مقتطفات من قصة أسناني | فاليريا لويزلي | ترجمة: عبير عبد الواحد

العدد 269 | 21 كانون2 2022

                                                

* أنا أفضل بائع بالمزاد العلنيّ في العالم، ولكن لا أحد يعلم هذا لأنني من النوع المُتحفّظ الكَتوم. اسمي غوستاڤو سانشيز سانشيز، وإن كان الناس يدعونني بِــ"الطريق السّريع - Highway"، بدافعٍ من المودة على ما أعتقد. يمكنني تقليد جانيس جوبلين بعد كأسين من الرّوم. وبمقدوري تفسير كعك الحظّ الصّيني. أستطيعُ إيقاف بيضة على رأسها على الطاولة مثلما فعل كريستوف كولومبوس في القصة الشهيرة. وأعرف كيف أعدُّ إلى ثمانية باليابانية: إتش، نِي، سَن، شِي، غو، روك، شيتش، هاتشي. كما بإمكاني أن أطفو على ظهري.
هذه قصّة أسناني، ورسالتي حول المقتنيات والقيمة المتغيّرة للأشياء. ومثل أي قصة أخرى تبدأ هذه القصة بالبداية، ثم يأتي صُلب القصّة، ثم النهاية. وما تبقى، كما يقول صديقي دومًا، هو الأدب بما فيهِ من مبالغات واستعارات ومواربات وإيحاءات ومجازات وإضمارات لغوية. ولا أعلم ما الذي يأتي بعد ذلك. ربما الخِزي والموت، وأخيرًا شهرة ما بعد الممات. وفي تلك المرحلة لن أكون في مقام المتحدث بصيغة المتكلّم. سأكونُ رجلًا ميتًا، رجلًا سعيدًا مَحسودًا.
البعضُ يمتلكُ الحظّ، والبعض يتمتع بالجاذبية. ولقد حظيتُ بالقليل من الاثنين. كان عمي سولون سانشيز فوينتس، وهو بائعٌ يتاجر في أربطة العنق الإيطالية فائقة الجودة، يقول لي دومًا: "إنّ الجمال والقوة والنجاح المبكر تَفنى جميعًا، وبأنها تُشكّلُ عِبئًا على كاهل أولئك الذين يمتلكونها، لأن احتمال خسارتها يُمثلُّ تهديدًا قِلّة من يستطيعون احتماله". وما كانَ عليّ أن أقلق بشأن ذلك أبدًا، إذ لم يكن من شيء سريع الزوال في طبيعتي. لديّ صفات دائمة فقط. ورثتُ من عمي سولون كلّ جاذبيته، كما تركَ لي أيضًا ربطة عنق إيطالية أنيقة. وهي بحسبِ قولهِ كلّ ما أحتاجه كي أصير رجلًا كريمَ النسب.
ولِدتُ في باتشوكا، المدينة الجميلة ذات الهواء الطلق، ولي أربعة من الأسنان السابقة لأوانها، وكان جسدي مغطّى بالكامل بِطبقةٍ رقيقة جدًّا من الزَّغَب. ولكنني مُمّتنٌ لتلك البداية المشؤومة، لأن القباحة كما اعتادَ عمي الآخر يوربيديس لوبيز سانشيز أن يقول هي مُكوِّنة للشخصية. عندما رآني أبي للمرة الأولى ادّعى أن ابنهُ الحقيقي أخذته الأم الواضعة حديثًا في الغرفة المجاورة. حاول بشتّى الوسائل، من بيروقراطية وابتزاز وترهيب، إعادتي إلى الممرضة التي سلّمتني له. ولكنّ أمي حملتني بين ذراعيها في اللحظة التي رأتني فيها؛ وكنتُ أسمر ومتورّما صغير الحجم، ومرتجفًا مثل سمكة الفُقاعة في بطانية المستشفى. كانت أمي قد دُرِّبت على تقبّل القذارة مصيرًا لها، ولكن أبي لا.
شرحت الممرضة لوالديَّ بأن وجود الأسنان الأربعة كانت حالة نادرة في بلدنا، لكنها حالة شائعة بين الأعراق الأخرى. وهي تُسمّى بالأسنان الخُلقية قبل الولادة.
- أيّ نوع من الأعراق؟ سألَ أبي مُتحفّزًا للدفاع. قالت الممرضة: القوقازيّ يا سيدي.
- ولكن هذا الطفل داكنٌ مثل عينِ الإبرة، أجاب أبي.
- علمُ الوراثة مليء بالمعجزات يا سيد سانشيز.
لا بدّ وأن هذه الجملة قد وَاست أبي. إذ أجبرَ نفسه أخيرًا على حَملي بين ذراعيه إلى البيت، ملفوفًا في بطانيّة سميكة من القطن الناعم.
بعد ولادتي بوقتٍ قصير انتقلنا إلى إيكاتيبك، حيث عَمِلت أمي في الخدمة بالبيوت سعيًا وراء أسباب العيش. ولم يكن أبي يُنظّف شيئًا، لا ولا حتّى أظافره! كانت أظافره سميكة، خشنة، وسوداء. وكان يقلّمها عادة بفمه. ليس من التوتر، ولكن لأنه كان تَنبلًا ومُتعجرفًا. بينما كنتُ أؤدي واجباتي المدرسية على الطاولة، كانَ يتمعّن في أظافره صامتًا، مُستلقيًا بجانب المروحة على الكرسي المخملي الأخضر الذي ورثتهُ أمي من السيد خوليو كورتاثار، جارنا في المبنى A-4، الذي توفيّ بمرض الكزاز. عندما قَدِمَ أبناء السيد كورتاثار لأخذ ممتلكاته، تركوا لنا ببغاءه كريتيريا، الذي حَلّت به حالة من الحَزَن وقَضى نحبهُ بعد بضعة أسابيع، والكرسي المخمليّ الأخضر الذي أخذ أبي على عاتقه الاسترخاء عليه كلّ مساء. ذاهِلًا عن العالم، كان يُمعن النظر في بقع الرطوبة بالسقف بينما يستمع إلى الراديو المحلي وينتزع قِطعًا من أظافره، الإصبع تلو الإصبع.


