من حكايات الدائرة
العدد 237 | 05 تشرين الثاني 2018
المعتصم خلف


كانت ذاته محترقة، والذات تحديداً لا تمسها النار إلا بالتهميش، واللامبالاة التي يتعامل بها العالم مع الآخر، يستيقظ ويرى ذاته ما زالت نائمة، يسير وهو يجرها بحبل يطول ويقصر بحسب نظرات المارّة إليه وارتطامهم بهِ، ولو حاولت تقريب الصورة أكثر لتخيلت نفسي وأنا أرمي ريشة بداخله، الريشة لن تسقط، وأشعر بالدهشة منذ الآن لأنها ستبقى واقفة ومنتصبة في مكانها، فارغ ما حولها ومنعزل عن العالم، لا جاذبية هناك ولا صوت، والريح لا تصفر بل ترتطم بقفصه الصدري وتخرج كلهاث رجل يركض طوال حياته ولا يصل.

يسير وهو يجر ذاته ككلب، يطول الحبل ويقصر بحسب نظرات المارّة له أو ارتطامهم بهِ، تسير ذاته بجانبه، وتذكّره بأن الذات لا تحترق بالنار بل بالتهميش، فواتير الماء في منزله تصل بغير اسمه، حاول الاتصال مرتين بمؤسسة الماء، كان جواب الموظفة في المرتين واحداً هو أنها لن تعترف به، فواتير الكهرباء والغاز أيضاً، يستلم كل شيء باسم رجل آخر، ينظر إلى الماء من خلال الصنبور وهو ينهمر لرجل غيره، عروض الاتصالات المرمية أمام الباب التي يتعثر بها في الصباح، اتصالات خارجية وداخلية بمال زهيد، كأنها تذكره أنه لا يعرف أحداً للاتصال به، ولو بحث في ذاكرته جيداً، حتى ولو كانت الاتصالات مجانية، فالعالم تقلص بالنسبة لهُ إلى حجم الريشة الواقفة بداخله في فراغها الذي لا يسمى ولا يعرف ما هو.

أحب أن أشرح هذا الأمر بنظام الدوائر الذي أكتب بهِ دائماً، لأعود للهدوء وللبداية، لأطوف في حلقات نحو هذا البعيد العصيّ على الوصف، وأن ألمس الكلمات كقطعة مخمل، ومن ثم أتذوقها حتى يبقى طعمهاً عالقاً في حلقي..

كانت الذات -ذاته لا غيرها- تحترق، ولاحقاً أو في الفترة ذاتها اكتشف أنهُ لا يعبّر عن نفسه بطريقة محسوسة، صار ضمير الغائب بيته الوحيد للكتابة، يضع نفسه في زاوية المبني للمجهول ويكتب، كأنهُ رجل آخر لا يعرفه يُخلق في الكلمات، يجلس بجانب نفسه ويكتب بيد أخرى غير التي استعملها سابقاً لهذا الفعل، ومن بعدها ينقّب عن الذات التي يجب أن تقف على السطح الذي يمكنها من خلاله التواصل مع العالم، لم تعد تشغله الفترة التي استغرقها البحث.

لربما هذه الأشياء تبدو ساذجة الآن وخاصة لو نظرنا إليها من البعيد، أو من بعيدنا الشخصي، ولكن هذا البحث كان يعطي للريشة العالقة سبباً واضحاً لكي تطفو أكثر، لأن وقوفها بلا سبب قد يجعل من وجودها أمراً تافهاً.

أطوف في الدوائر الآن، أطوف كعابد أو ناسك وأدور..

أو كطفل خسر للتو لعبته المفضلة، ولم يصل بعد للاقتناع باستحالة عودتها.

ربما ولدتْ خسارته لذاته من هذه الاستحالة، والاستحالة هي نقيضة الذاكرة، الذاكرة هي التكرار، وإعادة الأشياء إلى مكانها، هي حدوث المستحيل للمرة الثانية، وأغلب الذين نراهم هم ليسوا ذواتهم الحقيقية بل محاولة فاشلة لتكرار المستحيل، وعلى الذاكرة هنا أن تكون مضاءة بشكل جيد، أن تعتمد على أعمدة متينة تشبه صروح روما وأثينا، ولا يهم من يدخل الضوء أو يخرج منهُ، بل المهم أن نتحرك في صروحنا بحذر.

نافذة وبيت وهو يعتّم بقلم أسود صورة في مجلة قديمة، كانت لسيدة لم يظهر منها سوى عنقها ووجهها، يختفي الوجه رويداً رويداً، وهو يتلذذ بالأثر الذي يتركه على الوجه، يتلذذ بأنها كانت واضحة وبدأت تصير ظلاً مبهماً، كان يبدأ من الفم، أسفل الذقن وإلى الأعلى، كان يبدأ من الكلام والصوت واللغة، المرأة صارت صامتة، كعقاب منه أمام قلة حيلتها لرفض هذا الفعل، ثم الخدان والعيون، صارت لا ترى ولا تسمع، صارت السيدة شيئاً منه دون أن تنتبه، صارت مثله في ظل معتم، وهذا تحديداً ما كان يحدث لهُ في علاقاته مع النساء، تجد السيدة نفسها في حجرة مظلمة بلا نوافذ أو أبواب، وهو يطوف حول الغرفة منادياً باسمها، كان الحب بالنسبة لهُ محاولة التقاط ذبابة في غرفة مظلمة والغرفة في رأسه…

يخسر وهو يبحث عن اسمه، عن شكل العالم الذي كان فيه، وصل إلى الحد الذي يتأخر فيه عن دفع الأجرة لكي يرى البائع والسائق والمؤجر وهو يحنق غاضباً من محاولاته في التأخير، أما بالنسبة لهُ فهي محاولاته للتأثير والوجود والتغيير.

*****

خاص بأوكسجين


كاتب من سورية.