لكل حبة فاصولياء شخصية مميزة
العدد 157 | 08 آب 2014
بول أوستر/ترجمة: أسامة منزلجي


   في البدء كان كل شيء حيّاً . وأصغر الأشياء مُنِحَ وجيب قلب ، وحتى الغيوم كانت لها أسماء . كان في وسع المقصّ أنْ يتكلَّم ، وكانت الهواتف وأباريق الشاي أقارب مُقرَّبين ، والعيون والنظارات كانت أخوات . وجه الساعة كان وجهاً بشرياً ، وكان لكل حبة فاصولياء في وعائك شخصية متميزة ، وشبكة الحاجز الحديدي الذي في مقدمة سيارة والديك كانت فماً مُكشّراً فيه العديد من الأسنان . أقلام الحبر كانت سفن فضاء . قطع النقد كانت أطباقاً طائرة . أغصان الأشجار كانت أذرعاً . الحجارة كان في استطاعتها أنْ تتكلّم ، وكان الله في كل مكان .

   لم تكن هناك مشكلة في تصديق أنَّ الإنسان على القمر كان إنساناً حقيقياً . كان في الإمكان رؤية وجهه ينظر إليك من السماء في الليل ، وكان دون أدنى شك وجه إنسان . وكونه بلا جسم ليس بالأمر الهامّ – كان لا يزال إنساناً بالنسبة إليك ، ولم يخطر على بالك أبداً ولو مرة وجود تناقض في هذا كله . وفي الوقت نفسه ، بدا أمراً معقولاً أنْ تقفز بقرة إلى القمر . وأنْ يهرب طبق مع ملعقة .

   إنَّ أفكارك المُبكّرة هي بقايا حياتك داخل نفسك وأنت صغير . لا تتذكّر إلا بعضاً منها ، قطعاً وشذرات منعزلة ، ومضات وجيزة من التعرُّف تجتاح داخلك في لحظات عشوائية بصورة غير متوقعة – تُثيرها رائحة شيء ، أو ملمس شيء ، أو سقوط الضوء بطريقة معيَّنة على شيء هنا والآن في حياتك البالغة . على الأقلّ تعتقد أنكَ تستطيع أنْ تتذكّر ، بل تصدّق أنك تتذكّر ، ولكن لعلك لا تتذكّر على الإطلاق ، أو أنك لا تتذكّر إلا ذِكرى لاحقة لِما تعتقد أنك كنتَ تفكر فيه في ذلك الزمن الغابر الذي لم يضِع بالنسبة إليك.

   الثالث من كانون ثاني ، عام 2012 ، بعد مرور عام بالضبط على بداية تأليفك كتابك الأخير ، يوميات الشتاء الذي انتهيت الآن من كتابته . أنْ تؤلّف كتاباً عن جسمك ، أنْ تصنّف الصدمات والمسرات العديدة التي اختبرتها جسدياً أمر ، أما أنْ تستكشف دماغك وأنت تتذكر ذلك من الطفولة فسوف يكون دون أدنى شك مهمة شاقة أكثر – ولعلها مهمة مستحيلة . ومع ذلك ، تشعر بأنك مُضطر إلى أنْ تحاول . ليس لأنك ترى في نفسك مادة نادرة واستثنائية للدراسة ، بل بالضبط لأنك ترى أنك عكس ذلك ، لأنك تعتبر نفسك كأي شخص آخر، أو ككل شخص آخر.

   البرهان الوحيد الذي في حوزتك على أنَّ ذكرياتك ليست مُضللة بالكامل هو أنك ما زلت أحياناً تعود إلى أساليبك القديمة في التفكير . والآثار لا زالت موجودة لديك الآن وأنت موغل في ستينيات عمرك ، أرواحيّة  الطفولة المبكّرة التي لم تزُل من تفكيرك  ، وفي كل صيف ، وبينما أنت تستلقي على العشب ، تنظر عالياً إلى السحب المنسابة  وتراقبها تتحول إلى وجوه ، وعصافير وحيوانات ، إلى ولايات وبلدان وممالك وهمية . لا زالت مصبعة السيارات تذكّرك بالأسنان ، ولا زالت سدادات الزجاجات راقصات باليه. وعلى الرغم من الدليل الخارجي، لا زلت كما أنت ، حتى وإنْ لم تعُد الشخص نفسه.

   عندما فكّرتَ فيما ستفعله بهذا ، قرّرتَ ألا تتجاوز أعتاب سن الثانية عشرة ، ذلك أنك بعد سن الثانية عشرة لا تعود طفلاً ، وتلوح فترة المراهقة في الأفق ، وتبدأ تباشير سن الرشد تومض في رأسك ، وتتحول إلى نوع مختلف عن الشخص الصغير الذي كانت حياته انغماس مستمر في الجديد ، ويقوم في كل يوم بعمل للمرة الأولى ، بل بأعمال متعددة ، أو أعمال كثيرة ، وهذا التقدُّم البطيء من الجهل إلى شيء أقلّ من الجهل هو الذي يُثير اهتمامك الآن . مَنْ كنتَ ، أيها الرجل الصغير ؟ كيف أصبحتَ شخصاً يُفكّر ، وإذا كان في استطاعتك أنْ تفكّر ، فإلى أين وصلتْ بك أفكارك ؟ ابحث في القصص القديمة ، فتّش عن أي شيء يمكن أنْ تعثر عليه ، ثم قرِّب القِطع الصغيرة من الضوء وانظر إليها . افعل هذا. حاول أنْ تفعل هذا.

   طبعاً كان العالم مُسطّحاً . وعندما حاول أحد أنْ يشرح لك أنَّ الأرض كرةً ، كوكباً يدور حول الشمس مع ثمانية كواكب أخرى فيما يُسمّى بالنظام الشمسي ، لم تفهم ما قاله الفتى الأكبر سناً منك . فإذا كانت الأرض مدوّرة ، فكل مَن يقع تحت خط الاستواء سوف يسقط عنها ، بما أنه من غير المفهوم أنَّ يتمكن شخص من أنْ يعيش حياته بالمقلوب . وحاول الفتى الأكبر سناً أنْ يشرح لك مفهوم الجاذبية ، لكنَّ ذلك كان فوق طاقتك على فهمه . وتخيّلتَ ملايين الناس يغوصون بالمقلوب داخل ظلام ليل لا متناه ، يلتهم كل شيء . وقلت لنفسك ، إنْ كانت الأرض مدوّرة حقاً ، فإنَّ المكان الوحيد الآمن هو القطب الشمالي . 

      وبما أنك متأثّر حتماً بأفلام الكرتون التي تحب أنْ تشاهد ، اعتقدتَ أنَّ هناك عموداً  يبرز من القطب الشمالي ، يُشبه أحد تلك المستديرة الدوّارة ، المُخططة ، التي كانت توجد أمام دكاكين الحلاقين .

   من ناحية أخرى ، كانت النجوم مُبهمة . فهي ليست ثقوباً في السماء ، ولا شموعاً ، ولا مصابيح كهربائية ، ولا أي شيء يُشبه ما تعرف . لقد كانت كثافة الهواء الأسود في الأعالي ، والامتداد الشاسع للفضاء الذي يفصل بينك وبين تلك الأشياء الصغيرة المُضيئة ، شيئاً يُقاوم كل فهم . إنها أشياء لطيفة وجميلة تحوم في الليل ، موجودة لأنها موجودة هناك وليس لأي سبب آخر . إنها من صنع الله ، نعم ، ولكن فيمَ كان يُفكّر وهو يفعل ذلك ؟ 

   كانت ظروفك في ذلك الحين كما يلي : أميركا منتصف القرن ؛ أم وأب ؛ دراجات ثلاثية الدواليب ، دراجات عادية ، وعربات خيل ؛ أجهزة راديو وأجهزة تلفزيون أبيض وأسود ؛ سيارات بناقل حركة قياسي ؛ شقتان صغيرتان ومن ثم منزل في الضواحي ؛ في البداية أحوال صحية هشّة ، ثم قوة فتيّة طبيعية ؛ مدرسة حكومية ؛ عائلة من الطبقة الوسطى الكادحة ؛ بلدة تعداد سكانها خمسة عشر ألف نسمة من البروتستانت ، والكاثوليك ، واليهود ، كلهم من البيض ما عدا ثلّة من السود ، ولكن لا بوذيين ، أو هندوس ، أو مسلمين ؛ أخت صغيرة وثمانية من الأقارب المقرّبين ؛ كتب رسوم هزلية ؛ روتي كازوتي وبينكي لي  ؛ ” رأيتُ ماما تُقبّل بابا نويل ”  ؛ حساء كامبل ، والخبز العجيب ، والبازيلاء المُعلّبة ؛ سيارات مقوّاة (عتيقة مُعدَّلة) وعلب سجائر بثلاثة وعشرين سنتاً ؛ عالم صغير داخل العالم الكبير ، الذي كان حينئذٍ العالم بأسره بالنسبة إليك ، بما أنَّ العالم الكبير لم يكن مرئياً بعد .

   يركض المزارع غراي ، مُسلّحاً بمذراة ، يُلاحق القط فيليكس عبر حقل ذرة . لا أحد منهما يستطيع الكلام ، لكنَّ حركاتهما مُصحوبة بقعقعة منتظمة لموسيقى مرحة ، عالية السرعة ، وبينما تشاهد الاثنين منخرطين في معركة أخرى من حربهما التي لا تنتهي أبداً ، تقتنع بأنهما حقيقيان ، بأنَّ هاتين الشخصيتين المرسومتين بصورة مهلهلة بالأبيض والأسود ليستا أقلّ حياة منك . إنهما تظهران بعد ظهيرة كل يوم في برنامج تلفزيوني يُسمى ” Junior Frolics ” ، يُقدمه رجل اسمه فريد سيليس ، تعرفه ببساطة باسم العم فريد ، حارس بوابة أرض العجائب ، فضيّ الشَعر ، ولأنك لا تفهم أي شيء عن إنتاج الأفلام المتحركة ، فإنك لا تستطيع حتى أنْ تبدأ بفهم العملية التي تُنفَّذ بها الرسوم التي جُعِلَتْ تتحرك ، وتعتقد أنه لا بد هناك ما يُشبه العالم البديل يمكن لشخصيات مثل المزارع غراي والقط فيليكس أنْ توجد فيه – ليس كخربشات قلم ترقص عبر شاشة التلفزيون ، بل كمخلوقات حيّة تماماً ، ثلاثيّة الأبعاد بحجم الأشخاص البالغين . إنَّ المنطق يتطلّب أنْ يكونوا بحجم كبير ، بما أنَّ الناس الذين يظهرون في التلفزيون هم دائماً أكبر مما يظهرون على الشاشة ، والمنطق يتطلّب أيضاً أنْ ينتموا إلى عالم بديل ، بما أنَّ العالم الذي تعيش فيه لا تسكنه شخصيات كرتونية ، وإنْ كان هذا ما تتمنى أنْ يكون . وذات يوم وأنت في الخامسة من العمر تُعلن أمك أنها ستصطحبك مع صديقك بيلي إلى استوديو مدينة نيوارك حيث يُبثّ برنامج Junior Frolics . وتخبرك بأنك سوف تشاهد العم فريد شخصياً ، وسوف تشترك في البرنامج . إنَّ هذا كله شيء مُثير ، مُثير بصورة خارقة ، بل وأشدّ إثارة لدى التفكير في أنَّك أخيراً ، وبعد أشهر عديدة من التدبُّر ، سوف تتمكن من مشاهدة المزارع غراي والقط فيليكس بأم عينيك . بعد طول انتظار سوف  تكتشف شكلهما الحقيقي . وبعين عقلك ، ترى حقيقة ما يجري على خشبة مسرح هائلة ، خشبة مسرح بحجم ملعب كرة قدم ، بينما المزارع العجوز غريب الأطوار والقط الأسود الماكر يُطارد كل منهما الآخر جيئة وذهاباً في إحدى مناوشاتهما الملحمية . ولكن في اليوم الموعود ، لا يحدث أي شيء مما تخيلت أنه سيحدث . فالاستوديو صغير الحجم ، والعم فريد يضع مساحيق على وجهه ، وبعد أنْ أعطوك كيساً من أقراص النعناع  لكي تتسلى في أثناء العرض ، تجلس في المُدرّج المسقوف مع بيلي وباقي الأطفال . تنظر إلى أسفل إلى ما ينبغي أنْ يكون خشبة مسرح ، والذي في الحقيقة ليس أكثر من أرضية من الاسمنت ، وما تراه هناك هو جهاز تلفزيون . وليس حتى جهاز تلفزيون خاص ، بل ليس أكبر حجماً أو أصغر من الجهاز الذي في منزلكم . ولا ترى المزارع والقط في أي مكان ي الجوار . وبعد أنْ يُرحّب العم فريد الجمهور في العرض ، يُقدم أول فيلم كرتون . ويُضاء التلفزيون ، ويظهر المزارع غراي والقط فيليكس، يقفزان كما يفعلان دائماً ، ولا زالا داخل الصندوق ، ولا زالا صغيريّ الحجم كما هما دائماً . وينتابك الاضطراب التام . وتتساءل ، أي خطأ ارتكبتُ ؟ أي الخطأ فيما فكّرت ؟ إنَّ الواقع يختلف كل الاختلاف عن المُتخيَّل ، ولا يسعك إلا أنْ تشعر بأنَّ خدعة قذرة قد مورست عليك . وتُذهل وتُصاب بالخيبة ، وتكاد تنفر حتى من النظر إلى العرض . ولاحقاً ، في طريق العودة سيراً إلى السيارة مع بيلي وأمك ، ترمي أقراص النعناع بعيداً باشمئزاز . 

   عشب وأشجار ، حشرات وطيور ، حيوانات صغيرة ، وأصوات تلك الحيوانات لدى اندفاع أجسادها الخفيّة خلال الأيكات المجاورة . كنتَ في الخامسة والنصف عندما غادرت عائلتك الشقّة ذات الحديقة الشبيهة بالدغل في يونيون وانتقلت إلى المنزل الأبيض القديم في جادة إرفينغ في جنوب أورانج . ليس منزلاً كبيراً ، لكنه المنزل الأول الذي عاش والداك فيه في حياتهما ، أي منزلك الأول أنت أيضاً ، ومع ذلك لم يكن داخله فسيحاً ، لكنَّ الفناء الخلفي بدا لك رحباً ، لأنه في الواقع كان يتألّف من فنائين ، الأول فُسحة صغيرة يكسوها العشب وتقع مباشرة خلف المنزل ، تحدّها حديقة الورد التي على شكل هلال وتخصّ أمك ، ومن ثم ، لأنَّ مرأب الخشب الأبيض يقع بعد حديقة الورد مباشرة ، شاطراً العقار إلى منطقتين مستقلتين ، كان هناك فناء آخر خلفه ، فناء خلف خلفي ، أشدّ كثافة وحجماً من الفناء الخلفي الأمامي ، يشكّل عالماً منعزلاً كنتَ تمارس فيه أشدّ أبحاثك جديّة داخل الحياة البريّة لمملكتك الجديدة . والدلالة الوحيدة للإنسان هناك كانت حديقة الخضار التي تخص والدك ، تُنتج البندورة بالدرجة الأولى التي زُرِعَتْ حديثاً بعد انتقال عائلتك إلى المنزل في عام 1952 ، وفي كل عام على مدى الأعوام الستة والعشرين ونصف المتبقية من حياته ، كان والدك يقضي فصول الصيف يعتني بالبندورة ، وكانت من أشدّ ما شهده أي شخص في نيو جرزي حمرة ، ونضجاً ، وفي شهر آب من كل عام كانت السِلال تفيض بها ، وكان الإنتاج غزيراً إلى درجة أنه يضطر إلى توزيعها مجاناً قبل أنْ تفسد . كانت حديقة والدك تمتد على طول المرأب في الفناء الخلف خلفي . كانت بقعة تخصه ، لكنها شكّلت عالمك – وهناك عشت إلى أنْ بلغتَ العشرين.  ________________________

الفصل الأول من كتاب “تقرير من الداخل” 2013

الصورة من أعمال معرض للتشكيلي السوري ثائر هلال أقامه عام 2012 تحت عنوان In Army We Trust.

*****

خاص بأوكسجين