من رواية “وزارة السعادة القصوى”
العدد 225 | 15 كانون الثاني 2018
أرونداتي روي


 

أين تذهب الطيور المعمّرة لتموت؟

عاشت في المقبرة حياةً تشبه حياة شجرة. رحبت فجراً بإياب الخفافيش إلى منازلها، وراقبت الغربان المرتحلة، ومع مغيب الشمس عادت الحكاية ذاتها معكوسة. وما بين هذا وذاك أمضت وقتها تحادث أشباح النسور المحلّقة بين أغصانها العالية وتشعر بقبضة مخالبها الرقيقة تستحيل أوجاعاً أشبه بأوجاع طرف مبتور. وأدركت بأنهم كانوا لابدّ سعداء معاً في الإستئذان بالإنصراف ومغادرة القصة.

عندما انتقلت للعيش هنا تحمّلت لأشهرٍ ما اعتادت الاشجار تحمّله من قسوة دون أنّ يرفّ لها جفن. لم تلتف يوماً لترى أيّ صبيّ صغير قذفها بحجر ولم تحنِ عنقها لتقرأ الإهانات التي حُفِرت على لحائها، وحتى عندما كان الناس يطلقون عليها ألقاباً مثل مهرّج من دون سيرك أو ملكة بلا قصر كانت تترك الألم ينتفض بين أغصانها كالنسيم وتجعل من موسيقا أوراقها الصدئة بلسماً مخففاً للألم.

بدأ كل ذلك فقط عندما اختار الإمام الكفيف زيودين الذي وقف إماماً بالمصلين يوماً في جامع فاتح بوري إنهاء صداقته معها وتوقف عن زيارتها بعد أنّ أجمعّ كل أهالي الحيّ على أنّ الوقت قد حان ليتركها بسلام.

أخبرها منذ زمن بعيد رجل يتقنّ الإنكليزية بأنّ اسمها سيكون ماجنو إذا رتبت حروفه بشكل معاكس وأنّ ماجنو في النسخة الإنكليزية لقصة ليلى وماجنو يُدعى روميو وليلى تُدعى جولييت. بدت الفكرة مضحكةً بالنسبة لها وقالت له “أتقصد أني أفسدت لهما القصة؟ ماذا سيفعلان لو اكتشفا أنّ ليلى قد تكون ماجنو وروميو هو في الحقيقة جولييت؟” في المرة الثانية التي التقاها ذلك الرجل قال لها بأنه كان مخطئاً وأنّ اسمها لو كُتب بشكل معاكس سيكون موجنا وهو ليس باسم ولا يحمل أيّ معنى. وردّاً على كلامه هذا قالت له “لا يهمّ. أنا كل هؤلاء. أنا روميو وجولييت، وأنا ليلى وماجنو وموجنا أيضاً، ولِمَ لا؟ من قال أنّ اسمي أنجوم؟ أنا لست أنجوم؟ أنا اسمي أنجوما. وأنا ميهفيل. أنا خليط من الكل ومن لا أحد، خليط من كل شيء ومن لا شيء. هل ترغب بدعوة شخص آخر؟ الدعوة موجهة للجميع.”

وهنا قال الرجل الذي يتقن الإنكليزية بأنّ إجابتها تنمّ عن ذكاء لأنّ مثل هذه الفكرة التي خرجت بها لم تكن لتخطر على باله شخصيّاً.  فأجابته “وكيف لك ذلك وأنت بهذا المستوى من اللغة الأردية؟ هل تظنّ بأن إتقانك للإنكليزية يجعلك ذكيّاً بشكل تلقائي؟”

أضحكه تعليقها وهي ضحكت لضحكه. تشاركا تدخين سيجارة وكان هو يتذمر من سجائر “ويلز نافي كات” التي يجدها قصيرة وثخينة ولا تستحق ببساطة ثمنها، بينما كانت دوماً تفضلها على سجائر “فورسكوير” أو سجائر “ريد آند وايت” المثقلة بالخصال الرجولية.

