكان الجميع يسترقون بأطراف عيونهم نظرات نحو الإمبراطور وكأنهم في انتظار أمر ما يوجهه لهم، حتى الإمبراطور لم يكن هو الآخر بخير، فقد ارتسمت على وجهه ملامح لا تدل إلا على القرف، فصل المخرج الكاميرات التي كانت ترصد اللقطات القريبة واكتفى بتلك التي كلفت باللقطات العامة وبالكاميرا البانورامية التي كانت  في حوامة تحلق فوق المكان.

لم يتمكن الإمبراطور من الاحتمال حتى ينتهي من إلقاء الكلمة فرفع يده اليمنى وسد  أنفه بسبابتها وإبهامها، وأكمل السطرين المتبقيين بخنة واضحة، وقد كان ذلك بمثابة الإذن لجميع نزلاء المنصة والمدرجات لكي يقوموا بنفس الفعل، فقد سارع الجميع بانشراح واضح إلى رفع الأيدي لسد الأنوف.

صعقت المفاجأة المخرج الذي أمر عبر جهاز اللاسلكي بتوجيه الكاميرات على الفرقة الموسيقية.

في الفرقة الموسيقية توقفت كافة الآلات النفخية عن العزف بعد ان سد العازفون أنوفهم ولم يبق على راس عملهم سوى قارعي الطبول الذين سد كل منهم أنفه بيد، وتابع قرع طبله باليد ألأخرى.

صاح المخرج عبر جهاز اللاسلكي آمرا بنقل الكاميرات على صفوف الجنود التي أخذت تتقدم، وقد كان ذلك مخرجا بالفعل، فقد كانت أرتال الجنود تتقدم من المنصة بخطى منتظمة لأرجل تكاد الأرض تهتز حين تصطفق بها النعال.

تنفس المخرج الصعداء لأنه عثر على ما يمكن إظهاره على الشاشة، واسترخى على كرسيه في عربة النقل قليلا، بل وشعر بشيء من الاستمتاع في متابعة هذه اللوحة الفنية التي يرسمها الجنود، آلاف مؤلفة من الأرتال تتحرك حركة واحدة مصدرة صوتا واحدا، أمر يبعث على الهيبة.

ولكن ذلك لم يدم طويلا فما إن وصلت طلائع الأرتال إلى أمام المنصة حتى دبت في أوصالها الفوضى، واختل إيقاعها وكأنها قطعان من الماشية هاجمتها الذئاب، حيث رفع الجنود ايديهم إلى أنوفهم وأغلقوها وأخذوا  يتراكضون مبتعدين عن المنصة.

-كل الكاميرات على الأرتال الخلفية.

صاح المخرج عبر جهازه اللاسلكي، ولكن الأرتال الخلفية كانت قد سدت أنوفها أيضا، مما جعله يصيح:

-إلى السماء.. كل الكاميرات إلى السماء.

وهكذا احتلت شاشة التلفزيون سماء زرقاء تعبرها سحب بيضاء، ومن مكبرات الصوت فيه كانت تنبعث أصوات لطبول تخلو من أي إيقاع، وصوت المذيع الذي لا يزال يطلق الشعارات ولكن بخنة واضحة.

الجماهير التي كانت تتابع وقائع العرض على الشاشة، لم تستغرب ما حصل،  فهي كانت قد سدت أنوفها من أن حصلت تلك المناسبة التي يحتفلون بها اليوم.


كاتب وسيناريست من سورية. كتب العديد من المسلسلات الدرامية السورية التي حققت نجاحاً كبيراً منها: "ضيعة ضايعة"" بجزأيه، ""بطل من هذا الزمن""، و""الخربة""، و""ضبو الشناتي"" وغيرها الكثير. من مؤلفاته: ""فن الكاريكاتير من جدران الكهوف إلى أعمدة الصحافة"" وأعمالاً قصصية منها: ""المحطة الأخيرة""، و""جلنار""، ومسرحية للأطفال بعنوان ""صانع الفراء"". صدر له مؤخراً عن دار ممدوح عدوان مجموعة قصصية بعنوان ""دفاتر الأباطرة""."

مساهمات أخرى للكاتب/ة: