كلب أبيض مهزوم
العدد 232 | 08 حزيران 2018
شيخة حسين حليوى


نزفٌ

أعرفُ رعبه من الكلاب. رأيته في عينيه في أوّل مرّة صادفته في الشّارع. لا يهمّ إن كان ذلك قبل أن هاجمهُ كلبٌ أسود عملاق وهو في الثامنة من عمرهِ حين كوّن فكرة غريزيّة عن الخوف وعن الكلاب، أو بعد ذلك حين صارت الفكرة حقيقة مؤلمة.

مهما حاول تصنّع الشّجاعة في حضورها لم تنجح عيناه في إخفاء الرعب من كلاب الحيّ القديمة والجديدة، أنا كُنتُ أراها بوضوح وهو يُسرعُ الخطى ولا يحيد نظرهُ عن الطريق أمامهُ حتّى تصير المسافة آمنة بينه وبين الكلب، أيّ كلب، فيرفع رأسه ويعود إلى مشيته المتمهّلة.

” لو أنّه عضّني أو حتّى انتزع قطعة من لحمي لكان الأمرُ مفهوما، كنتُ فعلا سأفهم طبيعة الغريزة الحيوانيّة وأعرف كيف أتعامل معها وأتجنّبها، لكنّه لم يفعل ذلك. وقف فوقي فاتحا فمه الكهف ونظر إليّ بعينين جهنميّتين، كلّما رفعت رأسي أو تحركتُ تحتهُ يضربني بيده الضخمة على كتفي أو وجهي فأتهاوى مرّة أخرى. كان لا بدّ أن أتظاهر بالموت أو بالتحجّر، تحجّرت والتصقتُ بالشاّرع، فقدتُ الإحساس بالمكان والزّمان، لا أتذكّر متّى شعرَ تحديدا بأنّه ملّ من لعبتهِ معي فتركني ومشى متهاديّا واثقا كما يمشي…كلبٌ منتصر، نعم كما يمشي كلبٌ منتصر، لا أملكُ تشبيها آخر”

حاولتُ أن أفسّر له أنّ الكلاب ليست كلّها واحدة. لم يكن ليسمعني أو يفهمني وهو لا يتوقّف عن سرد قصّته بكلّ تفاصيلها وأنا جريحٌ طريح الأرض أتابعهُ وأتابع أنفاسي قبل الأخيرة.

” افهمني، ليس لخوفي علاقة بطفولتي الهشّة وعزلتي أو تكالب الدنيا عليّ، هو خوفٌ من أنّني صرتُ قادرا على التحجّر والالتصاق بالجدران والشوارع، حتّى أنّني كنتُ أعود أحيانا إلى البيت محمّلا بغبار المارّة في ذلك اليوم، عشرات ومئات المارّة وكلبٌ واحدٌ أسودُ عملاق يفاجئني دائما في لحظات غير متوقّعة. في هذه الحرب كما تعرف صارت الكلابُ أكثر منَ المارّة ولك أن تتخيّل كم جدارا حملتُ معي إلى البيت وكم شارعا صرته”.

كلانا كان ينزفُ في تلك اللحظة من الهدوء في الحيّ الّتي تعقبُ القصف، هو كلاما وأنا دما بفعل الشظايا التي اخترقت جسدي. خلا المكانُ من الناس الّذين هربوا إلى البيوت والملاجئ وانشغل آخرون بالبحثِ عن معارفهم تحتَ الرّكام. كان مُمدّدا بجانبي، وحينما تأكّد أنّه لم يُصب بأذى جلس بهدوء وراح يحكي لي عن خوفه من الكلاب.

بفطرتي كنتُ أعرفُ أنّه شجاعٌ لا يهابُ الموت ولا يهرب من ساحات القتال، كنتُ شاهدا ،بفعل جلوسي الدائم أمام البقالة، على مشاركته في مقدّمة المظاهرات وعلى مهارته في انتشال المصابين من البيوت وركامها، ولكنّه اختار أنّ يحدّثني عن ضعفه وخوفه، ربّما لأنّني كنتُ ضعيفا خائفا ساعتها؟

“من حظّكَ أنّك كلبٌ أبيض”.

قالها وهو ينزعُ الشظايا من بطني ويلفُّ جراحي بقميصهِ.

كنتُ سأقولُ له أنّني لم أمشِ يوما في الشّارع كما يمشي كلبٌ منتصر، كنتُ دائما كلبا مهزوما.

كلبا أبيض مهزوما.

 

صورة قديمة

بحثتُ عنها في الأحياء القريبة. بدأتُ من حيّنا ثمّ وسّعت الدائرة إلى الأحياء المُجاورة وأنا أنادي باسمها وأتبعها بتقليد مواء طويل متقطّع، مُتجاهلا نظرات الاستهجان والسخرية من أهل الحارة، خاصّة الرجال منهم.

شاب طويل عريض يبحثُ عن قطّة كمن يبحث عن طفله الوحيد، وهنا يتربّصون بالقطط كطفلٍ زائد عن الحاجة.

