من رواية “الرجل اللا مرئيّ”
العدد 260 | 04 تشرين الأول 2020
رالف إليسون


  يعود الأمر إلى زمن ماضٍ بعيد، يُقارب العشرين عاماً. لطالما كنتُ أبحث طوال حياتي عن شيء ما، وأينما ذهبتُ يُحاول أحدهم أنْ يشرح لي ما هو. وكنتُ أقبل أجوبتهم أيضاً، على الرغم من أنها كانت في الغالب متناقضة بل وتناقض نفسها. كنتُ ساذجاً. كنتُ أبحث عن ذاتي وأطرح على كل شخص، ما عدا نفسي، أسئلة لا يمكن لأحد، غيري، أنْ يعرف إجاباتها. وقد استغرق مني وقتاً طويلاً والكثير من الإحباط المؤلِم لتوقعاتي التوصُّل إلى الإدراك الذي يبدو أنَّ كل شخص آخر يعرفه بالفِطرة : أنني لست إلا نفسي. ولكن كان عليَّ أولاً أنْ أكتشف أنني رجل غير مرئيّ !

   ومع ذلك أنا لستُ مسخ الطبيعة، أو التاريخ. كنتُ كياناً مُحتمَلاً، وقبل خمسة وثمانين عاماً كانت الأشياء الأخرى  متساوية (أو غير متساوية). أنا لستُ خجلاً من جدودي لأنهم كانوا عبيداً. ولست خجلاً من نفسي لأنني في وقت من الأوقات شعرتُ بالخجل. قبل نحو خمسة وثمانين عاماً قيل لهم أنهم أصبحوا أحراراً، ومتحدين مع الآخرين في بلدنا في كل ما يتناسب مع الصالح العام، وأيضاً، في كل شأن اجتماعي، منفصلين كأصابع اليد. وصدقوا. وابتهجوا. وبقوا في مكانهم، وعملوا عملاً شاقاً، وأنجبوا والدي لكي يفعل الشيء نفسه. لكنَّ جدي هو المختار. كان عجوزاً غريب الأطوار، وقيل لي إنني أسير على خُطاه. وهو الذي كان يُثير المشاكل. وعلى فراش احتضاره نادى على والدي وقال، ” يا بنيّ، بعد رحيلي أريد منك أنْ تواصل الكفاح. أنا لم أخبرك هذا من قبل، لكنَّ حياتنا حرب وقد كنتُ خائناً طوال حياتي، جاسوساً في بلد العدو وأنا أُعيد مسدسي في عملية إعادة البناء . عِش ورأسك في فم الأسد. أريد منك أنْ تتغلب عليهم بالرضوخ لمطالبهم، وانسفهم بالابتسامات الواسعة، ووافقهم حتى الموت والدمار، دعهم يبتلعونك إلى أنْ يتقيأوا أو ينفجروا “. لقد اعتقدوا أنَّ العجوز جُنَّ. لقد كان أشد الرجال خنوعاً. واندفع الأبناء الأصغر سناً خارج الغرفة، وأُسدِلتْ الستائر وأُخفِضَ لهب المصباح حتى بدأ يُبقبق على الفتيل كتنفُّس العجوز. وهمس بقسوة ” علِّم هذا لأولادك ” ؛ ثم لفظ آخر أنفاسه.

   لكنَّ رعب أهلي من كلماته الأخيرة كان أشدّ من رعبهم من احتضاره. وكأنه لم يمُتْ أبداً، لقد أثارت كلماته الكثير من القلق. وشدّدوا على تحذيري من أنني يجب أنْ أنسى ما قال، والحق، أنَّ هذه هي المرة الأولى التي يُذكَر فيها الأمر خارج نطاق العائلة. ولكن كان له أثر هائل عليّ. ولم أفهم قط معنى ما قال. لقد كان جدي عجوزاً هادئاً لم يُثِر في حياته أية مشكلة، لكنه على فراش موته نعت نفسه بالخائن والجاسوس، وتحدّث عن خنوعه بوصفه نشاطاً خطراً. وبقي ذلك في مؤخرة رأسي لغزاً دائماً بلا حل. وكلما تحسنت أحوالي أتذكّر جدّي وأشعر بالذنب والاضطراب. وكأنني أحمل معي نصيحته رُغماً عني. وما زاد الطين بلّة أنَّ الجميع أحبّوني بسبب ذلك. ومدحني أنصع الرجال بياضاً في البلدة. كانوا يعتبرونني مثالاً للسلوك المرغوب – تماماً كما كان جدّي. وما حيَّرني هو أنَّ العجوز اعتبر ذلك خيانة. وعندما كنتُ أتلقّى مديحاً على سلوكي أشعر بالذنب بأنني بصورة ما أقوم بعمل هو في الحقيقة ضد رغبات البيض من الناس، وبأنهم لو فهموا الأمر لرغبوا في العكس، وبأنني يجب أنْ أكون نكداً وخسيساً، وأنَّ ذلك سيكون ما يريدون حقاً، على الرغم من أنهم خُدِعوا واعتقدوا أنهم أرادوا مني أنْ أتصرّف كما فعلت. وهذا جعلني أخاف من أنْ يأتي يوم يعتبرونني فيه خائناً وأضيع. ولكنَّ خوفي كان أكبر من أنْ أتصرّف بأية طريقة مختلفة لأنهم لم يحبوا ذلك على الإطلاق. لقد كانت كلمات العجوز أشبه باللعنة. وفي يوم تخرّجي ألقيتُ خطبة بيَّنتُ فيها أنَّ المهانة هي سرّ، أو بالأحرى، جوهر التقدُّم. (هذا لا يعني أنني كنت أؤمن بذلك – كيف يمكنني أنْ أفعل، وأنا أتذكّر جدّي؟ – بل آمنتُ فقط بأنه ناجع) وكان نجاحاً واسعاً. مدحني الجميع ودُعيتُ لإلقاء خطاب أمام جمعٍ من صفوة المواطنين البيض. وكان هذا انتصاراً لمجتمعنا كله.

   حدث ذلك في الصالة الرئيسة في الفندق الكبير. وعندما وصلتُ إلى هناك اكتشفتُ أنه مناسبة لاجتماع المدخنين، وقيل لي أنه بما أنني موجود هناك فيمكنني أيضاً أنْ أشارك في مباراة ملاكمة جماعية سوف يُقيمها بعض من رفاقي في المدرسة كجزء من الترفيه. وأتت المباراة أولاً.

