من رواية ” زمن السوينغ “
العدد 251 | 15 شباط 2020
زيدي سميث


 

 

استهلال

   كان أول يوم من مهانتي. وضعوني على متن طائرة، وأعادوني إلى وطني، إلى إنكلترا، وأنزلوني في منزل مُستأجَر مؤقَّتْ في منطقة سينت جونز وود السكنيّة. كانت الشقة تقع في الطابق الثامن، والنوافذ تطلُّ على ملعب الكريكيت. أعتقد أنَّ المكان اختير بسبب وجود البوّاب الذي كان يصدّ كل محاولات الاستعلام. ولزمت المنزل. كان الهاتف المُثبَّتْ إلى جدار المطبخ يرنّ ويرنّ، لكنّهم حذّروني من الإجابة على المكالمات وأمروني بإبقاء الهاتف مُغلقاً. كنتُ أتابع مباريات الكريكيت، اللعبة التي لا أفهمها، ولم توفِّر لي أيّة تسلية، ولكن مع ذلك كانت أفضل من تأمُّل داخل تلك الشقّة، المنطقة المشتركة المُرفّهة، التي صُمِّمَ كل شيء فيها ليكون حياديّاً بصورة مثاليّة، الذي فيه كل الزوايا الأساسيّة مُستديرة، كجهاز الأيفون. وبعد انتهاء مباراة الكريكيت أُحدِّقُ إلى آلة إعداد القهوة الأنيقة المُثبَّتة إلى الجدار، وإلى صورتين تمثّلان بوذا – واحدة بوذا من النحاس، والأخرى بوذا من الخشب – وإلى صورة لفيل يركع بجوار صبي هنديّ صغير، كان بدوره راكعاً. كانت الغرف خالية من الذوق ورماديّة، يصل بينها رواقٌ بدائيّ من حبل من الصوف الأسمر. كنتُ أحدِّق إلى حواف الحبل.

