نجوم تحت فروة رأسي
العدد 168 | 09 آذار 2015
عماد فؤاد


كالنّائم، ولم أكن بنائم

أفتح عينيّ على وجوه كثيرة تتوالد من بعضها البعض..

وكالحالم، ولم أكن بحالم، أشعر بجسدي يطفو كأنّه فوق ماء، تخفُّ أعضائي وأسير – إن سرت – كما لو كنت أضرب السّحابات تحت قدميّ، الأصوات تختلط مع نداءات وصرخات وهتافات وأغنيّات مبحوحة تأتي من جبّ عميق، وأشعر بكفوف وأصابع كثيرة تجذبني أو تدفعني أو تلامسني في أماكن متفرّقة من جسدي، لا أعرف إن كنت أتنفّس أم أنّ شفتين تطبقان على شفتيّ وتدفعان الأنفاس إلى رئتيّ، فكَّرت أنّني بحاجة إلى سيجارة كي أفيق قليلاً وأستوعب ما يحيط بي، رأيت ميشيل منحنية على صدري وهي تصرخ قرب أذني بكلمات لا أتبيّنها ولا أسمعها، كانت تضحك وتملأ الدّموع عينيها الحمراوتين، رأيت عرقاً كثيفاً فوق جبينها وعنقها العفيّ الطّويل، رأيت حبَّات عرق شفّافة ومصقولة تنزلق في المجرى الشَّهيّ بين نهديها، رأيت خيط سوتيانها التّركواز وميَّزت الدّانتيلا الحمراء التي تزيِّن حوافّه، هممت بأنّ أقول لها إنّني أريد سيجارة، فحرّكت شفتيّ ولم أسمع صوتاً يخرج من بين شفتيّ، لا أعرف إن كنت جالساً أم راقداً أم واقفاً، لكنّني أحسست فجأة بأنّ حلقي ناشف مثل حطبة، وأريد لو أشرب، حرّكت رأسي يميناً ويساراً أبحث عن ماء فلم أرَ ماءً، نظرت حولي أبحث عن ميشيل كي أطلب منها أن تسقيني، فوجدتها راكعة بالقرب من قدميّ، شعرها الأحمر مشعّث، ونهداها يكادان يسقطان من عشَّيهما الحريريّين، كانت تهتزُّ في حركات هيستيريّة راقصة على وقع الموسيقى، رفعت رأسي شاعراً بكرة من حديد تتركّز خلف دماغي تماماً، فاصطدمت رأسي بشيء صلب، عرفت أنّني جالس وأنَّ رأسي سقطت منِّي كما لو كانت حجراً واصطدمت بحافة مسند المقعد، زاد الألم من شعوري بجفاف حلقي، فرفعت ذراعي اليمنى لأمدّ يدي وأتحسّس عنقي، كنت عرقاناً، مسحت قطرات العرق عن عنقي وصدري متأفّفاً، ودرت بعينيّ أبحث عن أيِّ شيء أشربه لأكسر هذا العطش، وجدت كوباً من البيرة منسيّاً على الطّاولة القريبة منِّي، ودون أن أتردّد، رفعته وأفرغته كاملاً في فمي، منتشياً بجرعة البيرة الشّقراء تنساب باردة في جوفي.

 

 كنت دائخاً، وخدر كامل يسري فيّ ويتخلّل مسام جسمي، زادت رغبتي في التّدخين بعد جرعة البيرة المنعشة، فأدخلت يدي في جيب بنطالي أبحث عن علبة سجائري، وجدت القدّاحة ولم أجد السّجائر، نظرت حولي أبحث عن حقيبة ميشيل ذات الزّهور فوق المقاعد المجاورة وبين السّيقان العديدة التي ترقص من حولي، لم أجد شيئاً، كانت هناك حقائب كثيرة، والطّاولة أمامي مفروشة بعلب سجائر من مختلف الأنواع والماركات، قرّبت أصابعي وفتحت واحدة دون أن أرفعها عن الطّاولة فوجدتها فارغة، فتحت الثّانية، الثّالثة والرّابعة والخامسة، كانت كلّها علب فارغة، في إحدى المنافض وجدت سيجارة أشعلها أحدهم وتركها حتى انطفأت شعلتها، تناولتها وأشعلتها وأنا أشدّ الدّخان بشراهة، تذوَّقت طعم طلاء شفاه بين شفتيّ، سريان الدّخان عميقاً في رئتيّ أشعرني بأنّ نجوماً صغيرة وكثيرة تلمع تحت فروة رأسي، نفثت الدّخان بلذّة، فرأيت النّجوم تخرج مع الدّخان وتلتصق بالوجوه التي تهتزُّ وتختلط في بعضها البعض من حولي.