   كان الحضور يتألّف من عليّة أهالي البلدة بملابس السهرة الرسمية، ينكبّون بنهم على طعام المائدة المفتوحة، ويتجرعون البيرة والويسكي ويُدخنون السيجار الضخم. كانت غرفة كبيرة ذات سقف عال. وقد رُتبَتْ الكراسي بصفوف منتظمة حول ثلاثة جوانب من حلقة ملاكمة متحركة. أما الجانب الرابع فكان خالياً، عبارة عن مساحة خالية لامعة من الأرض المصقولة. وبالمناسبة، كانت لدي بعض الشكوك حول الملاكمة الجماعية. ليس من قبيل كراهية هذا النوع من القتال، بل لأنني لم أكن آبه كثيراً بأقراني الآخرين المُشاركين. لقد كانوا أشدّاء وليس لديهم لعنة جدّ تُقلق راحة بالهم. وكانت شدّتهم لا تخفى على أحد. ثم إنني شككت في أنَّ المشاركة في ملاكمة جماعية قد تنتقص من مهابة خطبتي. وفي أيام سابقة لكوني غير مرئيّ تخيّلت نفسي نسخة مُحتملة من بوكر تي. واشنطن. لكنَّ الآخرين أيضاً لم يكونوا يأبهون لي، وكانوا تسعة. وشعرت بتفوقي عليهم على طريقتي، ولم أُحب الطريقة التي احتشدنا بها معاً داخل مصعد الخدم. وهم لم يُحبوا وجودي معهم. في الحقيقة، تبادلنا بينما الطوابق المُضاءة تومضُ مجتازة المصعد بعض الكلمات حول كون اشتراكي في القتال قد تسبّب في إقصاء أحد أصدقائهم من المباراة.

   خرجنا من المصعد واجتزنا ردهة ذات زخرفة معقدة ومنها إلى غرفة انتظار وطُلِبَ منا أنْ نرتدي ملابس الملاكمة. وأُعطيَ كل منا قفاز ملاكمة وقادونا إلى قاعة ذات مرايا كبيرة، ولجناها ونحن نتلفّت حولنا بحذر ونتهامس، خشية أنْ يسمعوننا بالمصادفة عبر ضجيج المكان. كان الجو ضبابياً من دخان السيجار. وكان الويسكي قد بدأ يُعطي مفعوله. وصُدمتُ إذ رأيت بعضاً من أهم الشخصيات في البلدة يترنحون من السُكر. كلهم كانوا حاضرين – أصحاب مصارف، محامون، قُضاة، أطباء، رؤساء المطافي، معلمون، وتجار. بل وأحد أشد القساوسة عصريّة. وكان هناك أمر يجري في المقدمة لم نتمكن من رؤيته. كان عزفٌ على آلة الكلارينيت يُرسل ذبذباته بحسّية وقد وقف الرجال وراحوا يتمايلون بحماسة إلى الأمام. كنا مجموعة صغيرة محدودة، متلازمة معاً، والأجزاء العليا العارية من أجسادنا تتلامس وتلمع بعرّق الترقُّب؛ في حين كان في المقدمة حماس الشخصيات المهمة يزداد حول أمر نجهله. وفجأة سمعت مدير المدرسة، الذي طلب مني الحضور، يصرخ، “استخدموا حِيلَكم، يا سادة! استخدموا حيلكم الصغيرة! “

   اندفعنا إلى مقدمة القاعة، كانت أشدّ عبقاً برائحة التبغ والويسكي . ثم دُفعنا إلى أماكننا. وكدتُ أُبلل ملابسي الداخلية. كان بحر من الوجوه، بعضها عِدائيّ، وبعضها مسرور، يكتنفنا، وفي المركز، ومقبلنا، وقفت شقراء رائعة الجمال – عارية تماماً. ران صمتٌ مُطبق. شعرت بهبّة ريح باردة قوية تصدمني. حاولتُ أنْ أتراجع، لكنهم كانوا خلفي ومن حولي. بعض الشبان وقفوا برؤوس منكسة، يرتجفون. شعرت بموجة من الإحساس الشديد بالذنب والخوف. اصطكت أسناني، وانكمش جلدي، وارتطمت رُكبتاي. ومع ذلك شعرت بانجذاب قويّ ونظرتُ رُغماً عني. لو أنَّ ثَمَنَ النظر هو العمى، لنظرت. كان الشعر أصفر اللون كشعر دمية سيرك صغيرة وبدينة، والوجه مُثقلاً بمساحيق التجميل، وكأنما ليشكّل قناعاً تجريدياً، والعينان  غائرتين وتحيط بهما هالة من زُرقة البرد، بلون مؤخرة سعدان. شعرت برغبة في البصق عليها بينما عيناي تستعرضان ببطء جسدها. كان ثدياها متماسكين ومستديرين كقباب معبد هندي شرقي، ووقفتُ قريباً جداً لأرى نسيج البشرة الصافية  وحبات العرق تشبه اللآلئ تتلألأ كحبات الندى حول برعميّ حلمتيها المنتصبين والورديين. وأردتُ في الوقت نفسه أنْ أركض خارج المكان، أنْ تنشق الأرض وتبتلعني، أو أنْ أذهب إليها وأدثّرها بجسمي درءاً لعينيّ وعيون الآخرين ؛ أنْ أتحسّس فخذيها الناعمين، لأداعبها وأدمّرها، لأحبّها وأغتالها، لأختبئ منها، وأيضاً لأمسّد حيث بُشكِّلُ فخذاها تحت العلم الأميركي الصغير الموشوم على بطنها حرف V كبير. وخُيّل إليّ أنه من بين كل الموجودين في المكان لم تر إلا أنا  بعينيها المُجرّدتين.

   ثم بدأتْ ترقص، بحركات حسيّة بطيئة؛ ودخان مائة سيجار يتشبث بها كأرقّ غلالة. بدتْ أشبه بفتاة-طائر شقراء تدثرها خُمُر تنادي عليّ من السطح الغاضب لبحر رمادي ومُهدِّد. ونُقِلتُ. ثم وعيتُ عزف الكلارينيت ووجود الشخصيات الهامة التي تهتف لها. بعضهم هدَّدونا إذا نظرنا وآخرون إذا لم ننظر. إلى اليمين رأيت أحد الفتية يُصاب بالإغماء. والآن  قبض أحد الرجال على إبريق فضيّ من الطاولة  واندفع إلى الأمام ورشّه بمياه مُثلّجة وأوقفه وأجبر اثنين منا على دعمه بينما رأسه يتدلى ويُصدر أنيناً من بين شفتيه الغليظتين المُزرقّتين. وبدأ فتى آخر يتوسل كي يذهب على المنزل. كان أضخمهم جثة في المجموعة، يرتدي زي قتال أحمر قانٍ شديد الضيق بحيث لا يُخفي الانتصاب البارز منه كاستجابةٍ لأنين الكلارينيت المنخفض والموحي. وحاول أنْ يستر نفسه بقفاز الملاكمة.

   طوال الوقت كانت الشقراء تواصل الرقص، تبتسم بوهن للشخصيات البارزة التي تراقبها بافتتان، وتبتسم بوهن من خوفنا. ولاحظت أنَّ أحد التجار يُتابعها بشبق، وقد ارتخت شفتاه وبدأ يُريِّل. كان ضخم الجثة يزيّن مقدمة قميصه بدبابيس من الأحجار الكريمة وقد انتفخ بالكرش الواسع تحته، وكلما تمايلت الشقراء بوركيها المتموّجين مرَّر يده خلال الشعر الخفيف على رأسه الأصلع، وتلوى بكرشه بحركة بطيئة وداعرة، رافعاً ذراعيه، ومتخذاً وقفة خرقاء كأنه حيوان باندا سكران. هذا المخلوق كان غائباً تماماً عن الوعي. وتسارع إيقاع الموسيقى. وبينما الراقصة تترنح مع تعبير منفصل على وجهها، بدأ الرجال يمدون أيديهم ليلمسوها. ورأيتُ أصابعهم السمينة تغوص في اللحم اللين. وحاول بعض الآخرين أنْ يمنعوهم وبدأتْ هي تدور حول المكان في دوائر جميلة، وهم يلاحقونها، منزلقين ومتسللين على الأرضية الصقيلة. كان جنوناً. وتحطمت الكراسي، وأُريق المشروب، وهم يركضون خلفها يضحكون ويصرخون. وأمسكوا بها حالما وصلت إلى أحد الأبواب، ورفعوها عن الأرض، ورموا بها عالياً كما يفعل فتية الجامعة إلى السديم، ورأيتُ على شفتيها الحمراوين بابتسامتهما الثابتة رعباً وفي عينيها اشمئزازاً، يُشبه رعبي وذاك الذي رأيته لدى بعض من الفتية الآخرين. وبينما أنا أراقب، رموا بها عالياً مرتين وبدا أنَّ ثدييها قد تسطحا في وجه الهواء وأنَّ ساقيها تباعدا بجموح وهي تدور لولبياً. وساعدها بعض الأشخاص الأكثر جدية على الفرار، وقفزتُ واقفاً عن الأرض واندفعت إلى  غرفة الانتظار مع باقي الفتية.

   كان البعض لا يزال يبكي بهستريا. ولكن بينما كنا نحاول أنْ نغادر مُنِعنا وأُمِرنا بالعودة إلى الحلبة. ولم يكن في وسعنا إلا أنْ نفعل ما أُمرنا به. وارتقينا نحن العشرة من تحت الحبال وسمحنا لهم بعصب عيوننا بشرائط عريضة من القماش الأبيض. وبدا أنَّ أحد الرجال شعر بقليل من الشفقة وحاول أنْ يُشيع بيننا المرح ونحن واقفون وظهورنا تستند إلى الحبال. حاول بعضنا أنْ يبتسموا. قال أحد الرجال ” أترون ذلك الفتى هناك؟ أريد منكم أنْ تركضوا نحو الجرس وتضربونه به بطنه. فإذا لم تتمكنوا من ذلك فسوف أعاقبكم. لا تعجبني نظرته”. وقيل الكلام نفسه لكل منا. ووضِعَت العُصابات على عيوننا. وحتى عندئذٍ كنتُ أراجع خطابي. كانت كل كلمة في ذهني كلهب ساطع. وشعرت بالقماش يضغط على مكانه، وتجهمّت لكي يرتخي عندما أزيل التجهُّم.

   أما الآن فشعرتُ بنوبة مفاجئة من رعب العمى. لم أكنْ متعوداً على الظلام. وكأنما وجدتني فجأة في غرفة مظلمة مملوءة بأفواه سامّة من القطن. استطعتُ أنْ أسمع الأصوات المكبوتة تصرخ باستمرار تطالب ببدء مباراة الملاكمة الجماعية.

   ” هيا ابدؤوا ! “

   ” اتركوني على ذلك الزنجي الضخم ! “

   أصختُ سمعي لكي أميِّز صوت مدير المدرسة، وكأنما لأعتصر بعض الأمان من رنينه المألوف قليلاً.

   صرخ أحدهم ” اتركوني على أبناء القحبة السود أولئك !”

   صرخ آخر ” كلا، جاكسون، كلا ! فليساعدني أحدكم على الإمساك بجاك”

   صرخ الأول ” أريد أنْ أصل إلى ذلك الزنجي ذي لون الزنجبيل. مزّقوه إرباً”

   وقفتُ مُستنداً على الحبل وأنا أرتجف. ذلك أنني في تلك الأيام كنتُ ما يُسمّى بلون الزنجبيل، وبدا من صوته أنه على استعداد لسحقي بين أسنانه كقطعة هشة من بسكويت الزنجبيل.

   كان ثمة صراع محتدم يدور. فالكراسي كانت تزاح من أماكنها وسمعت أصوات نخر من بذل مجهوداً هائلاً. أردتُ أنْ أنظر، أنْ أرى برغبة أقوى مما انتابني في أي وقت من حياتي. لكنَّ العُصابة كانت مُحكمة الشدّ كجرَب كثيف يُغضّن الجلد وعندما رفعتُ يديّ بقفّازيهما لأزيح طبقات القماش الأبيض جانباً صرخ صوت، ” أوه، كلا لن تفعل، يا ابن الحرام الأسود ! اترك هذا وشأنه ! “

   هدر أحدهم خارقاً الصمت المُفاجئ “اقرع الجرس قبل أنْ يقتل جاكسون الزنجي!”، وسمعت الجرس يُقرَع وحفيف وقع أقدام تتقدّم.

