لص الجوارب البيضاء
العدد 189 | 27 نيسان 2016
نجوى بن شتوان


(1)

في صيف العام 2010 قبل الميلاد، وفي بلدتنا التي يطيب لنا تسميتها مدينة، ألقت عائلة بقر الله، القبض على لص منازل، وكانت العائلة في ذلك الحين تتألف من الأب والأم والجدة والدة الأب وهي عجوز شديدة المراس، صعبة العريكة، يستحيل أن تتحدث معها دون أن تقرصك كلماتها في ناحية ما، بالاضافة لذكر وحيد وصغير، من البين أنه سيكون نسخة عن جدته ووالده لاحتكارهما تربيته وفقاً لبرنامج إعداد صارم، يتجه إلى كونه النسخة الوحيدة الواجب الحفاظ عليها من الإنقراض وسط عائلة مأهولة إلى أنفها بالبنات.

 

كان الأب بقرالله الكبير رجلاً مقطباً طيلة الوقت، لم يره أحداً يبتسم، حتى ولا جيرانه الذين كبر بينهم، يقولون بأنه ولد عابساً، قليل الكلام، مالم يطرأ سوء فهم يحوله إلى كائن شرس اللسان، ولعل الجيران فهموا عريكته تلك منذ أول خلاف معه، استمرت تأثيراته سنوات على الحي، فصاروا يجتنبون إثارة مكره حفاظاً على أنفسهم. ليس الجيران فحسب من يقولون ذلك عن بقر الله، إذ أن زوجته هي الأخرى لا تتوقف عن التصريح بأنه يتجنب الحديث مع أي امرأة عدا والدته، لأنه يزدري جنس النساء ويشعر بأن الحديث معها وإن كانت زوجته ينزل من قدره ويحط من مستواه العقلي كرجل في المقام الأول العائلي، وكسائق لأول سيارة أجرة في البلدة في المقام الأول في الفضاء العام، اشتهر بالرجولة وقوة العزم، فيما تتطلبه القيادة من فنون قتالية على طرقاتنا السريعة، وما أدراكم ما الطرقات إن لم تعيشوا هنا معنا، حيث كل مفاجاءات الدنيا يمكن أن تطلع للمرء فجاءة، ناقة بفصيلها، سيارة اسعاف لايوجد بها ضوء، قطيع أغنام يقطع الطريق، انفلات وادي تعبأ بمياه الأمطار، حفر من جميع الأحجام، طريق أخرى تقطع الطريق ولايعرف المرء غايتها مالم يسر منها، شاحنات السلع التي تسير سيراً متحاذياً وعربات النصف نقل التي ينام سائقوها فيما تواصل سيرها على نفس السرعة، علب وكراتين فارغة وأكياس تقتلعها الريح من أماكن بعيدة وتسير بها إلى ماشاء الله، ثم قطاع الطرق الذين يظهرون في هيئة رثة لمواطنين فقراء يحتاجون التوصيل، وجمل هارب من السودان لم يقرر التوقف عن الجري. وبعض هواة السفاري والصيد الصحراوي المجانيين، ممن يقتلون ملل الطريق بالسياقة برجل واحدة وأداء حركات بهلوانية من نوافذ السيارة بالرجل الثانية.

 

بقر الله الكبير رجل صاغته أعوام من القيادة في تلك الظروف، على وقع راديو البيجو 404 ذهاباً وإياباً، و الذي لا يبث إلا لإذاعة الجماهيرية العظمى وصوت اللجان الثورية.

 

تعودت زوجته على أن يتعامل معها من خلال هاتي، خذي، اجلبي ، اسكتي. ومن خلال الانجاب فقط، وهو لغة بديلة عن الحنان والمصالحة في كل مرة يحدث منها عصيان له ويضربها حتى يحمل وجهها وجسده نسخة ثلاثية الأبعاد من يديه.

 

ما تنفك الزوجة تذكر بأن زوجها مقطب وعابس حتى في خلوتهما، حتى وهو غير غاضب ولا يبصق على الراديو ويشتم الرؤى الثورية المنبعثة منه.

 

وكما لا تخفي الزوجة تلك الحقيقة على جاراتها، يخفي الجيران عنها استغرابهم من قدرته على انجاب ذلك العدد من الكائنات وهو عابس، لكنهم لا يصارحونها بهواجسهم ويكتفون بتخيل العلاقة بينهما، كل حسب قدرته على التوقع، وهذا منشأ آخر للأقاصيص في الحي. لذلك اعتاد الناس على أن من يروي مخيلته عن الرجل العابس وزوجته إنما يروي حقيقة اجتهد هو في التفكير فيها واستخلاص نتائجها

 

كانت زوجته تتحاشى غضبه، كرجل تقليدي لم يعدمنه إلا نسخ قليلة على سطح الأرض، تتكاثر هنا وهناك، في أفغانستان وباكستان وبعض هضاب التبت والاناضول .

 

إن بقر الله لا يحب ارسال بناته إلى المدرسة لتعلم القراءة والكتابة، رغم مجانية التعليم، فنظريته بالنسبة لهن واحدة، إن تعلمن فسوف يستطعن كتابة رسائل حب للرجال، وهذا ما لن يسمح به وسيمنع حدوثه حتى في غيابه على الطرقات، إنه يغلق طريقاً يريد الشيطان النفاذ منها لبناته، لذا عليهن سرعة الزواج وفتح بيوت فالمجتمع يشكو من قلة النسمة، وتلك مشيئة الله في النهاية، أن تأتيه البنات وأن يزوجهن ويموت من يموت ويعيش من يعيش. وتستمر إذاعة اللجان الثورية في بث الأغاني الحماسية ضد عدو خلقته وجهة نظرها.

 

قد يكون العدو أي شيء، طريق مثلاً، و ليس بالضرورة إنساناً يستهدفه آخر برسائل الحب!

 

(2)

 

كان اللص الذي وقع في منور المنزل ذلك المساء، يتربص ببيت الجيران كما ذكر في التحقيقات الأولية التي أجرتها معه الجدة، تحت وخز مقص العشب، وتهديدات الصغير بقداحة المطبخ.

 

قال إن هدفه  بيت الجيران الأغنياء نسبياً قياساً لهم، لكن انزلاق قدمه المفاجيء خل بتوازنه وأوقعه فجأة في منورهم، وهو من حسن الحظ بالنسبة لرجل يسقط من ارتفاع 80متراً، المستودع الذي تركن فيه فرش نوم البنات في النهار ولا تسحب منه إلا في الليل ليعاد بسطها أشواطاً، دون العثور على فرق بين النيام، تماماً كما في معسكرات الإعداد الثوري.

 

أقسم اللص على أقواله بحياة أمه، فهو وهو إن كان لصاً و ابن حرام إلا أنه من هذه الناحية إنسان لا يعبث بحياة أمه، لكن العجوز التي تصبب العرق منها واجهدت من الالتفاف عليه، لم تصدقه، وطلبت من البنات الخمس اللائي تمسك كل واحدة منهن به من قدم أو يد، أن يحسن شده و ينشبن أظافرهن  به ريثما تذهب إلى المخزن وتحضر من هناك حبلاً شديداً توثقه به إلى أن يعود ولدها سيد البيت ويبث في أمره.

 

سدت  الباب امرأة ضخمة بعض الشيء في الحين حتى  كأنها حاملاً، ومن بين ساقيها زحف تؤامان صغيران، أحدثا ضجة في وجودها الصامت، كانت بقربها حمالة التي تنظر في كل اتجاة وكأنها ترى كل شيء للمرة الأولى. وهي البنت الكبرى للعلاقة الزوجية العابسة.

 

وفي الصالة تسلحت بقية الصغيرات كل حسب استطاعتها بشيء مما وجدنه مقنعاً للضرب به، لعل اللص وهو ذكر طويل مفتول العضلات حاول الهرب، كشأن اللصوص دائماً يتحلون بالشجاعة وروح المغامرة، ولم تتواني واحدة منهن عن اصطحاب كريك السيارة تحسباً للحظة لا تتوازن فيها قوة عشرة نساء مع قوة ذكر واحد خلعت له الجدة ثيابه ما أن أمسكت به للحط من كرامته ومنعه من الهرب.

 

سينال اجتهاد الصغيرة استحسان جدتها ووالدها فيما بعد، عندما تصبح قصة اللص إحدى مفاخر العائلة المروية في الليالي السوداء، وما أكثرها عند انقطاع الكهرباء.

 

قالت الأم للجدة وهي تفك معها تشابك الحبل:

– لكنه لا يبدو كفرخ حرام!

 

التفتت إليها الجدة وكأنها تحسدها على اكتشافها: أجل، أجل لا يبدو، ولكن كيف عرفتي وأنتِ لم يسبق لك رؤية رجال غير أبيك وإخوتكِ؟

 

هزت المرأة كتفيها نافية شكوك الجدة:

 

لا أدري لكن هيئته ليست هيئة لص، وجهه خالٍ من الخدوش، بل أنه من طبقة نبيلة، حتى أنه يرتدي جورب 

 

أبيض، لا يبدو لي أبداً كسارق، بل كعريس جهز نفسه للزفاف جيداً( كانت الموضة أو النبالة تلك الحقبة تقاس بارتداء الجوارب البيضاء)

 

ضحكت الجدة ساخرة وهي تفتل الحبل بين يديها الغليظتين، حتى كأنها تفتله من أجل كنتها وليس من أجل اللص:

 

والله!! صار لك عقل تفكرين به يافطيطيم، شدي، شدي!

 

كانت حمالة تستمع لحديث جدتها وأمها وتصنفه بنظرتها اليتيمة على أنه حديث رجالي جداً، ففي العائلة مذ ولدت لم تسمع حديثاً بين امرأتين عن رجل مثله.

 

جرت خلف جدتها مثل الملدوغة ما أن طلبت منها المساعدة: هيا تعالي أعينيني لنربط الكلب.

 

 ومسحت أنفها في كم قميصها.

 

كان اللص جالساً على كرسي خشبي قصير، تشده البنات لكيلا يفلت، كانت طريقتهن في الشد كمن يتأملن تمثال دافيد، فهو بحكم الأمر الواقع الرجل الوحيد الذي استطعن التماس معه إلى هذا الحد وقد يكون الأمر بعد مضيه وتذكره يشبه حالة من التماثل لا يميز فيها بين التمثال والرائي.

 

تلك الطريقة في الإمساك بشيء للمرة الأولى قد لا تكون الأكثر طفولية وبدائية بل الأكثر كمالاً ونضجاً حتى إن أعيد تكرارها مئات المرات، من علمهن ذلك؟ وكيف تعلمنه فيما يشبه الاتفاق بينهن؟

 

ذلك ما دار في عقل الجدة الحانقة حين دخلت وراعها المشهد، كأنهن لسن اللائي ربتهن وأعدتهن، كأنهن في عناق جماعي أبدي توقف الزمن عنده هكذا وطرح بقر الله خارجه بكل مؤثراته.

 

لابد للجدة أن تكسر الزمن وتخرجهن منه فقد جرح مشهدهن المشاعر العائلية المحافظة في عقلها الباطن، واستدعى ذلك صورتها في الطفولة والصبا، لم يكن بوسعها الاقتراب مرة من رجل غريب إلى ذلك المستوى، نكزها الشيطان الذي ساعدها في قراءة المشهد بألوان مختلفة، أن تلبس اللص أحد فساتينها الواسعة و تزيد من سرعتها في ربطه إلى الكرسي ليتم الاستغناء عن خدمات حزمة من البنات، فالكرسي ليس كالبنات، وجوده مرتبط باسم بقر الله. آملت في سرها أثناء الربط، أن يعود ابنها الليلة ليتخلصوا من الرجل المزعج فوراً.

 

نام اللص مع الجدة في غرفتها، وكانت حمالة في الركن القصي على سريرها بعينها المغلقة ترقبه دون كلام، في منتصف الليل فقدت الجدة الأمل في عودة ابنها وبدت أكثر قلقاً على سلامته، فليس من عادته الغياب، إذا سافر لجالو يعود في نفس اليوم وإن متأخراً، لكن الليل امتد دون صدى لباب البيت، وتنحنح اللص يريد الحمام

 

نهض البيت بأجمعه، ناقش كيفية ذهابه، ومنع هروبه أو أذيتهم. ثم تقرر فك يديه فقط وتقييد قدميه وترك باب الحمام مشرعاً خلال قضاء حاجته. بعدما تكثف النقاش حول الكيفية التي يتبول بها الرجل. منعت الجدة أحداً من الاقتراب عدا حمالة التي ولدت بنصف وعي، وبزائدة لحمية كاملة التكور بين كتفيها.

 

إذا كانت حمالة لا تدرك شيئاً عما يحمله ظهرها وتعتقد بأنها ستتزوج شأنها شأن شقيقاتها العاديات، فكيف ستدرك العالم من حولها وما يقال فيه عن الرجال؟

 

إن الحياة في ذلك القفر، تدرب الوهم أن يصبح حقيقة جميلة!

 

(3)

 

في تلك اللحظات الحرجة التي كانت فيها ترقوة السارق بين أسنان الجدة الشرسة، كان ابنها يقود سيارته الأجرة على واحدة من أصعب الطرقات في ليبيا، وقد تعرضت سيارته للتدحرج على ظهرها مرتين إثر قفزة متأخرة منه، من جهة الطريق إلى عكسها، تحاشياً لشاحنة كبيرة ظهرت فجأة مع حفرة كبيرة أعربت عن نفسها في اللحظة ذاتها، كان مثل فارس يتعرض لخطرين وينجو، وقد نجا جميع من معه من الركاب، ليس لأنهم كانوا يربطون أحزمة الآمان، فهي غير موجودة في السيارة،  لكن لأن العدد الذي كان يقله أكثر من المسموح به، باستثناء رجل واحد طعن نفسه بمدية سودانية يتأزرها أسفل عباءته، قفز من نافذة السيارة عندما بدأت السيارة تختض يميناً يساراً، منتهزاً قربه من النافذة، سقط على الأرض وطعنته مديته، فتطلبت إصابته التوقف في الطريق الصحراوي والعمل على انقاذ حياته بأي سبيل، ذلك أن الطريق خالية إلا من القبلي والعجاج ولا يمكن أن يحلم المرء فيها بالاسعاف إثر حادث.

 

قال لهم الرجل وهو يضمد جرحه بأن المدية مسممة النصل، فعجلوا بحزم فخذه بسرعة فائقة وتشريح منطقة الإصابة في فخذه لاخراج الدم، ثم اتجه ابن العجوز التي مازالت تعض السارق في أماكن متفرقة من جسده، إلى تنك البنزينه واستحلب شيئاً من قعره عبر أنبوب يحمله معه دائماً، لتطهير الجرح، كانت العملية جماعية مستعجلة، شارك فيها الركاب قائدهم المغوار، لإنقاذ مواطن يذهب لبيع البقدونس في جالو و يتسلح لسبب غامض!

 

ربطوا له الجرح ببعض ماوجدوه في السيارة من خرق، كان يتألم لكنه لم يصرخ، وضع مسطحاً على ظهره في الجزء الخلفي من السيارة وتقرفس بجانبه أحدهم تحسباً من أن يموت فجأة فيجد من يرفع له إصبع السبابة للتشهد. فالله لا يغيب في كل لحظة من حياتهم حتى وإن غابت علامات رأفته من إجدابيا إلى جالو!

 

زاد تلاصق الركاب ببعضهم، ما جعل بقر الله يقود بهم للمائة كيلومتر المتبقية، بوضعية فم التمساح، وهي التي تنشأ عن امتلأ الفراغ مابين كرسي السائق والكرسي المحاذي له براكبين، كان الشاب الذي نصفه على المارشا هو من يستبدل حركتها، أي أنه تحول من راكب إلى مساعد سائق للمسافة المتبقية.

 

اعلق رابعة يا ولد.

 

اعلق ثالثة بعد شوية قدامنا حفرتين ودردوحة.

 

اعلق ثانية طريق مكسرة، وقدامنا بوابة، انشالله نلقوها فاضية، توكة عرس أو حد ميت، كلهم يمشوا يباركوا والا يعزوا ما تلقا حد.

 

اعلق ثالثة وردها بسرعة أولى، علشان نوقفوا، راهو وصلنا.

 

(3)

 

حمالة الوحيدة التي تستعين بها جدتها لحراسة اللص عند قضاء حاجته أو لجلب شيء من الطعام، عندما تغادر الجدة سقيفتها تغلق الباب جيداً عليه في الظلام، وترسل حمالة بين الحين والآخر تلقي نظرة عليه، كي لا يشعر بالاستغفال ويفكر في الهرب. مر اليوم الثاني على وجوده في بيتهم والأب لم يعد من رحلته القصيرة، كان غيابه مفاجأ واضطرت الجده للبس عباءتها والذهاب للدكان الذي يوجد به تليفون أرضي للاتصال بأحد أصدقائه والسؤال عنه، أخرجت رقم الهاتف من صدريتها وناولته للفتى، قائلة له بخوف:

 

ابني لم يعد، أخشى لا قدر الله أن يكون تعرض لمكروه.

 

اتصل الفتى محاولاً طمأنة العجوز لكن الطرف الآخر لم يجب على الهاتف.

 

خلال غياب الجدة تقترب حمالة ذات العين المغلقة من اللص وتتفحصه بصمت ككائن غريب سمعت في أحلامها أن العشب ينمو على أطرافه  وفي الربيع يطلع له ذيل ملون ولحيته سبب قداسته.

 

بعين واحدة أرادت التأكد، دارت حوله مرات ثم ذهبت واندست بين شقيقاتها الكبيرات اللاتي لا يتحدثن إلا عن  قصص صادمة وفجائعية حدثت في الحياة لأناس قبلهم أو في عصرهم، لم تعلم حمالة كيف حصلن على ذلك الكم منها وهن لم يغادرن البيت منذ الميلاد إلى ناحية، باستثناء ثلاث مرات خروج سجلت لهن، كانت إلى مأتم الجد والجدة وثالثة لعرس إحدى بنات الأعمام.

 

لم تكن الشقيقات الكبيرات يخشين أن تسمع حمالة همسهن بشأن جمال اللص وحسن قوامه واتساع عينيه واسوداد حاجبيه ونعومة يديه، و أعضاء أخرى يتم التطرق لها كلما زادت أيام وجوده معهن.

 

كان الرجل الوحيد الغريب الذي يرينه في حياتهن ويدخل بيتهم في سابقة لن تتكرر.كن يتوقفن عن الهمس كلما حضرت الشقيقات الصغيرات المزروعات بينهن كذباب التجسس من قبل الجدة، أما حمالة فهي عبارة عن جسد بلا روح.

 

عادت لتفحص اللص وفي يدها صحن من الفاصوليا، قدمته له صامتة، بمعنى هل أنت جائع، هل تريد أن تأكل؟

 

رفع اللص بصره إليها متوسلاً:

 

لا.. أرجوك لا تعذبيني بالفاصوليا، فالبارحة عذبتني بها الجدة أثناء نومها بما يكفي لتبرأتي إلى الأبد.

 

عادت الجدة من الدكان بثقل في صدرها أكثر من ذاك الذي ذهبت به، خلعت بلغتها بالباب ودخلت فوراً سقيفتها تستكشف حال اللص، كان نائماً أو يدعي النوم في وثاقه على الكرسي القصير، وقد نزع عنه جوربيه الأبيضين، دنت منه، نكزته بعكازها نكزة حاسد:

 

 ها، نائم يابن الحرام، بينما ابني غائب والله وحده يعلم بمصيره.

فتح اللص عينيه وقال داعماً لها:

 ليسلمه الله لك ولعائلته ياحاجة، ماذا يمكنني أن أفعل من أجلكم؟

 

اندهشت العجوز من وقاحة اللص ابن الحرام، وعادت لاستعمال عكازها معه ضرباً على بطنه:

 ها، ماذا تريد أن تفعل لنا؟ تنط على بيت المسكين الذي يكافح ليل نهار لتسرقه! هل هذا عدل يرضي الله؟ هل هكذا تربيت، وعلمك أهلك؟

 

 قلت لك ياحاجة  في التحقيقات كافة التي أجريتها معي أنت والصغير والصغيرات ومقشات البيت وأمقاصه، بأنني لم أكن قاصداً منزلكم، أقسم لك،لكن حظي هو ما أوقعني بين أيديكم، ثم توسلها مناشداً فك وثاقه وتركه يرحل، فضحكت العجوز ساخرة منه وقرصته في فخذه قرصة حارة:

 

 ها، ياسلام لص ويتشرط، وحرمة البيت التي كسرتها تذهب هكذا! أنت مكانك الحبس تعفن فيه.

 

أجل مكاني الحبس وليس بيتكم، فلما لا تنقلوني إليه وتدعوني أعفن هناك بدلاً من التعفن هنا؟

 

 ذلك أن أبونا لم يعد، ياويلك حين يعود سترى ما يفعله برجل غريب في منزله، أنت لا تعرف بقر الله حين يغضب، ياويلك، لو كان هنا لأطفأ سجائره في لحمك الرطب هذا، من حسن حظك أننا نساء، والنساء لا يدخن.

وأشارت له بيديها إشارات تدل على صورة ابنها في تلك الحالة، امتقع وجه اللص خوفاً من الرعب القادم، رعب ربته هذه العجوز، ومانقصها عوضته فيه، سيفتح باب البيت لا محالة في أي لحظة وينهي حياته.

 

نقلت الصغيرات لجدتهن حديث شقيقاتهن الكبيرات عن عيني اللص، ذلك ما أمكنهن اقتناصه بالحرف، أما حديثهن عن سرته والشعرات الناتئة من صدره وهو في فستان الجدة، فلم ينجحن في التقاطه رغم المحاولات الجادة التي قمن بها من وراء النوافذ المغلقة وفي انتصاف الليالي حين تطفأ جميع الأضواء وتخمد الأنفاس ولا يسمع إلا تبادل لأصداء الفاصوليا.

 

ذعرت الجدة أن تكون الفتيات وقعن في شباك اللص وأن الشيطان أغواهن به، فما هو إلا رجل وماهن إلا مراهقات لم يرين ذكوراً عدا تلك النوعية الرديئة التي تطل عليهن من تلفزيون الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى، ويتوقف البث عن تصديرها بعد منتصف الليل من كل يوم.

 

أصدرت الجدة أوامرها بحلق شعر اللص وعدم اقتراب الفتيات الكبيرات من محيطه الموجود به، فاجأ القرار ساكنات البيت. ولم يستثني حتى الطفلة ذات التسعة أعوام، المصابة بسلس البول.

 

في ذهاب الجدة الثاني للدكان، اقتربت حمالة من اللص وعضته في رقبته، لم يكن موعد العض قد حان، للتو نال حصته من طرق الأصابع بملعقة الخشب على يدي الصغير. استغرب اللص ذلك ثم أحنى رأسه الحليقة على كتفه وأغمض عينيه، هربت حمالة مسرعة لمخزن الطحين وأغلقت الباب وراءها، رأينها شقيقاتها تعدو إلى هناك وكأنها تطارد قطتهم التي تطارد فأراً من فئران الطحين، جلست هناك بين الأكياس متنهدة، ثم بكت بعينها الواحدة.

 

كانت كائناً محروماً من النطق، لكن لديها إنسان لا يظهر إلا بين أجولة الفارينا، ولا تأبه هي بالكفاح لإظهاره في عموم بيت يقتل كل ما يستطيع الوصول إليه، الأب يقتل الجميع بالخوف، الجدة تقتل الأم، الأم تقتل الفتيات، الفتيات يقتلن حمالة،حمالة تخنق قطتها وتقتل روحاً من أرواحها السبع، وتقتل القطة بستة أرواح فقط ما تعثر عليه من الفئران. وتقتل الفئران خارج المنزل مايمكنها قتله وفقاً للتسلسل.

 

اليوم صار لدى الجميع عدو واحد يشتركون في قتله، وهم بانتظار عودة الأب حفاظاً على التسلسل في تقاليدهم العائلية المرتبطة بالكون، وفي انتظار الموت، يوشك اللص أن يقضي من حملات التعذيب التي لا تخطر على قلب بشر، ماء ساخن مالح للشرب، قرص بقلامات الأظافر في الجلد، بصق في عينيه، شد أنفه وأذنيه بمشابك الغسيل القاسية. ربط بالحبال على كرسي صغير وقصير، ترك قدميه حافيتين على البلاط، وضربه على أصابعه بملعقة الخشب الطويلة وتعلم الحلاقة في شعره.

 

اشتد القلق بالجدة، فذهبت خلال يوم واحد ثلاث مرات للدكان، انتهرت حمالة الفرصة وذهبت للبصق في فم اللص، بصقت بهدوء مرتين وفي الثالثة ثبتت عينها الوحيدة بعينيه التي فتحهما بهدوء قائلاً:

 يبدو لي أنك فتاة طيبة، أطيب من رآيتهم في هذا البيت، ومع أنك لا تتكلمين لكني آشعر بأنك أرحمهم قلباً، فكي وثاقي ودعيني أرحل من النافذة، سآقبلك كرجل يقبل فتاة حسناء، وألمسك في كل مكان. حتى تلك الكتلة التي لن يقترب منك بسببها أحد.

هربت حمالة إلى أكياس الدقيق مجدداً وبكت بعينها الواحدة هناك في خفاء، مستعيدة كلمات لصهم الجميلة. وفي المساء سرقت بعض اللحظات الغافلة من الجدة ورمقته يستحم، كانت تشد وثاق يديه بحبل طويل ينتهي عند الباب حيث تنتظره هي والجده فقط، فيما تفرغ المنطقة من البنات ويوصد عليهن باب الغرفة بالمفتاح إلى أن ينهي استحمامه ويعود إلى كرسيه القصير في فستان من فساتين الجدة المليئة بالزهور.

 

بعد تأخر عودة بقر الله، ذهبت الجدة لمركز الشرطة قلقة، تريد التبليغ عن اللص، وجدت المركز فارغاً إلا من عريف كان يقف  عند الباب ويشعل سيجاراً، سألته على سبيل الافتراض فأجابها على سبيل اليقين، بأن العمل كسول جداً في القسم ولا توجد لديهم عربة لنقل اللصوص، كما أن الحادثة لابد أن تمر بتسلسل إداري طويل واليوم هو الخميس، أي أنه عمل داخلي في كل مكاتب الدولة، يلي ذلك الجمعة عطلة المسلمين ثم السبت والأحد عطلة الدولة ثم الأثنين الذي يوافق 2 مارس عيد قيام سلطة الشعب وسيكون عطلة رسمية في كامل البلاد، في النهاية من الأفضل لمن يعثر على سارق لديه أو يعثر عليه أحدهم يسرق، أن يسوي الأمر بطريقة ودية كجاري العرف، على أن يدخل في دوامة معاملات لا تنتهي بحلول عيد الاستقلال القادم.