 

 لم أكتشف للوهلة الأولى سبب سقوطي، ربما ترنَّحت أو دفعني أحدهم في رقصه، ربما دُخت ولم أستطع أن أحفظ توازني، لم أشعر بألم نتيجة السّقوط، شعرت أكثر باسترخاء واستسلام لسقطتي، رفعت رأسي قليلاً ودرت بعينيّ في نصف دائرة جهة اليسار، كانت السّيقان هي كلّ ما أراه، سيقان وأفخاذ عارية أو مكسوّة، تحت تنُّورات وسراويل ساخنة قصيرة وضيّقة، سيقان في بنطلونات بألوان مختلفة من الأقمشة والچينز، وجدت عينيّ تتوقّفان طويلاً على ردفين خلاسيّين كانا يرتجَّان تحت تنُّورة كتّانية بيضاء، كانا يرقصان ويتحرّكان بخفة ساحرة على وقع الموسيقى، لمحت خيط الحرير الأبيض الرّفيع الذي ما يكاد يُرى، يفرِّق بين استدارة الرّدف والرّدف، كان الزّحام قد خفّ، وأصبحت أتنفّس وأنا مستلق على الأرض براحة أكثر، وقبل أن أشعر بالإثارة تصل إلى ما بين فخذيّ، وجدت ميشيل تسقط فوقي بكامل جسدها وهي تضحك، كانت سكرانة تماماً، للتوِّ أيقنت أنّني أيضاً كنت سكراناً، كنَّا مخدَّرين إلى حدّ التّشبع، ضحكتها الهيستيرية التي وصلت إلى أذنيَّ وهي ترمي رأسها فوق صدري، أصابتني أنا الآخر بعدوى ضحك لم أفهم مبرّره ولم أستطع إيقافه، سمعت حوافَّ كلمات تخرج من فمها وهي تضحك، وما أن أتبيّن كلمة ما منها، حتى تهرس أنياب ضحكاتها وهي تغالب دموعها بقيّة الكلمات، لتخرج الحروف مبتورة الأطراف أو محطَّمة تماماً، فأغرق من جديد في ضحك لا نهاية له.

 

 جذبتني ميشيل وأوقفتني لنسير ونحن نتساند أحدنا على الآخر، كنَّا نتمايل ونصطدم بالآخرين، لا أعرف كيف وصلنا إلى باب ثُبّتت عليه علامة الخروج الخضراء، دفعت الباب بذراعي الأيمن فيما يرتاح ذراعي الأيسر كلّه فوق كتف ميشيل، انفتح الباب على درج واسع أقلّ عتمة من الدّاخل، كان للدّرج اتجاهين، عن يميننا درج هابط وعن يسارنا درج صاعد، تركت الباب ينغلق وتهاويت على الأرض وظهري للحائط، تهاوت ميشيل جواري وهي تضحك، لم نكن وحدنا على الدّرج، كان هناك آخرون يتوزّعون فوق الدّرجات الصّاعدة أو الهابطة، كانت رائحة المكان خليط عجيب من الرّوائح، شممت أدخنة ماريجوانا وحشيش وعطور نفّاذة ومَنيّ ورطوبة وطلاء جدار حديث، أعطتني ميشيل سيجارة وما أن أشعلتها حتى مالت على أذني وهمست بشيء ما لم أتبيّنه، ثم وقفتْ وفتحت الباب ودخلت قاعة المكان التي غادرناها للتوّ.

 

 تجاهلت انصرافها وأنا أشدّ أنفاس السّيجارة بعمق مالئاً رئتيّ بالدّخان، درت بعينيّ في المكان الذي بدأت عتمته تنجلي رويداً رويداً، بالقرب منِّي رأيت فتاتين جالستين تلفُّ إحداهما سجائر ماريجوانا وتنشغل الأخرى بجهاز آيفون في يدها، أسفل الدّرج الموصّل إلى دورات المياه وقف أربعة فتيان في العشرينيّات يتحدّثون بصوت عال، وبدا أنَّهم ينتظرون فتياتهم يعدن من الحمَّام، أعلى الدّرج كان ثمّة فتى أسود ضخم يجلس ورأس صديقته البدينة الشّقراء يتحرّك بين فخذيه، كانا مسطولين تماماً ولا يشعران بمن حولهما، قبل أن أستمرّ في النّظر إليهما متتبّعاً رأس الفتاة الذي يتلوّى بين ساقيه، انفتح الباب ودخلت ميشيل وفي يدها الفتاة ذات الرّدفين الخلاسيّين.

 

 لم أفهم الأمر في البداية، لكنّ نظرة سريعة إلى ابتسامة ميشيل الخبيثة جعلتني أستوعب الأمر كلّه، وقفتُ وأنا لا أعرف كيف أحافظ على توازني، وميّزت همس ميشيل وهي تقترب مني:

أريد أن أقدِّم لك سيرينا، من البرازيل.

 

* * *

 

 أكره المرايا، أكره الانعكاس الذي يتبدَّى لملامحي كلَّما تأمّلت أثر السّنين على وجهي، تلك الأخاديد الصّغيرة أسفل عينيَّ والتي لا تكاد تُرى، تجعلني أشعر باستسلام لفكرة أنَّ ما مرَّ لن يعود، وأنَّني وإن كنت مازلت صغيرة في العمر، إلا أنّني ضيَّعت الكثير من السّنوات فيما لا طائل من خلفه، عشت حياة عريضة، صحيح، لكنّ نهمي للحياة ما يزال بكراً، حين أسترجع ما مرّ بي خلال سنوات عمري من تجارب وبشر وأماكن، أشعر أنّه كان بمقدوري أن أضاعفه مرَّة أو اثنتين، ثمّة فترات من حياتي كنت أهدأ فيها من سواها، كانت روحي تبدو حينها كما لو كانت قد قطعت مشواراً طويلاً سيراً على الأقدام، وكان عليها أن تستريح قليلاً، أن تغفو كي تصحو أكثر نشاطاً ويقظة، لتواصل مشوارها من جديد، بالنَّهم ذاته، والبكارة نفسها.

 

 المرايا هي العين الوحيدة التي عندما أقف أمامها أكره نفسي، لسنوات طويلة أحببت صورتي في المرآة، أحببت تأمُّل جسدي عارياً مرَّات وتحت الملابس مرَّات أخر، كان جسدي ذاته يتبدّل ويتغيّر حضوره في ذهني مع تغيّر الألوان والموديلّات والموضات، وما من شيء كان يجعلني أصل إلى حالة من الأورجازم النّرجسي، قدر رؤية جسدي يتبدّل حضوره في وعيي من ثوب إلى ثوب، في سنوات مراهقتي جرَّبت كلّ شيء، كان محور اهتمامي الوحيد هو هذا التبدّل السّريع لانحناءات وخطوط جسمي؛ الحلمتان الّصغيرتان وهما تبرزان ويغمقّ لونهما، بطني التي تستدير وتلتفّ بين خاصرتيّ الدّقيقتين، نهداي الصّغيران وهما يبدءان في البروز والاستدارة، ولأنّي تربّيت حرة تماماً من أيّ تعاليم أبويّة أو أموميّة، فقد كان عليّ أن أكتشف كلّ هذه التغيّرات بطريقة فرديّة تماماً، أو بمساعدة صديقات وأصدقاء طارئين في الأغلب، فأنا لم أعرف رفاهية الصّداقات المستمرّة أو الأبديّة التي أسمع الآخرون يتباهون بها باعتبارها كنوزاً، كان عليّ دوماً الاستجابة لتنقّلات أمّ تبدّل أماكنها كما تبدّل عشَّاقها، باولا هي الوطن الوحيد الذي لم أستطع التّخلص منه حتى هذه اللحظة، هي التي علّمتني كيف أكون قاسية بما يكفي، لمحو أيِّ حنين أو ارتباط بأيّ شيء أو أيّ شخص، وكان القرار الأخير دوماً يحسم من قبل الحقيبة الخلفيّة لسيّارة الفولكس فاغن القديمة التي تمتلكها أمّي، فهي التي تقرر ما الذي عليّ الاحتفاظ به وما الذي عليّ التّخلص منه، في سنّ الثّانية عشرة من عمري حدث أن تمرّدتُ على باولا وعلى حقيبة سيّارتها، كان ذلك حين قرّرت عدم الرّحيل دون سريري الخشبيّ الذي أهداه لي أحد عشَّاقها الأثرياء في عيد ميلادي الحادي عشر، وقبل أن أفرح بالسّرير الوثير كان عشيق أمّي قد قرّر التّخلص منها، وعلى وجه السّرعة.