   ضرب قفّاز رأسي. درتُ حول نفسي، وأنا أضرب بعنف لدى مرور شخص، وشعرتُ بتموُّج الارتطام يمتد على طول ذراعي وحتى كتفي. ثم بدا وكأنَّ الفتية التسعة كلهم انقضّوا عليّ دفعة واحدة. وانهال الضرب عليّ من كل جانب ورحت أُسدد اللكمات باذلاً أقصى جهدي. وأُصِبت بالكثير من الضربات حتى تساءلت إنْ كنتُ الشخص الوحيد مُعصَب العينين في الحلبة، أو إنْ كان الرجل المدعو جاكسون لم ينجح في النيل مني.

   لم أعد أستطيع أنْ أتحكّم في حركاتي وأنا مُعصَب العينين. لم تعد لدي كرامة. كنتُ أتعثّر في المكان كطفل صغير أو كرجل ثمل. كان الدخان قد أضحى أشدّ كثافة ومع كل ضربة بدا أنه يلسع رئتيّ ويُقيِّدهما. أصبح لعابي كصمغ حار مُرّ. ارتطم قفّاز برأسي، مالئاً فمي بالدم الحارّ. كان في كل مكان. ولم أُميِّز إنْ كانت الرطوبة التي أحسستُ بها على جسمي عرقاً أم دماً. وسُدِّدتْ ضربة إلى مُؤخر عنقي. وشعرت بأنّه أُطيحَ بي، وارتطم رأسي بالأرض. وامتلأ العالم الأسود من خلف العُصابة بخطوط من الضوء الأزرق. انكببتُ على وجهي، متظاهراً بأنني هُزِمت، لكنني شعرتُ بأيدٍ تقبض عليّ وتنخعني لأقف على قدميّ. ” واصل، أيها الفتى الأسود ! اضرب!”. كانت ذراعاي ثقيلتين كالرصاص، ورأسي يؤلمني من عنف الضربات. ونجحت في تلمُّس طريقي إلى الحبال وتمسكت بها، محاولاً أنْ أستردّ أنفاسي. استقرّ قفّاز على منتصف جسمي وأُطيح بي من جديد، شاعراً كأنَّ الدخان أصبح سكيناً مغروزاً في أحشائي. وراحت السيقان من حولي تدفعني إلى هذه الجهة وتلك، وأخيراً انتصبتُ واقفاً واكتشفتُ أنَّ باستطاعتي أنْ أرى الأشكال السوداء، المُسربلة بالعَرق، تتهادى في الجو العبق بالدخان الأزرق كراقصين سكارى يتمايلون على إيقاع صوت الضربات المكتوم السريع كقرع الطبول.

   قاتلَ كلٌ واحد بعنف. كانت فوضى شاملة. كل شخص قاتل كل شخص آخر. ولم يستمر القتال الجماعي طويلاً. اثنان، ثلاثة، أربعة قاتلوا واحداً، ثم انتقلوا إلى قتال كلٍ منهم الآخر، وهم أنفسهم تعرَّضوا للهجوم. وراحت الضربات توجَّه إلى ما تحت الحزام وإلى الكلية، بقفاز منفلت أو مُثبَّت، ولما أصبحت عيناي شبه مفتوحتين لم يعد هناك الكثير من الرعب. صرتُ أتحرك بحرص، متفادياً الضربات، على الرغم من أنها لم تكن كثيرة، أقاتلُ مُنتقلاً من مجموعة إلى مجموعة. كان الفتية يتحسسون طريقهم كالعميان، كسرطانات حذرة تربض لتحمي منتصف أجسادها ، ويبتلعون رؤوسهم بين أكتافهم، وأيديهم ممدودة أمامهم، وقبضاتهم تختبر الهواء الممتلئ بالدخان كمجسّات لها قبضات لحلازين فائقة الحساسية. في إحدى الزوايا لمحت فتى يضرب الهواء بعنف وسمعته يصرخ من شدة الألم عندما ارتطمت يده بقوة بقائم الحلبة. رأيته للحظة يميل ممسكاً بيده، ومن ثم يهبط إلى أسفل لأنَّ إحدى اللكمات أصابت رأسه غير المحمي. وتلاعبت بإحدى المجموعات ضد أخرى، متسللاً ومُسدداً لكمة ثم مبتعداً لأدفع الآخرين إلى المعمعة ويتلقوا الضربات العمياء المُسدَّدة إليّ. كان الدخان مؤلماً ولم تكن هناك جولات منفصلة، ولا أجراس تُقرَع بعد كل ثلاث دقائق لإراحتنا من الإرهاق. وأخذت الغرفة تدور من حولي، في دوامة من الأضواء، والدخان، والأجساد المسربلة بالعرق تكتنفها وجوه بيضاء متوترة. نزفتُ من أنفي وفمي، وانتثر الدم على صدري.

   وظل الرجال يزعقون، “اضربه بقوة، أيها الفتى الأسود ! أخرِج أحشاءه! “

   “سدِّدْ له ضربة من تحت إلى فوق ! اقتله ! اقتل ذلك الفتى الضخم !”

   تظاهرتُ بالسقوط، ورأيتُ أحد الفتية يسقط  كتلة واحدة إلى جواري وكأننا صُرِعنا بضربة واحدة، رأيتُ قدماً تنتعل حذاءً رياضياً تضرب عورته عندما تعثَّر به الاثنان اللذان طرحاه أرضاً. تدحرجتُ مبتعداً، شاعراً بشيءٍ من الغثيان.