 

عادت الجدة منكسة الرأس وفي الطريق عرجت على الدكان متسائلة: ألم يتصل بقر الله ؟

 

قال البائع :

ربما يكون اتصل وأنا لست موجوداً، اليوم تأخرت في سوق الخضار بسبب انتظاري وصول شاحنة الطماطم من جالو.
 المس التلفون قد يكون ساخناً، ربما اتصل منذ قليل.

 

ابتسم البائع وقال:

التلفون لا يسخن عندما يرن، تسخن سماعته عندما نرد.

لم تعلق الجدة، عاينت الطماطم بيديها ثم عادت إلى بيتها صامتة بكدر، قالت لها كنتها، بأنها غير موافقة على تسليم اللص للشرطة في غياب بقر الله، إن لها بيتاً مليئاً بالبنات وعندما يسمع الناس بالخبر، سيعتقدون أنه جاء من أجل واحدة منهن، فهم فقراء والناس يعلمون بألا شيء عندهم يستحق السرقة، عدا تلك المجموعة من العجول الحمراء الصغيرة. لن يخطر ببالهم حتى ولا مخزن الدقيق، الناس يرون مايريدون رؤيته فقط.

 

جمد الدم في عروق الجدة من الاستنتاج العقلاني لكنتها، وشعرت بالذنب لأنها ذهبت لمركز الشرطة دون استشارتها، أجل معها حق، إنها تدافع عن مستقبل بناتها، اللائي هن بنات بقر الله، إذا انتهى النبأ إلى الجيران ستتضرر سمعة الفتيات ولا يعود أحداً يثق بهن للزواج، عليها التفكير في مصلحة ابنها وعدم استجلاب الكوارث إلى بيته.

 

دخلت سقيفتها صامتة، ولم تنظر ذلك اليوم إلى اللص الربيط بجوارها أو تشتمه أو تطلب مساعدة الصغير في قرض لحمه، وفي المساء ظهرت عليها أعراض المرض جراء ما فكرت فيه من تعقيدات الأمر. طلبت من حمالة جر اللص للحمام ليتبول فهي لا تستطيع تحريك قدميها.

 

كان غياب ابنها دون اتصال غريباً، لكنه قد يكون اتصل والدكان مقفل ليخبرها بأنه سينطلق من جالو إلى مدينة أخرى بمجموعة وفيرة من الركاب قبل أن تحل العطلات، ربما، أما إن كان ميتاً فالموت لا يخفى نفسه أبداً مابين إجدابيا وجالو، يأتي مع شاحنات الطماطم، ويحمل الناس نبأه بشغف مثير وكأنه مناسبة للقاء الأخرين.

لا إنه ليس ميتاً بل هناك سبب مهني آخر.

في الحمام قبل اللص حمالة قبلات حارة لم تعرفها في حياتها مقابل فك وثاقه. جمدت مكانها، فتح النافذة أمامها، بكت عينها  الوحيدة، متمنية في استحالة عودته أو سقوطه مرة أخرى في بيتهم. حاولت فتح فمها ونطق شيء لأول مرة في حياتها، ظل صوتها يحاول أأآأأآ بينما شق اللص طريقة بحرص إلى سطح الجيران، عله يقابل مريم التي غامر من أجلها وأصبح لصاً في فستان العجوز جارتهم.

*****

خاص بأوكسجين


قاصة وروائية من ليبيا صدر لها العديد من الروايات والمجاميع القصصية منها: "وبر الأحصنة"" 2005، و""مضمون البرتقالي"" 2008، و""الملكة"" 2009، و""الجدة صالحة"" 2013. و""زرايب العبيد"" 2016 (ضمن القائمة القصييرة لجائزة بوكر)."