 

 في ذلك الصّباح، رأيت باولا تدخل الغرفة الصّغيرة التي أقيم فيها وتبدأ في جمع أشيائي المبعثرة بهدوء، كانت تتحرّك في الغرفة مشعّثة الشَّعر مرتدية قميص نومها الأبيض الشفّاف، وحين نظرت إليها مستفسرة، قالت إنّ عليّ أن أساعدها وأن أدخل الحمّام لأنَّنا سنرحل بعد دقائق، بكيت صامتة وأنا أستعيد الهجرات السّابقة لنا، وعرفت أنّني سأغادر المكان بأقلّ قدر من اللعب والملابس، جمعت باولا أشيائي الضّرورية في دقائق، وعبّأتها في أكياس بلاستيكيّة، غابت للحظات عن الغرفة وعادت مرتدية أسمال الهيبيز التي كانت ترتديها على الدّوام، لاحظت أن شعرها الغجريّ ترك مشعّثاً على حاله، وجدتْني جالسة فوق سريري وأنا أنظر إليها في تحدّ، فهمت موقفي بسرعة البرق:

ميشيل، علينا الرحيل، والآن.

بقيت أنظر إليها بالتّحدّي ذاته، فصرخت في وجهي:

ليس لدينا مكان في السّيارة لسريرك الملعون هذا، سنتركه، هيا.

نطقتُ جُملتي بهدوء فاجأني:

إمّا أغادر مع سريري، وإمّا تغادرين هذه المرّة من دوننا!

 

 لم تتوقّف باولا عن الشّتيمة والسبِّ لحظة واحدة طوال الطّريق من الجنوب الفرنسيّ متَّجهين إلى أقصى الشَّمال، كنت أسمعها، لكنّني أصغي بجميع حواسّي إلى رفرفات ملاءات سريري الوثير، التي كان يطوّحها الهواء فوق سطح الفولكس فاغن الخضراء.

 

* * *

 

 

 

 

 أتذكّر الآن الدّفء الذي اختزنته شفتاكِ من فنجان القهوة السّاخن، وأنا أُقبّلكِ في المقهى التُّركيّ العتيق على شاطئ مارماريس، تعرفين هذه اللحظة من الغياب والذّوبان في مشهد بعينه مرّ عليكِ من قبل، فتغمضين عينيكِ محاولة التّركيز في اعتصار المشهد لحظة بلحظة، للوصول إلى تذوّق قطرة التعتّق الكاملة لما يعنيه بداخلك، هذا بالضّبط ما شعرت به وأنا أغمض عينيّ لأسترجع هذا الملمس الدافئ لشفتيكِ، كنتِ تجلسين قبالتي مرتدية معطفكِ الأسود القطيفيّ، والهواء يطيّر شعركِ فيغمر وجهكِ، لتردّه أصابعكِ بحركة خفيفة إلى الوراء، أستطيع أن أكتب قصائد كاملة في وقع هذه الحركة على روحي الآن، كلّ مرّة بطعم مختلف، بشكل مختلف، بحسٍّ إيروتيكيّ مختلف، سأكتب عن لمسة امرأة لا تعرف أثر هذه الحركة من كفّها الصغيرة على النّاس، الماريجوانا تتيح لي هذه النّعمة؛ نعمة تعتيق الذّكريات، وترتيبها واحدة جوار الأخرى، كما لو كانت كتباً أصنِّفها على أرفف المكتبة، نعمة التّركيز في الأحداث، في الشّخصيات والأفكار، من بين جميع المخدّرات والكحوليّات، ظلّت الماريجوانا هي الوحيدة التي تمنحني هذه النّعمة، لذلك لم أكن أفهمكِ حين كنتِ تقفين أحياناً كثيرة في صفِّ أثر الحشيش، وتتركينني وحيداً أرفع راية الماريجوانا إلى الأبد.