   كلما كان قتالنا يشتد يزاد تهديد الرجال لنا. ومع ذلك، كنتُ قد بدأتُ أقلق من جديد على خطابي. كيف سيكون؟ هل سيعترفون بمقدرتي؟ ماذا سيمنحونني؟

   كنتُ أقاتل بضربات آليّة عندما لاحظتُ فجأة أنَّ الفتية يُغادرون الحلبة واحداً إثر آخر. دُهِشت، وتولاني الرعب، وكأنني تُرِكتُ وحدي مع خطر مجهول. ثم فهمت. لقد دبَّر الفتية الأمر فيما بينهم. فالعادة تحكم على الرجلين الباقيين في الحلبة أنْ يتلاكما على نيل الجائزة. اكتشفتُ هذا بعد فوات الأوان. وعندما قُرِعَ الجرس قفز الرجلان بالسترة الرسمية إلى الحلبة وأزالا العُصابة. فوجدتني وجهاً لوجه مع تاتلوك، أضخم المجموعة. شعرتُ بهيجان الاشمئزاز في معدتي. وما أنْ كفَّ الجرس عن الرنين في أُذنيّ حتى قُرِعَ من جديد ورأيته يتقدَّم مني بسرعة. ولما لم تكن لدي أدنى فكرة عما ينبغي أنْ أفعل سدَّدتُ إلى أنفه ضربة قوية. تابع تقدّمه، جالباً معه عنف العرق البائت الحادّ والزنخ. كان وجهه حالك السواد، وحدهما عيناه كانتا مُفعمتين بكراهيتي وتتوهجان برعبٍ محموم مما حدث لنا جميعاً. وانتابني القلق. كنتُ أرغب في إلقاء خطابي وها هو يقترب مني وكأنه ينوي أنْ ينتزعه مني. وضربته مراراً وتكراراً، متلقياً لكماته كما تأتيني. ثم بحافز مُفاجئ ضربته ضرة خفيفة عندما تشابكنا، وهمست، “تظاهرْ بأنني صرعتُك، وبهذا تنال الجائزة”

   همس بصوت أجشّ ” سوف أخرقك “

   ” من أجل هؤلاء ؟ “

   ” بل من أجلي أنا، با ابن القحبة! “

   كانوا يصرخون بنا كي ننفصل وأطاح بي تاتلوك وجعلني أدور نصف دورة حول نفسي بضربة واحدة، وبينما آلة تصوير تتمايل منسابة في مشهد متحرك، رأيتُ الوجوه الحمراء النابحة تربض متوترة تحت سحابة من الدخان الأزرق-الرمادي. تمايل العالم لبرهة، منحلاً، متدفقاً، ثم صفا رأسي وكان تاتلوك يقفز أمامي. وذلك الشبح المُرفرف أمام عينيّ كان يده اليُسرى. ثم عندما سقطتُ نحو الأمام، وارتطم رأسي بكتفه الرطب، همست :

   ” سوف أزيده خمسة دولارات أخرى “

   ” اذهب إلى الجحيم! “

   لكنَّ عضلاته تراخت قليلاً تحت ضغط ثقلي وقلت لاهثاً  “سبعة ؟ “

   قال، وهو يمزقني تحت منطقة القلب، “أعطها لأمك”.

   بينما كنتُ لا أزال أتمسّك به نطحته ثم ابتعدت. وشعرتُ كأنني أتلقّى وابلاً من اللكمات. وقاتلتُ بيأس تام. ورغبتُ في أنْ أُلقي خطابي أكثر من أي شيء في العالم، لأنني شعرتُ بأنَّ أولئك الرجال وحدهم قادرون على تقدير طاقتي حقاً، والآن ها هو هذا المهرج يُدمر الفرص المُتاحة لي كلها. وبدأتْ عندئذٍ أقاتل بحرص، متقدماً لألكمه من ثم أتراجع من جديد بأقصى سرعة. ثم سدّدتُ إليه ضربة محظوظة إلى ذقنه ونلتُ منه أيضاً – إلى أنْ سمعت صوتاً عالياً يزعق، “أنا أراهن على الفتى الضخم”.

   لدى سماعي هذا، كدتُ أفقد حذري. كنتُ مُبلبلاً : هل أحاول أنْ أفوز على الرغم من ذلك الصوت ؟ ألن يكون ذلك ضد صالح خطابي، واللحظة غير مناسبة للمهانة، لمقاومة الاستسلام؟ وجعلت ضربةٌ تلقيتُها على رأسي وأنا أقفز متراقصاً عيني اليُمنى تجحظ كعفريت العلبة وتأكّدتْ ورطتي. عندما سقطت اصطبغ المكان باللون الأحمر. كانت سقطة كما في حلم، تراخى جسمي وأصبح نيّقاً لا يقرِّر أين يستقر، إلى أنْ نفد صبر الأرض والتقينا بارتطام قوي. بعد ذلك بلحظة استعدتُ وعيي. وقال صوت مُنوِّم “خمسة” بتشديد. واستلقيتُ هناك، أراقب بقعة ضبابية حمراء داكنة من دمي تأخذ شكل فراشة، تتلألأ وتغوص في العالم الرمادي القذر لأرض الحلبة.

   عندما وصل الصوت بنبرة ممطوطة إلى الرقم ” عشرة ” رفعوني وجرّوني إلى أحد الكراسي. جلستً دائخاً. كانت عيني تؤلمني وتتورَّم مع كل نبضة من نبضات قلبي القوية وتساءلت إنْ كان سيُسمح لي الآن بإلقاء خطابي. كنتُ أتفصّد عرقاً، وفمي لا يزال ينزف. ثم وضعونا صفاً واحداً على طول الجدار. تجاهلني باقي الفتية وهم يُهنئون تاتلوك ويقدّرون المبلغ الذي سينالون. وأحد الفتية كان يتألّم من يده المسحوقة. ونظرتُ إلى المقدمة، فرأيتُ خدماً يجمعون أجزاء الحلبة القابلة للطيّ ويضعون بساطاً مربّع الشكل صغيراً في المساحة المُحاطة بالكراسي. وفكّرت، لعلي سأقف على البساط لكي أُلقي خطابي.

   ثم نادى الـقيّم على الحفل علينا “تعالوا إلى هنا يا شباب واستلموا نقودكم “

   تقدمنا مسرعين إلى حيث رجال يضحكون ويتحدثون وهم على كراسيهم، ينتظرون. حينئذٍ بدا الجميع ودودين.

   قال الرجل ” ها هي على البساط”. رأيتُ البساط مغطى بالقطع النقدية من كل الأحجام وبضعة أوراق مالية مُجعّدة. ولكن ما أثارني فكانت القِطع الذهبيّة، الموزّعة هنا وهناك على البساط.