فكّرت أن أتّصل بحبيبتي وأسألها عن قطّتنا، ماذا سأقول لها؟ لقد أهملتُ قطّتنا فاختفت أو هربت؟ ستداهمني الذّكريات والوجع وأنا أحاول منذ أسبوعين أن أنسى وأرمّم حياتي في بيتي القديم بعيدا عنها وعن حياة تقاسمناها لأربع سنوات. ليست فكرة جيّدة، أقلّه أتجنّب صمتها في الجانب الثاني من السّماعة وتنهيدة قد تكسرني. لقد عاتبتني عيناها ونحن نفترقُ عند باب شقتنا، لم تقل سوى: هي قسمة عادلة أكثر من السنوات التي اقتسمنا فيها كلّ شيء.

ربّما قصدتْ نصيبي في قطّتنا.

أو ربما الكتب، أو المُقتنيات الكثيرة الّتي جمعناها خلال أربع سنوات.

هي قسمة عادلة؟ القطّة والذكريات العميقة الموجعة.

بعد يومين قرّرتُ أن أغامر بمزيد من السخرية والاستهجان خاصة وأنّ علاقتي بأهل الحيّ لا تتعدّى سلاما صامتا وهزّة رأس خفيفة، فلن يضرّني أن يشطبوني من قائمة الرجولة الخشنة الّتي ترمي القطط من فوق الجدران وليس تلك التي تعلّق إعلانا يرصد مكافأة جميلة لمن يتعقّب قطّة بيضاء ويعيدها إلى صاحبها سالمة غانمة.

علّقتُ إعلانا كتبتُ فيه رجاء مختصرا ووصفا لقطّتي من الذّاكرة ورقم هاتفي. حاولتُ أنْ أحيّد الوجوه والتفاصيل الأخرى من صورتها المشوّشة أصلا. لم أتوقّف لأفكّر في أمرين: كيف لا أملك بين صوري الكثيرة صورة واحدة تجمعني وقطّتي؟ أو تجمعنا حبيبتي وأنا وقطّة مدلّلة؟ لماذا هذا الإصرار على استعادتها وأنا أفعل النقيض تماما: أحاول التخلّص من إحساس الفقدان الّذي يلازمني منذُ انفصلت عن حبيبتي.

لم يتوقّف هاتفي عن الرنين، اتصالات من غرباء ومجهولين يضربون لي موعدا لتسليمي مفقوداتي ويتسلّمون مكافأتهم، صار أطفال الحيّ  أيضا يبحثون عن قطّتي،

في الصّباح تأتي مجموعة منهم تحملُ قطّة تعرضها علي بنشوة الظافر: لقد وجدناها. أنظر إليها ثمّ أعتذر منهم.

– ليست هي.

هل أنت متأكّد؟ انظر إليها جيّدا! يصرّون.

لا ليست هي.

لا تشبه تلك الّتي أبحثُ عنها.

بعد أسبوع من البحث والانتظار فكّرت أنّه من غير المُجدي أن أتركَ الإعلان معلّقا على خمسة جدران وشجرتيْن، رغم أنّ وتيرة الاتصالات قد خفّت وتراجعت، والقطط التي حملوها إلى باب بيتي عادت بخيبتهم وخيبتها.

ثمّ أنّه من المُضحك أن أعلّق إعلانا ليس فيه صورة تدلّ على أوصاف القطّة، ستصير كل قطط الشارع احتمالا معقولا.

وقفتُ أمام الإعلان الأوّل وقبل أن تسارع يدي إلى تمزيقه كانت صورة واضحة تطلُّ منه، صورة طفل يبتسم ملأ وجهه وهو يحضنُ قطّة بيضاء وتحضنهما معا يدان ناعمتان.

يبدو أنّ هناك من يلعب معي أو بي، وربّما هي مجرّد مزحة من عابر سبيل.

في الإعلان الثاني كانت الصورة نفسها تطلُّ عليّ.

وفي الثالث أيضا.

أمام الإعلان الخامس وقفتُ حائرا، هل ارتفع الجدار عن مستوى يدي أم أنّ قامتي قد تقلّصت؟ وقفتُ على أصابع قدميّ تطاولتُ وتطاولتُ وبأطراف يدي نزعتُ الإعلان. تفحّصته ثمّ قصصتُ الصورة منه وطويتها بحرصٍ في جيب قميصي، إنّها الصورة الوحيدة الّتي تظهر فيها يدا أمّي وكم قميصها، وخاتمها أيضا وعنقها.

القطّة البيضاء الّتي هربت من البيت بعد رحيل أمّي بيومين.

قبل عشرين عاما.

___________________________________

القصتان من مجموعة قصصية للكاتبة بعنوان “الطلبية C345” صدرت أخيراً عن “منشورات المتوسط”.

*****

خاص بأوكسجين


كاتبة من فلسطين. من اصداراتها القصصية "سيّدات العتمة""، و""النوافذ كُتب رديئة""، و ""الطلبية C345""، ومجموعة شعرية بعنوان ""خارج الفصول تعلّمتُ الطيران""."