هبة العقاد.. تعجن الفقد بالألوان
العدد 194 | 07 تموز 2016
أمل شهاب


من الصعب أن ترسم حلماً!

أن تضع فوقه قماشاً مخرّماً و”كرانيش” وقصاصات الجرائد. أن تُقيس العالم بالسنتيمترات والسجون و”كركر” الصوف.. تُخاطب الطفل بداخلك.. تمّد له يدك ليأخذك إلى براءته.

كذلك من الصعب أن توقظ هاجساً آخر الليل حين لا يُهاجم النوم حصونك ولا تستطيع جعله يتلذذ بنصر ما.

البشاعة في الخارج بلا شفقة، القلق الداخلي ليس أقل وطأة.

عبثا تحاول هبة العقاد جعل اللوحة مكاناً آمناً للعيش حين تباغتها تناقضات الأبيض والأسود.

هبة العقاد التي رأيتها في أزقة “باب توما” في ليلة صيفية من ليالي 2009، تمشي وتضحك ثم تبكي وتضحك معاً، وقد كنت شاهدت بعضاً من لوحاتها وأحببتها، وسكنت ذاكرتي بصورة غامضة..صورة الفنان الذي يذهب وراء عينيه.

أغصان محروقة. أوراق الروزنامة التي تنتظر. ثم يأتي ذلك الطائر ليضع طعم الحياة العذب في فمنا، وتلك العيون (أوراق الشجر). اللوحة بالنسبة لهبة هي جدار، وقد يكون جداراً متهدماً تُعيد بناءه، أو جداراً مرشوقاً بالدم، مرشوقاً بالرصاص، ألصقت عليه رسائل من أصدقائها المعتقلين.. دفتر العائلة بأختام وتواقيع.

السجن الأول.. الثورة الأولى.. وقد قامت بها منذ فُرض عليها الحجاب في التاسعة من عمرها ولتبدأ العمل وهي في الثامنة عشرة وتدرس الفنون الجميلة في “جامعة دمشق”. كل هذا نعم كان ثورة فردية خاصة على العادات والتقاليد والأعراف والموروث الثقافي في حي “الميدان” الشعبي في دمشق الذي سيصبح مسرحاً لمشاركتها في ما شهدته سورية عام 2011 ونشاطها الطليعي في الثورة السورية، إذ كانت أول امرأة تخرج إلى “ساحة القاعة” في حي “الميدان” الدمشقي، حيث قادت المظاهرات هناك وأعدّت اليافطات والشعارات وقدّمت المساعدات، ثم لاحقتها أجهزة الأمن فانتقلت إلى حلب بينما اعتقل أخوها واستشهد تحت التعذيب، ثم هاجرت إلى أوروبا والسويد تحديدا.
حين كانت في الجامعة تخيلت سورية ذات يوم: لوحة مؤلفة من قسمين مقطوعة بلون الدم الأحمر، واللوحة كلها بثلاث ألوان هي ألوان العلم السوري. وللأسف هذا التصوّر أمسى اليوم حقيقة مؤلمة.

كل هذا يبدو جلّياً واضحاً في أعمالها، في العتمة حيث تصبح الأضواء وميضاً خافتاً، تأتي أشباح بيضاء، لكن لها أصابع مليئة بالهدايا، وحين تصدّق تلك الصور والخيالات فإنها تجري في العروق إلى نهايات أعصاب الأنامل وذلك الخدر اللذيذ أثناء تدّفقها إلى الخارج، إلى بياض ناصع وجائع. ماهرة هي في فضح أسرار كائناتها وشخوصها، بارعة بتعريتهم ومواجهتهم، نجد الحمار الذي يقتل العصفور، والقُبلات الخائفة المستنفرة، والأعضاء الذكرية المنتصبة.

مازال “شارع الباكستان” يحتفظ بخطواتك جيئة وذهاباً، ثم لن يسعك فهم إرادة الأرصفة التي رمت بك إلى بلاد بعيدة، ومن المؤكد استحالة تعويض دفء شمس الشام بنظام التدفئة المركزي، لكن في تلك المساحة الباهرة من السواد، غرفة أسئلة مأزقنا الوجودي، ثم المحرقة السورية، بإمكاني أنا والكثيرون أن نصدّق بما تقولينه بأنه درب خلاصنا الفردي، أن تعجني الفقد بالألوان وتحوليه إلى مظلة، أن تختصري أدائكِ إلى عين مفتوحة على اتساع العالم وضيقه في صدركِ.. في وقت الأبواق والثرثرات والصخب لديك ما تهمسين به لنفسك بيقين قلبك “أنا بخير”.

*****

خاص بأوكسجين


فنانة وكاتبة من سورية