   قال الرجل “يا شباب، كلها لكم. إنها لكم بقدر ما تجمعون”

   قال رجل أشقر، وهو يغمز لي بعينه سراً “هذا صحيح، يا سامبو “

   ارتجفتُ من شدة الفرح، ناسياً ألمي. قلت في نفسي، سوف أحصل على القطع الذهبية والأوراق النقدية. سوف أستخدم يديّ الاثنتين. وسوف أرتمي بجسمي على الفتية القريبين مني لأمنعهم من الحصول على الذهب .

   أمرنا الرجل ” انزلوا وتحلقوا حول البساط الآن، وحذار أنْ يلمسه أي منكم إلى أنْ أُعطي الإشارة “

   سمعت أحدهم يقول “سيكون هذا مشهداً ممتعاً “

   وكما أُمِرنا، تحلّقنا حول البساط على رُكبنا. ورفع الرجل يده المُرقّشة ببطء ونحن نتابعها بعيوننا إلى أعلى.

   ثم قال الرجل “استعدوا، ابدؤوا ! “

   اندفعت بقوة نحو قطعة نقد صفراء ملقاة على التصميم الأزرق من السجادة، ولمستها وأنا أصرخ من الدهشة لكي أنضم إلى أولئك الذين نهضوا من حولي. حاولت بشكل مسعور أنْ أُبعِد يدي لكنني لم أستطع. كانت هناك قوة عنيفة، حارة، تتغلغل في جسدي، وتهزني كجرذ مبتل. كانت السجادة مُكهربة. ووقف شعر رأسي مُنتصباً وأنا أحاول أنْ أتحرر. وقفزت عضلاتي، وارتجفت أعصابي، والتفَّت حول نفسها. لكنني وجدتُ أنَّ ذلك لم يردع باقي الفتية. كان بعضهم يتراجعون ويتلقّفون القطع النقدية التي تقفز جرّاء تلوّي الآخرين من الألم. وضجّ الرجال فوقنا ونحن نكافح.

   هتف أحدهم كببغاء بصوت يشبه آلة نفخ نحاسية، “خذها، اللعنة، خذها! هيا، خذها! “

   أسرعت بالزحف حول الأرضية، وأنا أجمع القطع النقدية، محاولاً تجنّب القطع النحاسية وأجمع الأوراق الخضراء والقطع الذهبية. تجاهلت الصدمة بالضحك، وأنا أجمع القطع النقدية بسرعة، واكتشفت أنَّ في استطاعتي أنْ أحتوي التيار الكهربائي – هذا تناقُض، لكنَّ العملية نجحت. ثم بدأ الرجال يدفعوننا نحو البساط. ضحكنا بارتباك ونحن نكافح لنتملّص من بين أيديهم ونستمر في جمع القطع. كنا كلنا مبللين وأجسادنا زلقة ومن الصعب إمساكنا. وفجأة رأيت أحد الفتية يُرفَع في الهواء، يتلألأ بالعرق ككلب بحر السيرك، وسقط، واستقرّ ظهره الأسود كله على البساط المُكهرَب، وسمعته يصرخ ورأيته يرقص بالمعنى الحرفي للكلمة على ظهره، ومرفقاه يضربان الأرض بحركاتٍ مسعورة، وعضلاته ترتعش كلحم حصان يقرصه عدد كبير من الذباب. وعندما تدحرج أخيراً مبتعداً، كان وجهه رمادي اللون ولم يوقفه أحد عندما فرّ من الأرض وسط هدير الضحك.

   قال المسؤول عن العرض “خذ النقود، إنها نقود أميركية جيدة! “

   وأخذنا ننتزعها ونقبض عليها، ننتزعها ونقبض عليها. وهذه المرة حرصت على ألا أقترب كثيراً من البساط، وعندما شعرت الأنفاس الحارة الممتزجة بالويسكي تهبط عليّ كسحابة من الروائح الكريهة مددتُ يدي وقبضتُ على ساق كرسي يجلس عليه أحدهم وتمسكت به بشدة.

   “اتركه، أيها الزنجي! اتركه! “

   تهادى الوجه الضخم نحو الأسفل مقترباً من وجهي وهو يحاول أنْ يدفعني ليُحررني. لكنّ جسمه كان زلقاً وشديد السُكر. كان السيد كولكورد الذي يمتلك سلسلة من دور السينما و “مرابع الترفيه”. وكلما أمسك بي أنزلق منفلتاً من بين يديه. وتحول الأمر إلى صراع حقيقيّ. وكنتُ أخشى البساط أكثر من خشيتي الرجل السكران، لذلك بقيتُ متمسكاً، مندهشاً من نفسي برهة بمحاولتي طرحه هو على البساط . وكم كانت دهشتي كبرى عندما وجدتني أنفّذ الفكرة فعلاً. حاولت ألا أكون واضحاً، ومع ذلك عندما قبضت على ساقه، في محاولة لطرحه أرضاً عن الكرسي، نهضَ واقفاً وهو يهدر بالضحك، ثم نظر برصانة في عينيّ مباشرة، وضربني بوحشية على صدري. انفلتت ساق الكرسي من يدي وشعرت بأنني أبتعد وأتدحرج. وكأنني أتدحرج على سرير من الجمر المشتعل. وكأنما سيمر قرنٌ من الزمان قبل أنْ أتحرر، قرن سُفِعَت خلاله على امتداد أعمق مستويات جسمي حتى الأنفاس المخيفة داخلي والأنفاس سُفِعَتْ وارتفعت حرارتها حتى درجة الانفجار. وقلت في نفسي وأنا أتدحرج، سوف ينتهي كل شيء في ومضة واحدة. سوف ينتهي كل شيء في ومضة واحدة.

   ولكن ليس بعد، فالرجال على الجانب المقابل كانوا ينتظرون، بوجوه حُمر منتفخة كأنما من تأثير سكتة دماغية وهم يميلون إلى الأمام من كراسيهم. وعندما رأيت أصابعهم تقترب مني تدحرجت مبتعداً ككرة قدم مرتبكة عن رؤوس أصابع المتلقّي، عائداً إلى الجمر. هذه المرة أسعدني الحظ وجعلت البساط ينزلق عن مكانه وسمعت القطع النقدية ترتطم بالأرض والفتية يهرعون لالتقاطها ومسؤول العرض يهتف، “حسن، يا شباب، انتهى العرض. اذهبوا وارتدوا ملابسكم واحصلوا على نقودكم”.