 

 نعم، لحظة أحسَّتْ شفتيَّ بالدّفء الذي اختزنته شفتاكِ من فنجان القهوة السّاخن، كان هذا المشهد هو غنيمتي الليلة، بعد عدّة سجائر ماريجوانا صافية من أفضل أصناف مقاهي أمستردام، أكره الذّهاب إلى هناك بدونك، ولكن غيابكِ الذي طال لم يترك لي بديلاً، اضطررت إلى السّفر وحدي لأجلب مؤونتي، واليوم دخّنت أوّل خمس سجائر بعد أربعة أيام كاملة من الحرمان، أحبّ تلمّس أثر المخدّر وهو ينتشر في جسمي بعد فترة من عدم التّدخين، أشعر بأنَّ نجوماً تتلألأ تحت فروة رأسي، وبأنّني صرت أخفُّ وزناً، وأنّ روحي صارت أقرب لي، بالشّكل الذي أكاد فيه أن أتلمّس حضورها الرّهيف بداخلي، هي ليست الحالة التي طالما عشناها سوياً من قبل، لكنّها حالة تشبه يقينكِ بأنّ هذه اللحظة هي لكِ بالكامل، لن يقاسمك فيها أحد، هي لحظتك، خاصتك، وعليكِ أن تبدئي في الاستمتاع بها، والتلذّذ بمرورها عليكِ، كانت كؤوس البيرة تُصبُّ من قبل يدي اليمنى، فيما يدي اليسرى مشغولة بالبحث عن سجائري لأشعل واحدة قبل أن أهمّ بلفِّ سيجارة جديدة من الماريجوانا، حين باغتتني هذه اللحظة؛ لحظة تذوّق أثر الدّفء الذي اختزنته شفتاكِ من فنجان القهوة السّاخن، وأنا أُقبِّلكِ في المقهى التُّركي العتيق، على شاطئ مارماريس.

 

الذكريات هي الجحيم، تستطيعين استعادتها بالمخيّلة، لكنّكِ لا تستطيعين الرّجوع إلى لحظة وقوعها، تحرقكِ بنارها في الحالتين، وكنتُ أظنّ أنّني بعد كلّ هذه السّنين، أصبحت صانع زجاج عجوز ومدرّب، يعرف كيف يتفادى اللسعات من كتلة الذّكريات السّائلة التي تضعها الماريجوانا بين كفّيه، لكنّني اكتشفت أنّني مازلت أتعلّم كلّ يوم من رعونة كتلة الذّكريات، صحيح أنّني كنت أستمتع بحالة بلورتها وتشكيلها من جديد، بحالة الاقتراب منها وتلمّس نتوءاتها التي سرعان ما تصل بي إلى مواضع نعومتها أو خشونتها، إلا أنّها لم تحرمني متعة اللسعات من وقت إلى آخر، متعة الوجع المفاجئة التي تلسعكِ في الموضع الذي لم تتصوّري أنّها قادرة على الوصول إليه.

 

 كان يمكن أن تكون لحظة استعادتي لملمس الدّفء الذي اختزنته شفتاكِ من فنجان القهوة السّاخن، عاديّة، لو أنّني رأيتها كذكرى مرّت كغيرها من الذّكريات، كان يمكن ألا تترك في نفسي شيئاً، لو أنّ فكرة أخرى طغت عليها، وحلّت مكانها، كان يمكن أن تصيبني بالأسى لا بالنّشوة، لو أنّني استعدتّها في اللحظة ذاتها التي أدرك فيها غيابكِ عنِّي، اقتنعت بأنّ عليَّ أن أتعامل مع نفسي على أنّني مجرّد صانع زجاج مبتدئ، عليه أن يؤمن بأنّ حرفة يديه المدرّبتين، ليست كلّ شيء، عليه أن يتعلّم أن يترك الكتلة السّائلة بين أصابعه على سجيّتها ليرى إلى أين ستوصّله، أن يتركها تستنّ قوانينها بنفسها، وله أن يطاوعها أحياناً، أو يردّها أحياناً.

