ملوحة
العدد 245 | 08 تموز 2019
توفيق بن حنيش


قبل انقضاء ذلك اليوم جاء أعمامي وأخوالي والأصهار وكل من له صلة بالقرية وبأبي وظلوا تحت شجرة الخروب ينادون على والدي والمطر يزداد هطولاً مع كل صوت نداء يصدر منهم: “هيا يا عبّادة فالليل سيدركنا في الطريق ونحن لا قبل لنا بالظّلام والمطر”. كانوا يغطون رؤوسهم ببرانيسهم وقشاشيبهم وكانت ملابسهم مبتلة أما أحذيتهم ونعالهم فكانت في أيديهم وقد تلوثت بالأوحال وابتلت بالمياه التي لم تعد تنزل من السماء فقط بل أصبحت تفور من الأرض.

لم يخرج أبي قبل أن يتوضّأ رغم علمه أنّ ذلك ممكن في الطريق ولم يخرج قبل أن ينتزع من جدار بيتنا صورة السيد علي ورأس الغول. انتزع المسمار بحركة عصبية ثمّ بسرعة تناول الصورة ومن وقتها لا أحد يدري أين وضعها ولا  مصيرها. قالت أمي :”أقطع يدي إن لم يكن سلّمها لتريسياس”. وقالت في مرة لاحقة: “أقطع يدي إن لم يكن قد مزقها بعد قراءته لنهج البلاغة.” وقبل موعد رجوعه بسويعات، نظرت أمّي إلى مكان الصورة على الجدار وقد اجتمعت فيه خيوط العنكبوت وبعض الحشرات الميتة و تغيّر لون الجير واصفرّ فقالت: “أقطع يدي إن لم يكن أبوكم باعها ليشتري بثمنها “غبرة”. ولكنّ ما إن عاد أبي حتى نسيت أمي أن تثبت لنا وجاهة رأيها. وكنا كلما ذكّرناها بالصورة قالت: “احمدوا الله على توقف المطر. هذا أهمّ من الصّور.”.

مضى الرّجال في اتجاه الجنوب وهم يخوضون في الجداول والبرك والطين. وكانوا كلما تقدموا شوطاً دفعت بهم الريح شوطين إلى الخلف: كانت الريح تدفعهم إلى الوراء وتحمل صورهم وأحاديثهم وكلّ ما يجول بأذهانهم من أفكار تأخذها إلى كوخ “تيريسياس” وتحدث بأخبارهم في أرجاء المعمورة وتخبر عما يحملونه في جيوبهم من صور وتعاويذ وحجارة يطردون بها كلاب الأبالسة في الليالي حالكة السواد. كانت الريح تعوي في فجاج الماء تقنص منهم الغنيمة ثمّ تمضي بها حتى إذا بلغت كوخ الحكيم الأعمى ألقت بحملها عند الباب وعادت كما تعود النحلة والنملة للبحث عن صيد جديد. وحملت الريح صياحهم وبكاءهم وهي تقشّرهم وتفرقهم وتشردهم. وكانوا يجذّفون في الريح العاتية كما يجذّف البحار الذي كسرت ألواحه. ونحن في البيت سمعنا أبي يصيح في بعض فروج المكان ويسأل إخوته قائلاً: “أين الصورة؟ ابحثوا عن الصورة ..لقد فقدتها…” وسمعته أمي فعادت تقسم لنا: “أقطع يدي إن لم يكن باعها للسحرة في الطريق واشترى بثمنها تعاويذ.”.