لم تعد تذكر اسمه اليوم أو ربما ما عرفت اسمه يوماً فقد غادر هذا الرجل منذ زمن طويل إلى حيث كان يجب أنّ يغادر بينما كانت هي تعيش في المقبرة الواقعة خلف مبنى المشفى الحكومي. لم يكن بصحبتها سوى خزانتها الحديدية حيث تخبئ موسيقاها ضمن أشرطة وتسجيلات ملأى بالخدوش بالإضافة لآلة أرغن قديمة وثيابها ومجوهراتها، وكتب قصائد والدها ومجموعة صور لها وبضع قصاصات من صحف كانت قد نجت من ألسنة النار في قصر خوابغه. كانت تحتفظ بالمفتاح معلّقاً في رقبتها بخيط أسود مع مسواك أسنانها الفضيّ المعقوف، وتنام على سجادة فارسية باليّة تطويها في النهار وتبسطها بين قبرين في الليل (وعلى سبيل النكتة المحليّة؛ لم تكن لتنام بين ذات القبرين ليلتين متتاليتين). ما زالت تدخن، وما زالت “ويلز نافي كات” سجائرها المفضلة.  

في صباح يوم من الأيام وبينما كانت تقرأ الصحيفة بصوت عالٍ للإمام المسنّ من دون أيّ إصغاءٍ من هذا الأخير بادرته بسؤال يوقظه من غفلته وقالت “هل حقاً تقومون بتطبيق تقاليد الدفن وليس الحرق حتى على موتى الهندوس لديكم؟”

ومع إحساسها بوقوع مشكلة استطردت بسؤال مراوغ: “حقاً؟ ما هو الحق؟ ما هي الحقيقة؟”

في محاولة منه للإلتزام بمسار السؤال الموجه إليه دمدم الإمام باللغة هندية قائلاً ” الحق هو الله، والله هو الحق”. كانت هذه الحكمة مكتوبة على خلفية الشاحنات المطليّة التي كان هديرها يقتحم الطرقات السريعة. ثمّ زمّ الرجل الكفيف عينيه الخضراوتين وسأل بهمسةٍ خبيثة “أخبريني أنتِ أين تدفنون موتاكم؟ من يغسل الجثث؟ من يتلو الصلوات؟”

صمتت أنجوم لفترة طويلة ثمّ مالت بجسدها خلافاً للأشجار وهمست “سيد إمام ما الذي يتبادر إلى ذهنك لدى وصف الناس للسماء ساعة الغروب بالأحمر أو الأزرق أو البرتقالي، أو ساعة بزوغ القمر في شهر رمضان؟”

جلسا بجوار أحد القبور المشمسة بصمتٍ جنباً إلى جنب بعد أنّ خلّفت كلمات كليهما لدى الآخر جراحاً عميقةً نازفةً حدّ الموت. أخيراً كسرت أنجوم الصمت وقالت له “أخبرني أنت، فأنت السيد الإمام وليس أنا. أخبرني أين تذهب الطيور المعمّرة لتموت؟ هل تَراها تسقط من السماء على رؤوسنا كالحجارة؟ هل تَرانا نتعثر بجثثها في الطرقات؟ ألا تعتقد بأنّ الإله الواحد البصير الذي بعثنا إلى الأرض قد رتّب طريقة مناسبة لأخذنا منها؟”

كانت زيارة الإمام في ذلك اليوم أقصر من المعتاد. كانت أنجم تراقب رحيله بإنصاتٍ لخطواته بين القبور. كانت العصا التي يهتدي بها طريقه تحدث صوتاً موسيقياً كلما وقعت على زجاجات الخمر الفارغة والمحاقن المرمية المنتثرة في طريقه. لم تحاول إيقافه فقد كانت تعلم بأنه سوف يعود. ودون الإسهاب في تفاصيل مهزلتها أدركت لدى رؤيتها مدى وحدتها. كان لديها شعور بأنه بطريقة غريبة وعرضيّة بحاجة لظلّها بقدر ما هي بحاجة لظلّه. وكانت التجربة قد علّمتها بأنّ الحاجة مستودع يتسع لقدرٍ كبير من القسوة. 

برغم كل ما حمله رحيل أنجوم عن قصر “خوابغه” من وحشية إلا أنها كانت تعلم بأنّ أحلامه وأسراره لم تكن ملكها وحدها لتفشيها.

 

خوابغه

في إحدى ليالي كانون الثاني الباردة في مدينة دلهي المسوّرة شاه جاهان آباد وضعتها أمها على ضوء المصباح (بسبب انقطاع الكهرباء) لتكون الطفل الرابع بين إخوتها الخمسة. القابلة أحلام باجي التي قطعت حبل الخلاص ووضعتها ملفوفة بقطعتي قماش بين ذراعي الأم قالت “إنه صبي”. ويبدو هذا الخطأ مفهوماً نظراً للظروف آنذاك.