 

هكذا، كانت استعادتي للحظة تلامس شفتينا على شاطئ مارماريس، وأنا أنفث دخان الماريجوانا الطّازجة التي تفوح رائحتها من بين أصابع يدي اليسرى الآن، كدّت أن أتذوّق شفتيكِ، أتلمّس لسانكِ، واستعدت بكامل الصّفاء، اللحظة التي ميَّزت فيها طعم ريقكِ المعبّق بطعم البنّ، ولسانكِ يتحرّك بين شفتيّ، فيما تخرج يدي عن سيطرتي، لتنسلّ خلف عنقكِ، وتجذبكِ إليّ، أكثر.

 

استعادة ذكرى القُبلات الجميلة شيء حزين يا ميشيل، لا أحبّ أن أستسلم له، خاصّة استعادة قبلات امرأة مثلكِ، لذلك رميت رأسي تماماً إلى الخلف، وغبت في دخّان سيجارتي الخامسة.

 

* * *

 

 كعادة صباحات الأسبات من كلّ أسبوع، استيقظت برأس ثقيلة من أثر الصّداع والإفراط في الكحول ليلة أمس، تعوّدت هذه الحالة وألفتها، كما يألف المرء نبتة ظلّ في زاوية غرفته، في البداية أعي أنّني نائم، وأنّ نافذة الغرفة فُتحت قليلاً للتّهوية، ما يسمح بوصول صوت عجلات سيارات تمرق مسرعة أو متباطئة مع نسمة الهواء الباردة، طيف ابتسامة مخاتلة يقترب من شفتيّ وأنا أتخيّلها تدخل الغرفة على أطراف أصابعها، لتتأمّلني قليلاً ثم تتنهّد وهي تتّجه ناحية النّافذة فتفتحها قليلاً وتخرج، أتقلّب وأنا أحاول التخلّص من الثّقل الغريب في مؤخّرة رأسي من أثر نبيذ البارحة، وأفكّر أنّه كان عليَّ أن ألتزم بنصيحة ميشيل وهي تطلب منِّي ألا أكثر من الخلط بين أنواع الكحول، فأقوم في الصّباح بصداع مزمن لا خلاص منه إلا مع أوّل كأس بيرة في المساء، لكنّني لم أكن لأكتفي فقط بالخلط بين أنواع الأنبذة والكحوليّات، بل كنت في لحظة ما من لحظات الشراب أبدأ في تخطّي خطوط حمر، لطالما التزمت بها من قبل، وهي ألا أزاوج الكحول بالمخدّر في ليالِ الجمع، كان الخطّ الأحمر يتراءى لي وأنا أصبّ كأساً جديدة، فأتراجع مرّة وثانية وثالثة، لكنّني سرعان ما أمدّ يدي وألفّ عدداً من سجائر الماريجوانا، وتشجّعني ميشيل مرّة بصمتها، ومرّة بتناولها واحدة من هذه السّجائر، فأبدأ في لفّ المزيد، وأنا أرقب شعلة النّار الحمراء وهي تقترب من سيجارتها.

 

منذ عرفت ميشيل وأنا لا أستطيع تعريف العلاقة التي تربط بيننا، في أحيان كثيرة كنت حتّى لا أتخيّل أنّ هناك شيء ما حقيقيّ، يمكن أن يجمعنا في شقّتها الصّغيرة كلّ أسبوع، سوى أنّنا متّفقان على قداسة الصّمت بيننا، هذه القداسة التي يتعامل كلّ منّا معها بنوع من الاستسلام والطّمأنينة، كنت أدخل شقّتها في الطّابق العاشر بإحدى البنايات القديمة في قلب المدينة، ودون كلمة واحدة أتّجه لأقف أمام النّافذة الزّجاجية التي تبدأ من أرضيّة الغرفة إلى سقفها، لأتأمّل أنوار البيوت والمحال والعابرين في الشّارع الطّويل، وتبقى هي في الجهة اليسرى من الغرفة، تعدُّ أنواعاً خفيفة من المزّة، وترتّب الأرضية بسجّادة صغيرة وبعض الوسائد لتكون مجلساً لنا، بعد قليل كانت تنطق بكلمة أو كلمتين، لأردّ عليها بهمهمة مكتومة، تفهم أنّه لا رغبة لي في الكلام، فتجلس وتبدأ في التّدخين صامتة، تستمع إلى الموسيقى الهادئة التي تنبعث من جهاز الكمبيوتر المحمول الموجود أمامها.