   مرَّ يومان على هذا المنوال. وفي اليوم الثالث، هتفَ البواب بصوت مرتفع قائلاً إلى البهو خال. نظرتُ إلى جهاز هاتفي، القابع على شكل طائرة. كان الخط مقطوعاً منذ اثنتين وسبعين ساعة وأتذكَّر شعوري بأنَّ ذلك ينبغي اعتباره من بين الأمثلة الكبرى على الصمود الشخصيّ والتحمُّل الأخلاقيّ في عصرنا. ارتديتُ سترتي وهبطتُ إلى الطابق السفليّ. وفي البهو قابلتُ البوّاب. فاستغلَّ الفرصة للشكوى بمرارة (” ليست لديك أدنى فكرة عما كان عليه الوضع هنا في الأسفل، خلال الأيام القليلة الأخيرة -كان أشبه بسيرك لعين! “) وعلى الرغم من أنّه كان جليّاً أنّه مضطرب أيضاً، بل ومُحبَط قليلاً : كان من المؤسِف بالنسبة إليه أنَّ الهرج قد خَفَت – لقد شعر بأنّه شخصيّة هامة طوال ثمان وأربعين ساعة. وأخبرني باعتزاز بأنّه أخبر العديد من الأشخاص بأنْ ” يُنعِشوا أفكارهم “، وبإبلاغ فلان وفلان من الناس بأنهم إذا اعتقدوا أنهم يستطيعون تجاهلي ” فإنَّ فكرة أخرى سوف تليها”. ملتُ فوق طاولته وأصغيتُ إلى كلامه. لقد غبتُ عن إنكلترا مدة كافية بحيث أنَّ العديد من العبارات الإنكليزيّة المحكيّة البسيطة بدتْ غريبة على أُذني، وكادت تبدو بلا معنى. سألته إنْ كان يعتقد أنَّ المزيد من الناس سوف يأتون في تلك الليلة فقال إنه لا يعتقد ذلك، فلم يأتِ أحد منذ الأمس. وأردتُ أنْ أعلم إنْ كان استقبال زائر لقضاء الليل أمراً آمناً، فقال “لا أرى في ذلك أيّة مشكلة” بنبرة صوت جعلتني أشعر بأنَّ سؤالي سخيف. تنهّدَ وقال “هناك دائماً باب خلفيّ”، وفي اللحظة نفسها توقفتْ امرأة لتسأله إنْ كان في استطاعته أنْ يستلِم غسيلها الجاف لأنها ستخرج. كان سلوكها فظاً، ونزِقاً وبدل أنْ تنظر إليه وهي تتكلَّم حدَّقَتْ إلى روزنامة موجودة على الطاولة، عبارة عن كتلة شاشة رقميّة رماديّة، تُنبئ الواقف أمامها باللحظة التي دخل فيها شخص ما. كان التاريخ هو الخامس والعشرون من شهر تشرين أول، والعام هو 2008، والوقت هو الثانية عشرة وثلاثٍ وستٍ وثلاثين دقيقة وثلاث وعشرين ثانية. واستدرتُ لأغادر؛ انتهى البوّاب من التعامُل مع المرأة وهرعَ خارجاً من خلف طاولته لكي يفتح الباب الأماميّ لأجلي. سألني إلى أين أنا ذاهبة ؛ فقلتُ لا أعلم. وخرجتُ إلى المدينة. كان نهاراً خريفيّاً لندنيّاً مثاليّاً، بارداً لكنّه مُشرِق، وتحت بعض الأشجار تناثرتْ أوراق ذهبيّة اللون. اجتزتُ ملعب الكريكت والجامع، ومتحف مدام توسو، وانتقلتْ إلى شارع غودج ثم إلى شارع توتنهام كورت، عبر ساحة ترافالغار، ووجدتُ نفسي أخيراً على رصيف النهر، ومن ثم عبرتُ الجسر. فكّرتُ – كما أفعل غالباً وأنا أجتاز ذلك الجسر – في شابّين، طالبَين، كانا يعبرانه في وقتٍ متأخّر من إحدى الليالي فتعرّضا للاعتداء ورُميا عبر السياج إلى نهر