خلال الشهر الأول من حملها قررت جانارا وزوجها تسمية الطفل افتاب إذا كان ذكراً. كانا قبل ذلك قد رُزقا بثلاث فتيات وينتظران افتاب منذ ست سنوات وهكذا كانت ليلة ولادته أسعد ليلةٍ في حياة جانارا بيغوم.

في صباح اليوم التالي حيث الشمس ساطعة والغرفة دافئة وجميلة أرخت الأم ثياب الصغير افتاب عنه وأخذت تستكشف جسده الصغير ببهجة عارمة متأنيّة بدءاً من رأسه وعينيه وأنفه ورقبته وإبطيه وحتى أصابع قدميه، ولكن حدث أنّ اكتشفت جزءاً غضّاً تحت أعضاءه السفلية. كان عضواً صغيراً غير مكتمل ولكنه عضوٌ أنثويّ من دون أدنى شك.

هل يُعقل للأم أن تخشى من صغيرها؟ لقد كانت جانارا بيغوم كذلك. كانت ردة فعلها الأولى انّ شعرت بقلبها ينقبض وبعظامها تتحول إلى رماد ولكنها في ردة فعل ثانية قررت إلقاء نظرةٍ أخرى لتتأكد بأنّ ما رأته كان صحيحاً لتأتي ردة الفعل الثالثة بالإشمئزاز من هذا الكائن الذيّ خلّفته مع انقباضات قوية في أمعائها دفعت بتدفق سيل خفيف من القرف بين ساقيها. وفي ردة فعل رابعة فكرت بقتل طفلها والإنتحار إلا أنها تراجعت بردة فعل خامسة وحملت طفلها واحتضنته بقوة بينما تهاوى تفكيرها في فجوة تترامى بين العالم الذي عرفته والعوالم الأخرى التي لم تكن تعلم بوجودها. في تلك الهاوية التي يلفّها الظلام بدى لها كل ما عرفته يقيّناً خلال حياتها وحتى هذه اللحظة من أصغر الامور إلى أكبرها خالياً من أيّ معنى. في لغتها الأردية التي لا تتقن سواها تجد جميع المفردات سواء تلك المتعلقة بالحياة أو الأشياء من سجاد وثياب وكتب وأقلام وآلات موسيقية مذكّرة أو مؤثنة. كل ما يحيط بها كان إما ذكراً او أنثى، رجلاً او امرأة. كل شيء ما عدا طفلها. طبعا كانت تعلم بوجود مفردات تُطلَق لنعتِ أمثاله مثل كلمة مخنث أو بالأحرى كان هناك اثنتين من المفردات لوصفه: مخنث وثنائي الجنس. ولكن كلمتين فقط لا تصنعان لغةً بأكملها.

هل يمكن العيش خارج اللغة؟ هذا السؤال بطبيعة الحال لم يكن يطرح نفسه أمامها بكلماتٍ واضحةٍ أو بجملة واحدة مفهومة وإنما بصراخ جنيني صامت.

وفي ردة فعلها السادسة قررت الاغتسال وعدم البوح بما رأته لأي شخص كان حتى زوجها. وفي ردة فعل أخيرة استلقت بجانب افتاب لتأخذ قسطاً من الراحة تماماً كما فعل رب المسيحيين بعد أنّ انتهى من خلق السماء والأرض مع فارق أنّ ذلك الرب قرر الاسترخاء بعد أنّ صنع شيئاً ذي معنى في هذا العالم الذي خلقه بينما جانارا بيغوم استرخت بعد أنّ أفسد ما خلقته كل ما يعنيه العالم بالنسبة لها.

قالت في نفسها: في النهاية هذا ليس مهبلاً حقيقياً. إنه مجرد قناة مغلقة فقد تفحصته بنفسها. إنه مجرد قطعة لحمية زائدة تكون لدى حديثي الولادة. ربما تندمل أو تلتئم أو تتلاشى بطريقة أو بأخرى. لن تترك مزاراً تعرفة دون أنّ تذهب للصلاة فيه والتضرع إلى الله ليرأف بحالها. وهي تعلم بأنه سيفعل وربما كان قد فعل بطريقة ما لا تعرفها حق المعرفة.

*****

خاص بأوكسجين