 وحينما تقهقر الزمان وعاد أبي ومن سلم من أعمامي والأنسباء أخبرنا أن أحد أعمامي أشرف على الهلاك بسبب سقوطه في بئر قديمة غمرتها المياه وجعل يحكي بفخر كيف نزع برنسه وارتمى في البئر يبحث عنه ولم يبرح حتى أخرجه وهو بين الحياة والموت. وحدّثنا أبي عن عجائب تلك الأمطار الطوفانية وقال لنا: “لا أحد كان يعلم أنّ مطر هذا العام كان غريباً عجيباً. أنا من اكتشف ملوحة الماء حينما يهطل بعد المغرب وحينما يهطل في الظلام. نعم هي مالحة لقد تذوقتها وهي تنزل على رأسي وتنسكب على جبيني وتنحدر إلى فمي ولحيتي. كانت مياه مالحة وهذا ما أكّده لي الحكيم “تريسياس” فقد قال لنا ونحن في كوخه: “هذه أمطار بحرية.” فنظرنا إلى بعضنا متعجبين وقلنا له وما علاقة صحرائنا بالبحر الذي لم نره ولا نعرف لون مائه ولا طعمه.” حينها أطرق الحكيم”تريسياس” في الأرض طويلا ثمّ رفع رأسه وقال “هذا مطر أوّل الزمان ولا يكون إلاّ في آخر الزمان” ارتعدت فرائصنا من هول ما سمعنا. وحينما رأى ما اعترانا من بأس قال لنا: “مازال في الإمكان أن تتوبوا إلى ربكم فالكتب تقول إنّ بين هذا وانشقاق السماء سبع لا ندري ما هي…”

لم نكن نفهم سبب ابتسام أمّي حينما سمعت بالقيامة؟ ولكنّنا أجمعنا على أنها كانت تستعيد إحدى رؤاها الصادقة. وبدت عليها علامات السرور والخفة حتى ليخيّل للغريب أنها ممسوسة. وخيّل إلينا أنها ربّة الخصب عشتار وقد حلّت بيننا. وحينما سمعت بالمطر الليلي المالح تذكّرت خروج أبيها وأمها من الجنة وتداعت إلى ذهنها الخواطر فرأتهما يحزمان ما خفّ من ورق الجنة يدّخرانه لبرد الأرض ولهيب الخطيئة. وتذكّرت قعقعة الرعود في السماوات فالتفتت إلى حيث كانت الصورة معلقة لكنها أمسكت عن السؤال وأمسكت أيضاً عن القسم ويمين قطع اليد. كان أبي ينظر إليها والماء ما ينفكّ يتقاطر من برنسه ومن شعره ولحيته وكان بين الحين والحين ينفخ السيول فتمطر البيت وتكفّ. وكلما شعر بأن العجوز تثاقلت عاد ليذكّرها بالمطر البحريّ وقال لها وهو ينفض شعره ويبللنا جميعا: “قال لنا الحكيم “تريسياس” هذا مطر حوت القرش … ولقد صدق الحكيم فقد كنت أرى القروش تلمع تحت ضوء البرق فأمدّ يدي للقبض عليها فلا أجد في يدي غير رماد البرق وقطع من صوت الرعد تجمّدت من فرط القدم. صدق الحكيم “تريسياس”.”

نظرنا من كوة في البيت إلى الظلام الذي كوّر برنسه المبلل على الأرض فوجدنا أن السماء قد أقلعت والأرض قد غيض ماؤها وإذا بقايا أسماك خرافية خدعها الليل وخانها المطر تحاول الطيران والعودة إلى القدم فتعجز فتنتحر وتذوب في شقوق الأرض وفروجها. وإذا عرس السماء تعلن فيه الطبول البعيدة بداية فصل الربيع.

قام أبي من مجلسه حينما أخبرناه بما حدث فصلّى ورفع يديه بالدعاء للحكيم. ثمّ رتّل ما حفظ من تعاويذ بابل وآشور والكلدان ثمّ أخرج من جيبه قطعة من طين بابل قد خطّ عليها حمورابي تعاليمه ونقوشاً لحيوانات ما قبل الطوفان واتجه بها جهة الحائط وجعل يتأملها حينا ويتأمل الجدار ثمّ نظر إلى أمي فزغردت كما تزغرد المياه في المهاوي وتقدما معا وعلّقا اللوحة على الجدار فأضاء من الشرق نجم فخرجنا جميعا نهتدي به وقال لنا أبي: “يقول الحكيم “تريسياس” إنّ في الصور اعتداء على الزمان فلا تعلقوها.”

ومشينا… مشينا وحين غاب النجم، أدركنا البحر. فوجدناه يطوي نفسه يريد اقتفاء أثر الضوء والصورة والحكيم “ترسياس”. فقالت أمي: “أقطع يدي إن لم يكن أبوكم قد جنّ.”.

*****

خاص بأوكسجين


كاتب من تونس.