التيمز. نجا أحدهما ومات الآخر. ولم أفهم أبداً كيف استطاع الناجي أنْ ينجو، في الظلام، في البرد القارص، مع الصدمة الرهيبة وهو ينتعل حذاءه. فكَّرتُ فيه، مُلتزماً بالجهة اليُمنى للجسر، بمُحاذاة خط سكّة القطار، متجنّبة النظر إلى الماء. وعندما وصلتُ الضفّة الجنوبيّة كان أول ما شاهدت مُلصقاً يُعلنُ عن حَدَثٍ سيقع بعد الظهيرة هو ” إجراء حوار ” مع مخرج سينمائي نمساويّ، سوف يبدأ بعد عشرين دقيقة في قاعة الاحتفالات الملكيّة. فقرَّرتُ في لحظة نزوة أنْ أحاول أنْ أحصل على بطاقة دخول. فتقدّمتُ وتمكّنتُ من شراء بطاقة جلوس في الشرفة، في الصف الأخير. لم أتوقَّع الكثير، بل أردتُ فقط أنْ أُشتِّت تركيزي على مشاكلي الخاصة بعض الوقت، أنْ أجلسَ في الظلام، وأستمع إلى نقاش حول أفلامٍ لم أشاهدها، ولكن في وسط البرنامج طلبَ المُخرِج من مُحاوره أنْ يعرِضَ مقطعاً من فيلم ” زمن السوينغ “، وهو فيلم أعرفه جيّداً، ولم أشبع من مشاهدته مرّات عِدَّة وأنا طفلة. جلستُ منتصبة على مقعدي. وعلى الشاشة الكبيرة أمامي يرقص فريد أستير مع ثلاثة أشكال مُظلَّلة. لم تستطع تلك الأشكال أنْ تُجاريه في الرقص، وبدأتْ تُخطئ في متابعة الإيقاع. وأخيراً تعترف بفشلها، وهي تقوم بإيماءة الاستنكار الأميركيّة جداً بأيديها الثلاث الأخرى، وتغادر خشبة المسرح. ورقص استير وحده. وفهمتُ أنَّ الأشكال الثلاثة المُظلّلة هي أيضاً فريد أستير. هل عرِفتُ ذلك، وأنا طفلة ؟ لا أحد غيره يطعن الهواء كما يفعل، ليس هناك راقص آخر يحني رُكبتيه بتلك الطريقة. وفي تلك الأثناء تكلَّم المخرج عن نظريّةٍ خاصّة به، عن ” السينما الصِرف ” التي بدأ يُعرِّفها بأنها ” تفاعُل الضوء والظُلمة، كنوعٍ من الإيقاع، التدريجيّ “، لكنّني وجدتُ هذا المسار الفكريّ مملاً وصعب المُتابعة ” وخلفه تمَّ عرض المشهد نفسه من جديد، لسببٍ ما، وأخذَتْ قدماي تتعاطفان مع الموسيقى، وتربتان على المقعد الذي أمامي. وشعرتُ بخِفّة رائعة في جسمي، بسعادة سخيفة، حلَّتْ عليّ من حيث لا أدري. كنتُ قد فقدتُ عملي، ونسخة معيَّنة من حياتي، ومن خصوصيَّتي، ومع ذلك بدتْ تلك الأشياء كلّها ضئيلة وحقيرة مُقارنة بذلك الإحساس الممتع الذي انتابني وأنا أشاهد الرقص، وأتابعُ إيقاعه الدقيق في جسمي الخاصّ. شعرتُ بأنني أفقد مسار موقعي الجسديّ، أرتفعُ فوق جسمي، أرى حياتي من نقطة بعيدة جداً، أُحوِّمُ فوقها. لقد ذكّرني ذلك بالطريقة التي يصِفُ بها الناس تجاربهم بعد تناول عِقار الهلوسة. رأيتُ سنوات عمري كلّها دفعة واحدة، لكنّها لم تكن متراكمة فوق بعضها، تجربة بعد تجربة، مُشكِّلة ما يُشبه الجوهر – على العكس. لقد تكشَّفَت الحقيقة أمامي : لطالما حاولتُ أنْ أربط نفسي بنور الآخرين، ولم يكن لي نوري الخاصّ. اختبرتُ نفسي وكأنني شبح.

