لقد أنقذنا سبانجلر من العفن
العدد 176 | 22 آب 2015
حنان عبدالله


يقولون بأننا نحيا ونموت ولاينتبه إلينا أحد ما لم نصنع أمراً يعجب التاريخ ويقرر حملنا في جيبه العلوي، 

أفكر ماذا يحب هذا التاريخ ؟ 

ماذا يجب علينا أن نفعل ليلتفت إلينا؟ ألا يعرف أن أعناقنا قصيرة وأطوالنا أصبحت لا تتجاوز ١٩٥ سم؟ ونبكي لأننا نوجع بعضنا البعض وننتشي لأن رائحة الأكل شهيّة؟ ونلهث في المجمعات التجارية لأجل تنزيلات ١٥٪؟ 

لم يعد يعجبه اختراع الآلات وتركيب الأدوية، فها هي تتكدس دون أن ينتبه لها، أقصى ما يحدث خبر في قناة تلفزيونية وجريدة بائسة يقرأها رجل وحيد عندما يفترشها للعشاء، واذا تعاظم الأمر حصل المخترع الذي غالبا يظهر بعينين تكادان تسقطان وجسد نحيل ورأس أصلع على مصافحة بهزات متتالية وطويلة لغرض التصوير مع رئيس دولته الذي لا يفهم غالبا ما الذي يحدث،

ما الذي يعجبه كي نحصل على إقامة في جيبه العلوي ليخرجنا منه متباهيا بعد أن نكون موادا عضوية متكدّسة تحت الأرض؟ 

هل أكتب كتابا أو قصيدة أو رواية لم تمرّ على عقل بشر؟ لن يعجبه بالتأكيد، سُتطبع ملايين النسخ في حال نجاحها، ستقرأها الفئة القارئة من كل مجتمع، ستترجم إلى لغة أو لغتين فتُقرأ أيضا من الفئة القارئة لأصحاب تلك اللغة أو اللغتين، ستفوز بعدة جوائز وقليلا من التصفيق وفلاشات الكاميرات، وفي الحال الأفضل اذا كانت رواية تترجم فيلما مرئيا لساعتين أو ثلاثة وينتهي، فتهمس النساء السعيدات نسبيا لرجالهم “لقد كان فيلما رائعا، الممثل عظيم” وسيجيبون بالطبع “وأنتِ رائعة كذلك” فيتبسّمن هائمات، وأنا هناك مادة عضوية بائسة تحت الأرض لم أعجب التاريخ بما فيه الكفاية، 

 لا أحد يتذكر شخصيا آرثر وين أو نيوتن أو الإخوة روفر أو جراهام بل أو اللعين انريكو فيرمي وكولمبوس وماجلان،

مخترعاتهم هي التي تتبدّى من ذلك الجيب العلوي، أما هم أنفسهم وأسماءهم فلا نجدها إلا في المؤلفات العلمية وفقرات هل تعلم ومسابقات من سيربح الملايين، هل يخطر لك وانت تفرغ عبوة الكوكاكولا الباردة في جوفك أن تبتسم وتمتدح جون بمبرتون؟ هل يخطر لك عندما ترفع قدميك لتكنس البائسة ما تحتها بالمكنسة الكهربائية أن تطلق تنهيدة رضا: لقد أنقذنا سبانجلر من العفن؟ هل خطر لك أن تردد بنشوة ” الله يذكركم بالخير يا الأخوين رايت” وانت مرتمي على كرسيّك في الطائرة؟ 

هذا كله لا يحدث ، هؤلاء المساكين لم يعجبوا التاريخ أنفسهم، بل قذفوا بمخترعاتهم في جيبه العلويّ وكانت الرمية صائبة !

أفكر دائما بشأن مركبات تطير بإرتفاع طفيف للتنقل داخل المدن، كلما تأخرت عن موعد عملي بسبب الإزدحام المروري، ولكنني لن أعجب التاريخ ولاأملك المؤهلات التي تجعلني أستطيع القفز وتصويب مخترعي نحو جيبه، 

لا أحد يعجب التاريخ  وليس عليك أن تهتم به، وذلك المثالي الذي كانت أمه تجرّعه أكواب الحليب كل صباح ويحرّض الأساتذة على المزيد من الواجبات المنزلية فكبر وأصبح يردد بأننا نحيا ونموت ولا ينتبه إلينا أحد ما لم نترك أثرا، سيموت منهكا صدقني .

___________________________________

كاتبة من السعودية

الصورة من رسوم المخرج الإيطالي فيدريكو فيلليني (1920 – 1993) ولها أن تكون رسوماً أولية لشخصيات أفلامه متسائلاً ” لماذا أرسم شخصيات أفلامي؟ لما أدوّن ملاحظات غرافيكية عن وجوههم، أنوفهم، شواربهم، ربطات عنقهم، حقائبهم.. هي طريقتي ربما لأبدأ بمشاهدة الفيلم وجهاً لوجه، لأرى من أي نوع هو، محاولاً ترميم شيء مهما كان صغيراُ وصولاً إلى حدود العدم، لكن ذلك يبدو لي شيئاً يمكن فعله مع الفيلم، ليبدأ حديثه معي في الخفاء”.

*****

خاص بأوكسجين