مسرح على الهواء
العدد 165 | 21 كانون الثاني 2015
رعد الفندي


رأيت حشداً كبيراً من الناس يشاهدون تحركات مجموعة من المهرجين الجوالين، الذين يعرضون مشاهد مسرحية، يتوسطهم منديل، تناثرت بداخله قطع معدنية، حال وصولي كانوا في المشهد الأخير من العرض.

أحاط المتفرجون بالمهرجين من جميع الجهات، مما أعطى لطوال القامة مبرراً للجلوس في الصف الأول مفترشين الأرض، أما الواقفون فقد حضنوا أيديهم حتى يفسحوا للآخرين لصق أكتافهم معاً، أصبح ظل الواقفين الذي خلفته أشعة الشمس أرضية مناسبة محدودة الأبعاد كما لو أنها خشبة مسرح حقيقية، لتتكامل مع أشعة الشمس البنفسجية،النازلة على الممثلين وكأنها إنارة عالية التقنية تواكب حركتهم  المستمرة، الجديرة بالإعجاب. 

تطل من الشرفات والسطوح العالية عشرات الرؤوس لنساء وأطفال وصبية، يشاهدون العرض عن كثب، حتى أصبح المشهد مسرحاً حقيقياً بطبقات متعددة، ما شدني في الأمر صمت الجمهور كأنهم حبسوا أنفاسهم، منهم من أسند رأسه على أحد كتفيه، والبعض مَن فغر فاه، و بانسجام تام  مع ما يجري في المسرح. 

 

تسللت بين الجمع الغفير رويداً، رويداً حتى أمسيت أقرب الناس للممثلين، كان أحدهم رجلاً بديناً، لا يرتدي غير ثوب خفيف مزركش و مرقع على الرغم من طلعة وجهه التي توحي بالترف والهيبة، ومنهم امرأة حسناء، تلف وجهها بخمار أسود  فضفاض، أمّا الممثل الآخر كان أسمر اللون، غضن العينين، قصير الثوب، محزّم بخنجر معقوف. ذو لحية غزيرة الشعر تصل إلى منتصف صدره، متعمم بعمامة مختلفة الألوان غريبة الشكل، ومن بينهم طفل رث الثياب، أشعث الشعر، لا يكاد ينطق مخارج الحروف، أراد الممثلون لفت انتباهي لأنني الوحيد الذي أرتدي بزة فاخرة من بين الجمهور، تبادلوا الأدوار بصيحات: 

 

-الرجل السمين: إذاً لنزف العروس، يحملها عبدنا هذا (أشار بيديه نحو الرجل الأسمر) بالهودج إلى غرفتي؛ فأنا الوحيد الذي ليس لكم غيره يجيد اللعب على الأريكة وينجب الطفل الجميل، كي يرعى الأغنام في ربوعنا الخضراء، ويهش الذئاب الجائعة التي باتت تفتك في كل شيء، ها هو موسم الربيع قد حان، أصبحت الهضاب والوديان والسهول مخضرة والثمار يانعة تهوى القطاف، ليس هناك ما يمنع الرعي غير وجود الراعي..

صمت قليلا بعد أن طأطأ برأسه، خافيا الابتسامة التي طغت على شفتيه، ثم اعتدل في وقفته، ملتفتاً إلى اليمين و إلى اليسار، مشي عدة خطوات بتؤدة حتى بات قريباً جداً من المرأة الجميلة التي كانت تداعب شعر الطفل الصغير الواقف بين فخذيها، أطلق كلماته السريعة بنبرات مختلفة، تتناسب بشكل تلقائي مع إيماءاته المتقنة بيديه و تعابير وجهه:  

– كم أنا تواق لأن يكون لنا ولد صالح، قوي، يعيد بعض البهاء لصورتنا الممسوخة، التي تراكم عليها غبار الذلة والخنوع، بات هذا الصغير (أشار بيديه نحو الطفل) لا ينفع، كسيح، فقع وجهه الجدري مبكراً، إنها العدوى التي عمت أرجاء المعمورة منذ زمن طويل، ولا مناص من ولادة طفل سليم معافى يحقق ما نصبو ا إليه..

قاطعته المرأة بعد أن تبخترت أمام الجميع بخلخالها الذهبي، رغم أنها كانت حزينة الوجه، قطوب، تشير بسبابة يدها اليمنى  نحوه:

تكذب، نعم أنت كذاب، ومَن منحك صفة الرجولة أيها السمين العقيم، على أنثى لم تعد عفيفة من دون النساء؟ خذ طرحتي هذه والبسها ولكنها لا تليق بك، إنها تشمئز من رجل باع رجولته منذ أكثر من ستين عام ونيف إلى أولاد الخال، علقوك بين المطرقة والسندان، لا أنت تيس ولا أنت معزة، أمسيت بلا محراب، تعلو أعواداً نخرة، لتذكر فيها أسم الشيطان، وتخطب خطبة خرقاء، متقلداً غمد الزيف، حاملاً سيف الفرقة والباطل على جمع أصبحت ألوانهم كقلوبهم سوداء (تشير بيدها نحو الرجل الأسمر) ويقتل بعضهم بعض بلا رحمة، يختلفون على الفرق بين الإقلاب والزحاف حتى قصروا من جلابيب الحق، وزادوا من لحي الباطل غزارة، أمسى رداء الجد الكبير على صليب معقوف، يصلب ويشتم كل يوم، لتصبغه فضلات الغربان ذلة وخنوع…

استمرت المرأة على هذا الحال حتى رفعت نهديها نحو الشمس أمام أنظار الجميع، كأنها تغازل بزغ أشعتها، تدعو إلى الويل والثبور من ربيع كاذب ((لا يسمن ولا يغني من جوع)) ولا يؤمن من خوف، بكى الطفل وهو يجر بأذيال ثوبها الفضفاض بعد أن صرخت كالمجنونة، رافعة بيديها البضة الطفل الصغير، تتحرك بسرعة يميناً وشمالاً على طول الفسحة الفارغة :

–  مَن يأخذ صغيري هذا بعيداً عن هؤلاء حتى يبرأ؟ لا يريد ميراث الآباء الذين تبولوا على محراث التنور، لتمسي أرغفة الخبز ملعونة، وأناشيد الحق ملفقة، كاذبة، معدية كالجذام، خذوه مني… خذوه أرجوكم! 

هدأت قليلاً، تمشت باستحياء نحو الجمع القريب مني، ركزت نظرها نحوي، ما لبثت حتى صرخت مرة أخرى:

– آه، آه، آه ألا تأخذوه مني أيها المتفرجون! لتنقذوه من فجيعة سَلَف مذبوح تربع عليه أولاد الزنا، ألا تكفوا من أعين لا تعرف إلاّ التحديق ولا أيدي إلاّ التصفيق، وألسنة معقودة مثل فاه ضفدع قرف لا يتقن غير النقيق! خذوه، خذوه…

كررت الممثلة كلمتها الأخيرة عدة مرات، صفق المتفرجون بحرارة، حتى باتت أيديهم تضرب بعضها بعض، هرولت نحوي مسرعة وهي تحمل الطفل الباكي، رمته بين ذراعي، وكأن هناك دورا لي في المشهد المسرحي، أعدت الطفل إليها، بعد أن دخلت دائرة المسرح الافتراضية رافضا الاشتراك معها، خال لي مرضه المعدي حقيقة، لكنني اكتفيت بالتصفيق الحار مع الجمهور …

 بعد أن ساد الضجيج وكثر الصفير، تفرق الجمع بسرعة هائلة ومنهم الممثلون، كنت أنظر نحو تلك الممثلة الذي أعجبني جمالها الجذاب وتمثيلها المتقن، أسرَعَت بخطواتها الجميلة مع رنين خلخالها، وهي تنظر نحوي مبتسمة، شجعني ذلك الأمر إلى اللحاق بها، زادت من سرعتها، تملصت بين زحمة الناس، وهي تحمل على كتفها الأيمن الطفل الصغير الذي لاحت على وجهه ابتسامة ساخرة وفي يده اليسرى محفظتي الفارغة إلّا من هويتي…

_____________________________________

قاص من العراق

 

الصورة من مجموعة بعنوان “كهربا مقطوعة” للمصور السوري أحمد بلّة

*****

خاص بأوكسجين


مساهمات أخرى للكاتب/ة: