من كتاب “طرق الرؤية”
العدد 224 | 27 كانون الأول 2017
جون برجر


اعتماداً على استخدامات ومصطلحات جرت في النهاية معاينتها إلا أنها سادت من دون قصد، فإن الحضور الاجتماعي لامرأة مختلف عن ذاك الخاص برجل. حضور الرجل معتمد على وعد السلطة التي يجسدها، فإن كان الوعد كبيراً وله مصداقية فإن حضوره سيكون مجلجلاً، وإن كان صغيراً لا مصداقية له، فسيُرى حضوره  ضئيلاً. هذه السلطة الموعودة قد تكون أخلاقية، فيزيولوجية، مزاجية، اقتصادية، اجتماعية، جنسية – لكن غرضها سيكون دائماً خارجياً بالنسبة للرجل. إن حضور رجل يقترح ما هو قادر على فعله لك أو لأجلك، ولهذا الحضور أن يكون ملفقاً، بمعنى أنه يتظاهر بما هو قادر على فعله أو غير قادر، إلا أن التظاهر يكون دائماً موجهاً نحو سلطة يمارسها على الآخرين.

حضور المرأة نقيض ذلك، فهي  تعبّر عن موقفها الشخصي لنفسها، وتحدد ما يمكن وما لا يمكن أن يُفعل معها. حضورها واضح بحركاتها، بصوتها، بآرائها، بتعابيرها، بثيابها، بمحيطها المنتقى، بذوقها، وبالتأكيد لن يكون هناك من شيء تستطيع القيام به لا يساهم بحضورها. الحضور للمرأة شيء جوهري جداً لشخصها بينما يميل الرجال للتفكير به كانبعاث فيزيولوجي، نوع من الحرارة أو الرائحة أو الهالة.

 أن يولد المرء امرأة فهذا يعني أنه قد ولد في مساحة مخصصة ومحددة، تحت وصاية الرجال، وقد تطور الحضور الاجتماعي للنساء جراء براعتهن في العيش تحت هكذا وصاية في مساحة محددة، لكن هذا أفقدها نفسها وقسمها إلى اثنين. على المرأة أن تراقب نفسها بشكل متواصل، وهي غالباً بصحبة صورتها عن نفسها، سواء كانت تمشي في غرفتها أو تبكي موت والدها، فإنه من النادر أن تتجنب تصوّر نفسها تمشي أو تبكي، فمنذ طفولتها المبكرة لُقِّنت وأقنعت بتفحص نفسها على نحو دائم.

وهكذا خلصت إلى اعتبار “المتفحص والمفحوص” في داخلها عنصرين من بين العناصر المميزة من هويتها كامرأة.

عليها أن تتفحص كل شيء هي عليه أو كل شيء تقوم به، ذلك أن الكيفية التي تظهر بها أمام الآخرين، وبشكل رئيس أمام الرجال، له أهمية جوهرية بالنسبة لما يُعتقد عادة أنه نجاح في حياتها، حيث إحساسها الخاص بالوجود في داخلها يستعاض عنه بإحساس كونها مقدّرة هي نفسها من قبل الآخر.

يتفحص الرجال النساء قبل التعامل معهن. وبالتالي فإن الكيفية التي تظهر فيها امرأة بالنسبة لرجل تستطيع تقرير كيفية التعامل معها، ولاكتساب نوع من السيطرة على هذه العملية، فإن على النساء كبتها والمحافظة عليها في دواخلهن. إن هذا الجزء من ذات المرأة الذي يتيح للمتفحص التعامل مع الجزء المفحوص يظهر للآخرين كيف تحب أن تعامل ككل، وهذا التعامل النموذجي لنفسها بواسطة نفسها يؤسس وجودها. إن حضور كل امرأة يضبط ما هو “جائز” وما هو ليس بذلك في دواخل حضورها. إن كل فعل من أفعالها – مهما كان هدفه المباشر أو دافعه – يقرأ كمؤشر على الكيفية التي تريد بها أن تعامل، فإذا رمت امرأة كأساً على الأرض، فهذا مثال على الكيفية التي تتعامل فيها مع شعورها بالغضب وبالتالي كيف ترغب بأن تعامل من قبل الآخرين، بينما إن قام رجل بذات الشيء، فإن فعله يقرأ على أنه تعبير عن غضبه. إن قامت امرأة بسرد نكتة جيدة فهذا مثال على كيفية معاملتها للجانب المضحك في نفسها وبالتالي الكيفية التي تريد أن تعامل بها من قبل الآخرين بوصفها امرأة ضحوكة، وحده الرجل من يقول نكتة جيدة لأجل الضحك فقط.

يمكن تبسيط ذلك بالقول: الرجال فعل والنساء مظهر. ينظر الرجال إلى النساء، تراقب النساء أنفسهن لأنه نُظر إليهن. لا يقرر هذا فقط أغلب العلاقات بين النساء والرجال بل أيضاً العلاقة بين النساء وأنفسهن. متفحص المرأة في نفسها مذكّر: المفحوص مؤنث. وهكذا فإنها تحوّل نفسها إلى غرض – وبمنتهى التحديد غرضاً للرؤية: إنها للنظر.

شكّلت النساء في إحدى فئات اللوحة الزيتية الأوروبية موضوعاً أساسياً متكرراً إلى ما لا نهاية. هذه الفئة هي لوحات العري، ويمكننا في لوحات العري الزيتية الأوروبية اكتشاف معايير وتقاليد نُظر فيها إلى المرأة وجرى الحكم عليها بوصفها مكرسة للنظر.

أولى لوحات العري في هذا التقليد صوّرت آدم وحواء، ومن الجدير العودة إلى القصة كما رويت في سفر التكوين:

“فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل، وأنها بهجة للعيون، وأن الشجرة شهية للنظر. فأخذت من ثمرها وأكلت، وأعطت رجلها أيضا معها فأكل فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان. فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر (..) فنادى الرب الإله آدم وقال له: أين أنت؟ فقال: سمعت صوتك في الجنة فخشيت، لأني عريان فاختبأت (..) وقال للمرأة: تكثيرا أكثر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولادا. وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك.”

الصادم في هذه القصة، أنهما عرفا بعريهما جراء أكلهما التفاحة، ورأى كل منهما الآخر بطريقة مختلفة. لقد تمّ خلق العري في ذهن الناظر.

بينما تحضر الحقيقة الصادمة الثانية بأن المرأة من تلام وتعاقب بجعلها خانعة للرجل. وفي العلاقة مع المرأة يصبح الرجل وكيل الله.

جرى وفقاً لتقاليد القرون الوسطى رسم القصة مشهداً تلو مشهد، كما في شريط رسوم متحركة.

اختفت أثناء النهضة السلاسل القصصية المصورة، واللحظة الوحيدة التي صُوِّرت أصبحت لحظة الشعور بالعار. آدم وحواء مرتديان ورقتي التين أو أن كل منهما يقوم بحركة بيده، إلا أن عارهما ليس على علاقة بأحدهما الآخر كما هي بالنسبة للمشاهد.

_________________________________________

صدر كتاب “طرق الرؤية” لجون برجر” الشهر الماضي عن دار المدى.