   كنتُ رخواً كخرقة تجفيف الأطباق. وشعرتُ كأنَّ ظهري تلقّى الضرب بالأسلاك.

   بعد أنْ ارتدينا ملابسنا دخل علينا مسؤول العرض وأعطى كلاً منا خمسة دولارات، ما عدا تاتلوك، الذي حصل على عشرة لأنه آخر من تبقّى على الحلبة. ثم أمرنا بالمغادرة. قلت في نفسي، لن تُتاح لي الفرصة لإلقاء خطابي. وبينما كنت أخرج إلى الزقاق المُعتِم يائساً استوقفني أحدهم وطلب مني أنْ أعود. رجعت إلى غرفة العرض، حيث كان الرجال يُعيدون ترتيب كراسيهم ويجتمعون في حلقات لتبادل الأحاديث.

   قرع مسؤول العرض على الطاولة طلباً للهدوء. قال ” أيها السادة، كدنا ننسى جزءاً هاماً من البرنامج. وهو جزء جادّ جداً، أيها السادة. لقد جلبنا فتى إلى هنا لكي يُلقي خطاباً أعدّه بنفسه في حفل تخرجه بالأمس…”

   “مرحى! “

   “لقد قيل لي إنه أذكى طالب عندكم في غرينوود. وقيل لي إنه يعرف من الكلمات الكبيرة أكثر مما يحتويه قاموس الجيب”

   وازداد التصفيق والضحك.

   ” إذن الآن، أيها السادة، أريد منكم أنْ تولوه انتباهكم”

   عندما واجهتهم كانوا لا يزالون يضحكون، كان فمي جافاً، وعيني تنبض. بدأتُ ببطء، ولكن من الواضح أنَّ حنجرتي كانت متوترة، لأنهم بدؤوا يصرخون، ” أعلى ! أعلى ! “

   صرخت “إننا معشر الجيل الشاب نمجّد حكمة ذلك القائد العظيم والتربوي، الذي أول مَنْ نطق بهذه الكلمات الملتهبة بالحكمة: “سفينة تاهت في خضم البحر على مدى أيام وفجأة شاهدت سفينة صديقة. وعلى سارية تلك السفينة المنكوبة رُفعت راية مكتوب عليها : “ماء، ماء ؛ إننا نموت من شدة العطش! ” فجاء الرد من السفينة الصديقة : “أنزلوا دلوكم من حيث أنتم”. وبعد أنْ فهم القبطان أخيراً العبارة، أنزل إلى السفينة المنكوبة دلوه، وعاد إليه مملوءاً بالماء العذب من نبع نهر الأمازون”. وها أنا أُكرر ما قال، وأنقل كلماته “إلى أبناء جنسي الذين يعملون على تحسين أوضاعهم في أرض أجنبية، أو الذين يستخفّون بأهمية تطوير علاقات وديّة مع الرجل الأبيض الجنوبي، جاره الأقرب، أقول: “أنزلوا دلاءكم من حيث أنتم” – أنزلوها من أجل عقد الصداقة بكل وسيلة رجولية مع كل الشعوب من كل الأجناس ممّن يُحيطون بنا… “

   تكلمتُ بنبرة آليّة وبحميّة قوية إلى درجة أنني لم أدرك أنَّ الرجال كانوا لا يزالون يتكلمون ويضحكون إلى أنْ جفّ فمي، المملوء بالدم بسبب الجرح، حتى كدتُ أختنق به. سعلت، رغبة مني في أنْ أتوقف وأذهب إلى إحدى تلك المبصقات النحاسية الطويلة، المملوءة بالرمل، لكي أبصق فيها، لكنَّ حفنة من الرجال، خاصة مدير المدرسة، كانوا يُنصتون وكنت خائفاً. لذلك ابتلعت الدم، واللعاب وكل شيء، وتابعت. (كم كنت أتمتّع بطاقات على التحمُّل في تلك الأيام ! وأية حماسة ! أي إيمان في صحّة الأشياء!) وعلى الرغم من الألم تكلّمت بصوت أعلى. ومع ذلك ظلوا يتحدثون وظلوا يضحكون وكأنَّهم صُمٌّ بوجود قطع من القطن في آذانهم القذرة. وهكذا رحت أتكلّم بتوكيد انفعالي أكبر. سددتُ أُذنيّ وابتلعتُ الدم حتى أُصبتُ بالغثيان. بدا الخطاب أطول مائة مرة من طوله الأصلي، لكنني لم أستطع أنْ أُسقِط منه كلمة واحدة. كان يجب أنْ يُقال كل شيء، كل فرق محفوظ غيباً وُضِعَ في الحسبان، ونُفِّذَ. وهذا ليس كل شيء. فكلما نطقت كلمة من ثلاثة مقاطع أو أكثر كانت مجموعة من الأصوات تصرخ طالبة تكرارها. استخدمتُ عبارة “المسؤولية الاجتماعية” فصرخوا :

   ” ما هذه الكلمة التي قلتها، يا ولد ؟ “

   قلت “المسؤولية الاجتماعية”

   “ماذا؟ “

   ” المسؤولية… “

   ” أعلى “

   “… الاجتماعية “

   ” أكثر “

   ” مسؤو… “

   ” أعِدْ ! “

   ” – ؤولية “

   ضجّتْ القاعة بهدير الضحك إلى أنْ ارتكبتُ، بلا شك، بسبب اضطراري إلى ابتلاع دمي، خطأً وصرخت بعبارة لطالما رأيت الصحف والدوريات تشجبها، وسمعت مناظرات حولها في السر.

   ” المساواة…. “

   صرخوا ” ماذا ؟ “

   “… الاجتماعية “

   علِقَ الضحك كما الدخان في السكون المفاجئ. فتحت عينيّ، محتاراً. امتلأت القاعة بأصوات تدل على الاستياء. واندفع المدير المسؤول إلى الأمام. وصرخوا في وجهي بعبارات عِدائية. لكنني لم أفهم

   صرخ رجل بشارب صغير جافّ يجلس في الصف الأمامي، “قُل هذا ببطء، يا ولد ! “

   ” ما هو يا سيدي ؟ “

   ” الذي قلته ! “

   قلت ” المسؤولية الاجتماعية، يا سيدي “

   قال، بلطف، ” أنت لا تتذاكى، أليس كذلك، يا ولد ؟ “

   ” كلا، يا سيدي “

   ” أأنت متأكد من أنَّ إيراد كلمة ” المساواة ” حدث خطأً ؟ “

   قلت ” أوه، نعم، سيدي. كنتُ أبتلع الدم “

   ” حسن، ينبغي أنْ تتكلّم ببطء أكثر لكي نفهم. نحن نريد أنْ نُنصفك، ولكن يجب أنْ تعرف مركزك طوال الوقت. حسن، والآن، أكمل خطابك “

   شعرت بالخوف. أردتُ أنْ أغادر لكنني أردتُ أيضاً أنْ أتكلّم وخشيتُ أنْ يطرحوني أرضاً.

   قلت ” شكراً لك، سيدي “، مُستأنفاً من حيث توقفت، وتركتهم يتجاهلونني كما فعلوا من قبل.

   ولكن عندما انتهيت كان هناك تصفيق حارّ. وقد دُهِشت إذ رأيتُ مدير المدرسة يتقدّم حاملاً حزمة ملفوفة بمنديل ورقيّ أبيض اللون، ويومئ برأسه طالباً الصمت، ويُخاطب الرجال:

   “أيها السادة، كما ترون أنا لم أبالغ في مديح الفتى. لقد ألقى خطاباً جيداً وذات يوم سوف يقود شعبه على الدروب الصحيحة. ولستُ مُضطراً إلى أنْ أخبركم بأنَّ هذا أمرٌ هامٌ في هذه الأيام وهذا العصر. إنَّ هذا الفتى ذكيٌ، صالح، وعلى سبيل تشجيعه للسير في الاتجاه الصحيح، باسم الهيئة التعليمية أودّ أنْ أقدم له جائزة على شكل هذه… “

   سكت، ليزيل المنديل الورقي ويكشف عن حقيبة أوراق من جلد العجل اللامع.

   “… على شكل هذه الصناعة الممتازة من محلات شاد ويتمور.

   ثم قال، يُخاطبني،  “أيها الفتى، خذ هذه الجائزة وحافظ عليها. اعتبرها وساماً من الهيئة الإدارية. احفظها. استمر في التطور كما أنت وذات يوم سوف تمتلئ بالأوراق الهامة التي سوف تساعد على تشكيل مصير شعبك”

   بلغ تأثّري درجة عجزتُ عندها عن التعبير عن شُكري. تدلّى خيطٌ من اللعاب المُدمّى على شكل قارّة لم تُكتَشَف وسقط على الجلد المدبوغ فقمت على عجل بمسحه. وشعرت بأنني شخصية هامة لم أحلم أبداً في بلوغها.

   قيل لي “افتحها وانظر ماذا في داخلها”

   ارتجفت أصابعي، وأذعنت، وأنا أشمّ رائحة الجلد المدبوغ الجديد فوجدتُ في داخلها وثيقة تبدو رسمية. كانت منحة دراسية إلى جامعة الولاية الخاصة بالزنوج. امتلأت عيناي بالدموع وركضت بطريقة خرقاء مغادراً المكان.

   كنتُ مغموراً بالفرح؛ حتى أنني لم آبه عندما اكتشفت أنَّ قطع الذهب التي زاحمتُ لنيلها كانت مجرد قطع نحاسية لا قيمة لها تُعلن عن نوع معين من السيارات.

   عندما وصلتُ المنزل فرح الجميع. وفي اليوم التالي جاء الجيران ليهنئوني. بل لقد شعرت بأنني آمن من جدّي، الذي كانت لعنته وهو على فراش الموت تُفسد عليّ في المعتاد متعة الانتصار. وقفتُ تحت صورته الفوتوغرافية وحقيبة أوراقي في يدي وابتسمت بانتصار لوجه الفلاح الأسود المتبلِّد الذي يحمله، فتنني الوجه. وكأنَّ العينين تلاحقانني أينما اتجهت.

   في ليلة ذلك اليوم حلمت بأنني معه في سيرك وأنه يرفض أنْ يضحك على أداء المهرجين مهما فعلوا. ولاحقاً أمرني بانْ أفتح حقيبة أوراقي وأقرأ عليه ما في داخلها ففعلت، ووجدتُ أنه مغلّف رسمي ممهور بختم الولاية ؛ وفي داخل المغلف وجدتُ مغلّفاً آخر ثم آخر، وشعرتُ بأنني سأسقط من شدة الإرهاق. قال “هذه لك. والآن افتح هذا المغلّف” ففعلت وفيه وجدتُ وثيقة عليها نقش محفور تحتوي رسالة قصيرة بأحرف من ذهب.

   قال جدّي “اقرأها. بصوت مرتفع”

   قرأت مع تنغيم “إلى مَنْ يهمّه الأمر. اجعلوا هذا الفتى الزنجي يركض”

   استيقظتُ مع ضحك ابنة الرجل العجوز يرنُّ في أُذنيّ.

   (كان حلماً سأتذكّره وسوف يراودني من جديد على مدى سنين بعد ذلك. ولكن في ذلك الوقت لم أتوصل إلى مغزاه. كان عليّ أولاً أنْ التحق بالجامعة).

—————

تصدر الرواية قريباً عن دار المدى.

*****

خاص بأوكسجين


روائي أميركي (1913 - 1994). تعتبر روايته "الرجل اللا مرئي"" (1952) علامة فارقة في تاريخ الرواية الأميركية، وهي الرواية الوحيدة المكتملة التي صدرت لإليسون، فروايته ""جونتينث"" عبارة عن كتاباته على امتداد 40 سنة من دون ناظم أو بنية، قام بتحريرها صديقه البرفسور جون كالاهان وصدرت بعد وفاته عام 1999، كذلك فعل كالاهان أيضاً في روايته المعنونة ""ثلاثة أيام قبل إطلاق النار"" الصادرة عام 2010 عن مخطوط رواية غير مكتملة . وعدا ذلك فإن له كتاب يتضمن مقالاته السياسية والنقدية والاجتماعية، ومجموعة قصصية."