   بعد انتهاء الحَدَث مشيتُ عائدة خلال المدينة إلى شقّتي، واتّصلتُ بلامين، الذي كان ينتظر في مقهى قريب، وأخبرته بأنَّ المكان آمن. هو أيضاً طُرِدَ من عمله، ولكن بدل أنْ أدعه يعود إلى وطنه، السينغال، أحضرتُه إلى هنا، إلى لندن. جاء عند الساعة الحادية عشرة، وعلى رأسه غطاء واقٍ، تحسُّباً من وجود آلات تصوير. كان البهو خالياً. وبدا بقبّعته حتى أصغر سنّاً وأجمل، وبدا لي أنَّ من العار ألّا أعثر في قلبي على أي شعورٍ صادق نحوه. بعد ذلك، تمدّدنا جنباً إلى جنب على السرير مع حاسوبينا المحمولَين، ولكي أتجنّب تفقّد بريدي الذي أرسله عبر غوغل، في أول الأمر بلا هدف، ومن ثم بهدف : كنتُ أبحث عن ذلك المقطع من فيلم ” زمن السوينغ “. أردتُ أنْ أُريه للامين، كنتُ توّاقة إلى معرفة رأيه فيه، بما أنّه هو نفسه راقص، لكنّه قال إنه لم يشاهد إستير أو يسمعه، وعندما عُرِضَ الشريط جلس منتصباً على السرير ومائلاً إلى الأمام. ولم أفهم علامَ كنا نتفرَّج : على فريد أستير بوجهه الأسود. عندما كنتُ في قاعة الاحتفالات الملكيّة جلستُ في الشرفة، من دون أنْ أضع نظاراتي، وبدأ المشهد مع أستير في لقطة طويلة. لكنَّ لا شيء من هذا فسَّرَ حقّاً كيفَ نجحتُ في حجب صورة الطفولة من ذاكرتي : العينين اللتين تدوران في محجريهما، والقفاز الأبيض، والتكشير المُشاكس. شعرتُ بأنني شديدة الغباء، وأغلقتُ حاسوبي المحمول وذهبتُ لأنام. وفي صباح اليوم التالي استيقظتُ باكراً، تاركة لامين في السرير، وهرعتُ إلى المطبخ وفتحتُ هاتفي المحمول. توقّعتُ أنْ تنهال عليّ الرسائل بالمئات، بل بالآلاف. لم أحصل إلّا على ثلاثين. كانت إيمي هي التي أرسلتْ إليّ ذات مرة مئات الرسائل في اليوم، والآن فهمتُ أخيراً أنَّ إيمي لن تبحث إليّ بعد الآن أية رسالة أخرى. لا أعلم لماذا استغرقَ مني وقتاً طويلاً جداً لأفهم هذا الشيء الواضح. استعرضتُ اللائحة الكئيبة – رسائل من نسيبة بعيدة، ومن بعض الأصدقاء، ومن عدد من الصحفيين. لمحتُ عنوان : عاهرة. كان العنوان زائفاً يتألَّف من عدد من الأرقام والأحرف ومُرفَقاً به فيديو لم يُفتَح. كانت كميّة الرسائل كلها تحمل جُملة واحدة : الآن بات الجميع يعلمون مَنْ أنتِ حقاً. كانت من نوع الرسائل التي يمكن أنْ تصلك من طفلة في السابعة من العمر حاقدة تحمل فكرة راسخة عن العدالة. وطبعاً هذا بالضبط هو واقع الحال – إذا استطعتَ أنْ تنسى مرور الزمن. 