 

أرفع رأسي عن الوسادة وأتقلّب ناحية اليسار، وأنا أشعر بتنميل خفيف في عضلات رقبتي، أكاد أحسّ بسريان الدّم السّريع مع كلّ حركة في أوردتي، فأتذكّر ما قاله أحد الأطباء وهو يشرح لي سبب الإصابة بالصّداع بعد شرب الكثير من الكحول:

يعمل الكحول على سحب كميات الأكسچين الموجودة في دمك، عليك أن تشرب الكثير من الماء واللبن قبل النّوم،كي تعيد إلى دمك نسبة الأكسچين التي قلّلها الكحول.

أشرب الكثير من الماء واللبن قبل النّوم؟! مساكين هؤلاء الأطباء!

 

* * *

 

 طقطقة فقرات الظّهر، الفرقعات المتتابعة في عمودي الفقريّ التي أسترخي بعدها، وأنا أشعر بتجدّد غامض وغير محدّد في دمائي، كانت وستظلّ الإشارة الأولى التي تعلن عن حالة الهدوء الصّافي التي بدأ يستسلم لها جسدي، أشدّ نفساً طويلاً من سيجارتي وأنا أرفع عينيّ إلى زجاج النّافذة المبلّل من الخارج بمياه الأمطار، أحاول أن أركّز عينيّ على نقطة مطر تنزلق ببطء على الزّجاج الخارجيّ، فتلتقي في انزلاقها البطيء بنقاط مطر أخرى، لتتحدّ معها ويثقل وزنها فتنزلق بشكل أسرع، متهاوية على حافّة النّافذة الخارجيّة، ثمّ تختفي في وسط بركة صغيرة من المياه، سألت نفسي إذا ما كنت أرى الأمور أسرع أو أبطأ تحت تأثير الماريجوانا، ثم فكّرت في أنّ الأمر لا يعدو فكرة غبيّة في الأساس، أن أشغل نفسي الآن بسرعة أو بطء سقوط نقطة مطر على زجاج نافذتي، لسعة جرعة البيرة التي ملأت بها فمي جعلتني أطفؤها بنفس أطول وأعمق من سيجارتي، أعرف أنّني أحنّ، بل ويقتلني الحنين، وأعرف أنّني الآن أنصت إلى الصّمت المهيمن في الخارج تحت وقع قطرات المطر، واصطدامها بزجاج النّوافذ وأسفلت الطّريق في الخارج، في الخارج ليس ثمّة صوت آخر، غير مرور سريع لسيّارة من حين إلى حين، ليس من صوت للعتمة، فقط أنفاس سيجارتي التي أنفخها بطيئة تحت ضوء مصباح كهربائيّ صغير، فيحملها نوره إلى النّافذة المواربة قليلاً من الأعلى، لتختفي إلى الأبدّ، في عتمة الشّارع.

__________________________________

شاعر وروائي من مصر. صدر له شعراً “أشباح جرَّحتها الإضاءة” 1998، و”تقاعد زير نساء عجوز” 2002، و”بكدمة زرقاء من عضة الندم” 2005، و”حرير” 2007، و”عشر طرق للتنكيل بجثة” 2010. النص المنشور هنا مجتزأ من روايته الأولى “الحالة صفر” الصادرة أخيراً عن دار “ميريت” في القاهرة.

الصورة من موقع تصوير فيلم رومان بولانسكي “تشاينا تاون” (الحي الصيني) 1974 بطولة جاك نيكلسون وفاي دانواي وجون هيوستن.

*****

خاص بأوكسجين