* وَلم يَعُد لأبي أيّة أسنان. أو أظافر، ولا وجهًا حتى. حُرِقت جثّته قبل عامين، وبناءً على طلبه، نثرنا أنا وأمي رماده في خليج أكابولكو. وبعدها بِعام دفنتُ أمي إلى جانب شقيقاتها وأشقائها في باتشوكا، مدينة الرياح الجميلة. تهطل الأمطار هناك على الدوام، وبالكاد يَنفردُ الوقتُ بِنسمة هواءٍ واحدة. أسافرُ إلى باتشوكا لرؤيتها مرة كل شهر، في أيام الآحاد عادة. لكني لا أتخطى بعد ذاك المقبرة، لأنني أعاني من حساسية من غُبار الطلع، وهناك يوجد الكثير من الزهور. أترجّلُ من الحافلة في مكان غير بعيد من البوابات، عند الجادّة الجميلة المزينة بتماثيل الديناصورات بالحجم الطبيعي، وأمكثُ هناك بين الوحوش الوديعة المصنوعة من الألياف الزجاجية، منقوعًا بالمطر، أصلّي وأقول يا أبانا إلى أن تتورّم قدماي، وَينال مني التعب.

 

* في سنّ الحادية والعشرين حصلتُ على وظيفة حارس أمن في أحد المصانع في فيا دي موريلوس، نظرًا للتحفّظ ذاته، على ما أظنّ. كان المصنع ينتجُ العصائر. والعصائر بدورها تُنتج الفنّ. بمعنى أن أرباح مبيعات العصير موّلت أكبر مجموعة فنّية في القارّة. وقد كان عَملًا جيّدًا منذ ذلك الحين، مع أنني كنتُ مسؤولًا فقط عن حراسة مدخل المصنع، ولم يكن يُسمح لي أبدًا بالدخول إلى صالة العرض حيثُ تُعرض الأعمال الفنية، كنتُ بمثابة سَادنٍ لطائفة من الأشياء امتازت بالصدق والجمال الحقيقي. عملتُ هناك مدة تسعة عشر عامًا. فإذا ما نَحيّنا جانبًا ستة شهورٍ كنتُ مصابًا فيها بالتهابٍ في الكبد، وثلاثة أيام عانيتُ فيها من تسوّسٍ أسنان مريع لينتهي بي الحال بمعالجة مزدوجة لقناة جذر السنّ، وإجازتي السنوية، فأكون بهذا أنفقتُ بالضبط ثمانية عشر عامًا وثلاثة أشهرٍ بعملي حارس أمن بالمصنع. لم تكن أعوامًا عسيرة، ولكنها في المقابل لم تكن طيبة.

 

* لكن الأيام لم تكن كلها بَتلات زهرٍ مُخمليّة وسُحُبًا من المارشميلّو، كما يقول المغنّي نابليون. إذ أن بعض الموظفين في المصنع، وبالأخص مدير خدمة العملاء، بدأوا يتذمرون من أنني أتقاضى أجرًا مقابل قَضم أظافري والتحديق في السّقف. حتى أن البعضَ صاغَ نظرية مؤامرة مفادها أني أنا ومُشغِّل البسترة قد فبركنا هذه الخدعة ليحصل هو على إجازة مرضية مدفوعة الأجر، ولأحصل أنا على ترقية؛ بالضبط كما هي القصص المختَلَقة السخيفة التي يعتمدها الأشقياء المساكين، الذين لا يُحسنون التعامل مع حظوظ الآخرين السعيدة.


* القطعة المبالغ بها رقم 8

بعض الأسنان تُوقِعُ بصاحِبها العذاب. كما هو الحال مع هذا السنّ الذي تعودُ ملكيّته للسيدة ڤيرجينيا وولف. عندما كانت بالكاد تبلغ من العمر ثلاثين عامًا، افترضَ طبيب نفسي نظرية تزعم بأن أمراضها النفسية مُتأتية من البكتيريا المتراكمة حول جذور أسنانها. وقرر خلع الأسنان الثلاثة الأكثر تضرّرًا. لا شيء تغيّر. وعلى امتداد حياتها، خلعت عدة آخرين، ولم يشكّل ذلك أي فارق. لا شيء على الإطلاق! !rien de rien. أنهت السيدة وولف حياتها بنفسها، والعديد من الأسنان الصناعية في فمها. معارفها لم يروا ابتسامتها إلا في جنازتها. ويُقال، إنها عندما كانت مسجّاة في نعشها شبه المفتوح في منتصف غرفة المعيشة، انتشرت ابتسامة على شفتيها فأضاءت ملامحها الحادة والذكية. من سيدفع ثمانية آلاف بيزو لقاء هذا السنّ المضنى بالعذاب؟ هل مِن أحد؟
عقبَ صمتٍ ثقيل، اشتراه رجلٌ طاعن في السنّ له وجه عنيد ولكن محترم، مقابل 8,900 بيزو.


* القطعة المبالغ بها رقم 4

لسنوات عديدة، كانت هذه القطعة واحدة من أكثر القطع المرغوبة في سوق المقتنيات الفموية المحمولة. كان صاحبها رجلًا قصير القامة، عريض الردفين، له أنفٌ مستدّق وجبهة مثل مؤخرة الخنزير. لم يكن لجنون العظمة حدٌّ في روح هذا الرجل المشين ذو القامة القصيرة. في أكثر من مناسبة قال: "أنا أدرسُ نفسي أكثر من أي موضوع آخر، فأنا الفيزياء والميتافيزيقيا لنفسي". ولكم أن تتخيلوا، كان طوله بالكاد1.47  متر كانَ شعرهُ خفيفًا أشعثَ، لكن أفكاره كانت قوية وخصبة.
كان لدى السيد مونتين[1]، المالك الأصلي لهذه السن، نظرة هادئة صادقة. وكان في وجهه تعبيرٌ ما بين حزنٍ وَمرح. غيرَ أن عدم كفاءته في مزاولة الأنشطة اليومية قد وصل إلى حدّ السخرية: فخطّ اليد في مخطوطاته كان غير مقروء؛ وكانَ عاجزًا عن طيّ الرسالة جيّدًا، ولم يكن يعرف كيف يمتطي حصانًا أو أن يحمل صقرًا ويُطيّره؛ ولم يكن له سُلطة على الكلاب؛ ولا كانَ بمستطاعه التعامل مع الخيول. كان غير نافعٍ بالمرة، على ما يبدو. وبالرغم من ذلك، فقد تمتع بصحة جيدة في الفم، ما عدا التهاب اللوزتين المتكرر. كان يُفضّل اللحوم نيئة تقريبًا، بما في ذلك السمك. ولم يكن يحب أي نوعٍ من الفواكه أو الخضروات باستنثاء البطيخ. وربما هذا هو السبب في أن السّن في حالة جيدة. علاوة على ذلك، إن جودة السن فائقة: فهو صقيل، ونحيل، ومُدبّب بعض الشيء. وما سرّ أسنانه طويلة العمر؟ اعتادَ السيد مونتين أن يقول: “J’ay aprins dés l’enfance à les froter de ma serviette, et le matin, et à l’entrée et issue de la table.”
وهذا يعني، أنه تعلم منذ الطفولة أن يفركها بمنديلٍ كل صباح، وقبل الطعام وبعده. من سيفتتح باب المزايدة على سنّ مونتين فائقة النظافة؟
تدّفقت موجةٌ من الحمَاس المُفاجئ بينَ المزايدين. وبِعتُ قطعتي المفضلة بستة آلاف بيزو. اشترتها امرأة عجوز لها وجهٌ من النوع الذي يَسهُل نسيانه، وبُنية يمتاز بها شعوب البحر الأبيض المتوسط. يالهُ من لغزٍ محيّر، لماذا تبدو جميع أجساد نساء البحر الأبيض المتوسط مثل الباذنجان بعد الخمسين!

 

 * نافذة مصنوعة من الضوء
  الفنان: أولافور سانشيز إلياسون


لم توقظ الخياطة المتقاعدة مارغو جلانتز ابنها إلى ما بعد العشاء. خلال الأسبوع المنصرم، مارغو جلانتز التي عانت من الأرق، كانت تشعر بالانزعاج من وجود ابنها، ديفيد ميكلوس، الذي عانى بدوره من نوبات النوم القهري. وكان ديفيد ميكلوس قد خسرَ عملهُ على صندوق الدفع في صيدلية الادّخار لأنه خرَّ نائمًا أكثر من مرة وهو يعمل. طوال الأسبوع الماضي، كان يمضي النهار بِطولهِ وهو يأخذ قيلولات مفاجئة في زوايا غريبة من المنزل. وبما أنّ السيدة مارغو جلانتز لم تكن تعلم بِعلّته هذه، اعتقدتْ أنه تَنبلٌ ومُتسكّع وَكسلان. وكانت تحسدهُ في سرّها على قدرته على النوم في أي ساعة من اليوم.
بعد ظهر يوم الإثنين، بينما كانَ ديفيد ميكلوس يأخذ قيلولة أخرى غير مناسبة على كرسيٍّ ذي ذراعين، ألصقت السيدة مارغو جلانتز صفًّا من الطوابع البريدية على جبهته، بعد أن لعقت كلّ طابعٍ بطرف لسانها، ثمّ حملتهُ إلى مكتب البريد. وضعتهُ برفقٍ على المنضدة، وطلبت من عاملة البريد أن ترسلهُ إلى سورينام. نظرت الفتاة إليها بازدراء وامتعاض، وقالت إنه من المستحيل تنفيذ طلبها لأنه ينقصها أربعة طوابع، ذلك أن إفريقيا تحتاجُ إلى تسعة طوابع، وكان الطردُ يحتوي على خمسة فقط.
- ولكن سورينام في أميركا الجنوبية أيتها الغبية، ردّت المرأة بِحدَّة.
- فإذن اثنا عشر طابعًا، قالت الفتاة مُصَحِّحة.
وقالت أيضًا إن مكتب البريد على وشك الإغلاق، لذا كانَ على السيدة العودة في اليوم التالي.
عادت مارغو جلانتز في اليوم التالي، ثم الذي يليه، مع ديفيد ميكلوس النائم بين ذراعيها بِسلام. لكنها في كل مرة كانت بحاجة إلى شيء آخر؛ طابع، خطاب موثّق من أجل الطرود الضخمة، المزيد من المال، هوية رسمية، الرمز البريدي الكامل للعنوان الذي أعطتهُ في باراماريبو. وكانت الفتاة، التي لم تكن بالضرورة الفتاة نفسها في كل مرة؛ كانت ترمقها بالنظرة المُهينة ذاتها - ويبدو أن ذلك مردّه إلى السلوك "الروبوتي" والتصنّع الخاص اللذين تمتاز بهما جميع عاملات البريد - وتطلبُ إليها الرجوع في اليوم التالي.
في صباح اليوم السابع، وكان يوم الأحد، قررت مارغو جلانتز السماح لديفيد ميكلوس بمواصلة نومه. استيقظت باكرًا، وأخذت حمّامًا دافئًا، وَقصدتْ محلّ الحيوانات الأليفة. وبما أن لم يكن هناك كلاب للبيع، تدبّرت أمرها بِشراء أرنبٍ امتلكهُ شخصٌ آخر من قبل. وأسمتهُ "كوكر سبانيل". كان الأرنب هرمًا للغاية، وموقرًا تقريبًا، لذلك عندما حاولت وضعَ شريطٍ حول رقبته لإخراجه من المتجر، قاومَ. حملتهُ إلى المنزل بين ذراعيها، ووضعتهُ على أرضية غرفة المعيشة، عندَ رِجل الكرسيّ الذي كان ديفيد ميكلوس ما يزال نائمًا عليه.
جرّت مارغو جلانتز – ببطء، مفتعلةً أكبر قدرٍ ممكن من الضوضاء - كرسيًّا من المطبخ إلى غرفة المعيشة. وضعت شريطًا للمغنّي تايلور ماك، ثمّ قعدت، ووضعت ساقًا على الأخرى، وغنّت بأعلى صوتها، وحدّقت في كوكر سبانيل، الذي نظرَ إليها بدوره بضيقٍ وَضجر إلى أن أغمض عينيه وَغطَّ في نوم عميق. لاحظت بأن كوكر سبانيل قد اختار بقعة مُشمسة من الأرضية للنوم فيها، وشعرت ناحيته بحسدٍ شديد. وفكرت بأخذه على الفور إلى مكتب البريد لكي ترسلهُ إلى سورينام، أو إلى أي مكان آخر. لكنها طردت الفكرة مباشرة لدى تذكرها أن مكتب البريد المثير للاشمئزاز والسخيف وغير المجدي لا يفتح في أيام الآحاد. لاحقًا، حاولت إيقاظ الأرنب، بيد أنه رفَّ جفنه رفّة واحدة ثم عاودَ النوم.
انقضت الظهيرة والسيدة مارغو جلانتز تراقبُ ابنها وكوكر سبانيل وهما نائمين، وقد لاحظت كيفَ راح جسم الحيوان الصغير والمغطى بالفرو ينزلقُ تقريبًا بصورة تدريجية في جميع أرجاء الغرفة، بينما كانت الشمس تغرقُ في السّماء، والضوء المتوازي الأضلاع، المُنسكِب عبر النافذة على الأرض، يتحرك نحو الحائط. مما يشير، بهذه الطريقة إلى مرور الساعات.
ولمّا غربت الشمس أخيرًا، واختفت رقعة الضوء كليًّا، فتحَ كوكر سبانيل عينيه. كانت مارغو جلانتز واقفة من فوقه، ممسكة بمقلاة من مقبضها. وباستخدام قاعدة المقلاة، ضربتهُ خمس مرات على رأسه. حالما ماتَ الأرنب كوكر سبانيل، سلختهُ بعناية وطَهته مع إكليل الجبل، وورق الغار، والنبيذ الأبيض. وبعد أن فرغت من عشائها، أيقظت ابنها بحنان ولطف، وَشرَعت نافذة غرفة المعيشة على مصراعيها، كيما يدخل هواء الليل الرطب البارد.


دُمية الكلب المحشوّ
الفنان: ماوريتزيو كاتيلان[2]


قبل بضع سنوات، حاول ألڤارو إنريكه[3]، سائق الحافلة على الطريق M100، أن يدَهسَ غدرًا سيدة عجوز مشلولة في شارع ريفولوسيون. قضى في السجن فترة قصيرة ولكنها كانت فظيعة. بعدَ إطلاق سراحه، التقيتهُ بعد ظهر أحد الأيام في حانة السيدة أبرامو "ليَكُن نور"، وأخبرني بأنه في ذلك اليوم المشؤوم، استقلّ كاتب العدل خوان خوسيه أريولا[4] حافلة عند التقاء شارعي لوما بونيتا والجادّة الداخلية. وحالما رآهُ ألڤارو إنريكه، عَلمَ أن حضوره نذير شؤم. وحقيقة ما جرى أنه في المحطة التالية، رفعَ توءمان متماثلان ارتدى كل منهما قميصًا بأكمام طويلة، وعرّفا عن نفسيهما بِاسم أوسكار دي بابلو، وبيدرو دي بابلو؛ رفعا إلى الحافلة سيّدة على كرسيّ متحرك تحملُ كلبًا نائمًا بين ذراعيها. وتعاونا فيما بينهما على رفعها من الكرسي المتحرك، ثم أجلساها في الكرسي المجاور لكاتب العدل، وترجلّا من الحافلة بصمت. ظلَّ الكلب نائمًا كالطفل بين ذراعي السيّدة العجوز المترهلتين.
بعدَ مُجمَّعين سَكنيين، طلبت السيدة العجوز إنزالها في المحطة التالية قائلة: قِف! وكانَ بانتظارها التوءمان الشابان ذاتهما ذوا القميصين بالأكمام الطويلة، وكانا مُمسكين بِمقبَضي الكُرسيّ المتحرك. ارتقيا الحافلة، ثمّ رفعا السيدة العجوز، وبمجرد نزولهما من الحافلة وضعاها في الكرسي المتحرك من جديد، والكلبُ ما يزال نائمًا بهدوء. وبعد بضعة أبنية، لوّح للحافلة الرجلان نَفْساهُما، وبرفقتهما السيدة نفسها وما تزال في كرّسيها المتحرك. تكررت العملية السابقة ذاتها، وبعد مربعين سكنيين، طلبت السيدة التوقف مجدّدا، وذلك بأن صَاحت: قِف!
وفي الأثناء، تبدّى الإنهاك على كاتب العدل، خوان خوسيه أريولا، وكان غير قادر على قول أو فعل أي شيء حيال هذا الموقف العبثي السخيف، الذي كان من الواضح أنه غير محتمل بالنسبة إلى السائق وإلى بعض الركاب.
في شارع بارانكا، استقلّ الحافلة السيد باكو جولدمان مولينا والسيدة غوادالوبي نيتل. أخرجا كل منهما غيتاره وراحا يعزفان "لا غوانابانا". تجلّت ابتسامة طفيفة على وجه ألڤارو إنريكه. انعطفَ يمينًا باتّجاه شارع ريفولوسيون، وَطلبَ إلى باكو وغوادالوبي أن يعزفا "لا براخّا". وبينما كان باكو جولدمان يغني وغوادالوبي تداعبُ أوتار غيتارها، تكرر صعود ونزول السيّدة العجوز المشلولة وكلبها النائم مرة أخرى، بمساعدة التوءمين المشؤومين.
ثمّ ضاقَ ألڤارو إنريكه بهم ذَرعًا، وَما عادَ بوسعهِ احتمال المزيد. فاضَ نصف الكوب الفارغ من صَبره "الإسبرطي[5]" الذي يُضرَب به المثل. عندما رأى التوءمين بالقميصين ذوي الأكمام الطويلة واقفين على ناصية شارعي ريفولوسيون وبيريوديزمو مثل تمثالي أبي الهول حاقدين، يحرسان السيدة في كرسيها المدولب وكلبها النائم المقرف، وهما يلوّحان للحافلة من جديد، قادَ حافلته مباشرة باتّجاه أربعتهم. تمكّن التوءمان والعجوز، التي تبين أنها غير مشلولة، من تفادي الحافلة بإلقاء أنفسهم على جانب الطريق. إلا أن الكلب ماتَ في ذلك الحادث المؤسف.

---------------------------

من رواية "قصة أسناني" التي ستصدر قريباً عن دار المدى.


*****

خاص بأوكسجين

 

[1]  ميشيل دي مونتين (1533- 1592): أحد أكثر الكتاب الفرنسيين تأثيرًا في عصر النهضة الفرنسي. رائد المقالة الحديثة في أوروبا. وقد استلهمَ كتاباته في المقام الأول من قصص قرأها وتأثر بها كمثل قصص أوفيد ووقائع تاريخية من قيصر وتاكيتوس، وشذرات من السير الذاتية من بلوتارخ، ونصائح عن كيف تعاش الحياة من سينيكا وسقراط.
 

[2]  ماوريتزيو كاتيلان (1960): فنان إيطالي اشتهر بتركيباته المثيرة للجدل. في عام 2016 عرضَ عمله "أميركا" وهو عبارة عن مرحاض مصنوع بالكامل من الذهب الخالص عيار 18 قيراط، ويرمز إلى فرط ثروة الولايات المتحدة. سُرِق العمل عام 2019 من قصر بلاينهايم.
 

[3]  ألڤارو إنريكه (1969): روائي مكسيكي وكاتب قصة قصيرة وكاتب مقالات. وهو زوج ڤاليريا لويزيلي صاحبة هذه الرواية.
 

[4]  خوان خوسيه أريولا (1918-2001): كاتب مكسيكي شهير.

[5]  الصبر الإسبارطي: عُرِفَ عن مدينة اسبارطة أنها كانت مجتمعًا محاربًا في اليونان القديمة، وتمحورت الثقافة الإسبارطية حول الولاء للدولة والخدمة العسكرية، وبناء على ذلك كان الصبية الصغار يتلقون تعليمًا عسكريا مكثفا، ويُدرَّبون على الصبر والانضباط والتحمّل. كما عُرِف عن الإسبارطي تقشّفه بالكلام.

 

فاليريا لويزلي ,عبير عبد الواحد

فاليريا لويزلي (1983) روائية مكسيكية حائزة على عدة جوائز أدبية. ولدت في مكسيكو سيتي وترعرعت في كوريا الجنوبية وجنوب أفريقيا والهند. وقد تُرجمت أعمالها إلى أكثر من عشرين لغة عالمية. بعد حصولها على إجازة في الفلسفة من الجامعة الوطنية المستقلة في المكسيك، انتقلت لويزلي إل...

معلومات الصورة
الصورة من أعمال الفنان الباكستاني أنور جلال شيمزا (1928 – 1985)