 

واحد

 

   إذا كان في الإمكان تخيُّل أيام السبت كلها التي مرَّتْ في عام 1982 كيومٍ واحد، فإنني قابلتُ تريسي عند الساعة العاشرة صباحاً في يوم السبت ذاك، ونحن نشقُّ طريقنا خلال الحصى الناعم في فناء كنيسة، وكلٌ منا تُمسِكُ بإحدى يديّ أمّنا. كانت هناك الكثير من الفتيات ولكنْ لأسبابٍ واضحة لاحظَتْ كلٌ منا وجود الأخرى، عبر أوجه التشابُه والاختلاف، كما يحدث مع الفتيات. كنا نشترك باللون البُنّي نفسه  – وكأنَّ قطعة واحدة من مادة ما لَفَحتها أشعة الشمس قُصَّت لنُصنَع منها نحن الاثنتين – كان النمش يتجمَّع في البقع نفسها، وكنا بطولٍ واحد. لكنَّ وجهي كان ذات قَسَمات متأمّلة وكئيبة، وذا أنفٍ طويل ويدلّ على الجديّة، وعيناي مُطرقتين، وكذلك كان فمي. وجه تريسي كان مرحاً ومُستديراً، أشبه بنسخة داكنة من شيرلي تمبل، لكنَّ أنفها كان إشكاليّاً كأنفي، أدركتُ هذا على الفور، كان أنفاً سخيفاً – يرتفع مباشرة في الهواء كأنف خِنوص صغير. ظريف، لكنّه أيضاً فاحش، وفتحتا الأنف واضحتين دائماً. وفي الأنوف يُسمّى هذا لافت للانتباه. وفيما يخصّ الشَعر تفوز فوزاً ساحقاً. كانت لديها حلقات لولبيّة تصل حتى ظهرها وتتجمَّع على شكل ضفيرتين طويلتين، تلمعان بفعل أحد أنواع الزيوت، ومربوطتين من طرفيهما بعقدتين من الساتان الأصفر. وكانت عُقَد الساتان الأصفر ظاهرة غير معروفة لدى أمي. كانت تشدّ كثّة شعري الجعِد إلى الخلف كتلة واحدة، وتربطها بشريط أسود. كانت أمي مُناصِرة لقضايا المرأة. كانت تفرق شَعرها بمقدار بوصة على الطريقة الإفريقيّة، وكان شكل جمجمتها مثاليّاً، ولم تكن تضع أبداً مساحيق تجميل وتُلبسنا ملابس بسيطة قدر الإمكان. وعندما تنظرين إلى نفرتيتي سوف ترين أنَّ الشَعر ليس شيئاً أساسيّاً. فهي لم تحتج إلى مساحيق تجميل أو أيّة مواد أو مجوهرات أو ملابس باهظة الثمن، وبهذه الطريقة كانت ظروفها الماليّة، وسياستها وحسّها الجمالي متناسِقة بصورة مثاليّة – وبشكل مناسِب. لم تكن الكماليات تعمل إلّا على إفساد أناقتها، بما فيها، أو هكذا شعرتُ حينها، الفتاة الصغيرة ذات السنوات السبع ووجه الحصان التي إلى جوارها. نظرتُ إلى تريسي وشخَّصتُ المشكلة المُقابلة : كانت أمها بيضاء البشرة، وبدينة، ومبتلية بالبثور، تُصفِّفُ شعرها الأشقر الخفيف بشدِّهِ بقوة إلى الخلف بشكلٍ أعلمُ أنَّ أمي كانت تُسمّيه ” أسلوب كيلبرن في شدّ الوجه “. لكنَّ رونق تريسي الخاصّ كان هو الحلّ : لقد كانت بالنسبة إلى أمّها هي الزينة الرائعة. وقد وجدتُ مظهر العائلة، الذي لم يكن على هوى ذائقة أمي، آسراً. كانت ترتدي ملابس من أجل مستقبل لم يأت بعد لكنّها تتوقَّع مجيئه. هذا هو الهدف من لبس البنطلون الكتّان الأبيض، وقميصها الرياضي المُخطَّط بالأزرق والأبيض، وحذائها الخفيف البالي، وشكل رأسها الأفريقيّ الحادّ الزوايا والجميل – كان كل شيء غاية في البساطة، والتواضُع، وخارج تماماً روح العصر، والمكان. وذات يوم سوف ” نغادر هذا المكان “، وتُكمِل دراساتها، وتُصبح أنيقة راديكاليّة بالمعنى الحقيقيّ للكلمة، وربما يدور الحديث عنها كما كان يدور حول إنجيلا ديفيز وغلوريا شتاينم… والحذاء ذو نعل القشّ المُسطَّح هو جزء من هذه الصورة الجريئة، ويُشير برهافة إلى المفاهيم الأرقى. أنا كنتُ زينة فقط بمعنى أنني عبر بساطتي الشديدة كنتُ أمثّل الانضباط الأموميّ المُثير للإعجاب، وكان يُعتَبَر من قبيل قلَّة الذوق – في الأوساط التي كانت أمي تصبو إليها – أنْ تُلبسي ابنتك ملابس جديرة بعاهرة. لكنَّ تريسي تمثِّلُ من دون أي إحساس بالخجل مطمح أمّها وتُجسّده، ومصدر سرورها الوحيد، بتلك العقد الصفراء الرائعة، وأذيال التنورة ذات الكشاكش العديدة وقصَّة الشعر القصيرة التي تكشِف عن بضع بوصات من بطنها الجدير بطفلة والأسمر بلون الجوز، وبينما كنا نتزاحم معهما وسط ذلك المكان الضيّق الذي يعجّ بالأمهات وبناتهن كأنهنّ يدخلن الكنيسة راقبتُ باهتمام والدة تريسي وهي تدفعُ الفتاة التي أمامها – وأمامنا – مُستخدمة جسمها كوسيلة إعاقة، ولحم ذراعيها يتدلّى وهي تدفعنا إلى الخلف، إلى أنْ وصلتْ إلى درس المس إيزابيل للرقص، وعلى وجهها سيماء منتهى الفخر واللهفة، وعلى استعداد لتودِع حمولتها النفيسة مؤقّتاً في عُهدة الأخريات. وبالمقابل، كان موقف أمي هو العبوديّة المُرهَقَة التي تكاد تكون مُثيرة للسخرية، وكانت تعتقد أنَّ درس الرقص شيء سخيف، فلديها أمور أهمّ تقوم بها، وبعد مضي عدد من أيام السبت الأخرى – كانت خلالها تجلس بارتخاء على أحد الكراسي البلاستيكيّة المصفوفة على طول الجدار الأيسر، وتكاد لا تقوى على ضبط امتعاضها من التمرين كله – حصل تغييرٌ وحلَّ والدي محلّها. وانتظرتُ أنْ يحلّ والد تريسي محلَّها، لكنّه لم يحضر. واتَّضحَ – كما خمَّنتْ أمي في الحال – أنّه ليس ” والد تريسي “، على الأقلّ ليس بالمعنى التقليديّ، عبر الزواج. وهذا، أيضاً، كان دلالة على قِلّة الذوق. 

*****

خاص بأوكسجين


مساهمات أخرى للكاتب/ة: