قضاء الحاجة
العدد 253 | 29 آذار 2020
عائشة كاي


كان يقضي حاجته في ركن خشبي وراء السور. كلّما عادت به الذاكرة إلى الطفولة وجد نفسه عائداً من ذلك السور إلى باب المطبخ الخلفي، حيث توصيه أمه أن يغسل يديه استعداداً لتناول الغداء. هناك لحظة مثالية تسطع فيها الألوان على يومه، تلك التي يهب فيها النسيم ناعماً على وجهه المبتل، ويسابق بخار الكبسة رغوة الصابون آخذاً بيده إلى داخل البيت.  تحنو الشمس بشكل استثنائي في هذا الوقت من اليوم. الديوك في القرية تغفو، تهبط ريوش الحمام على أضلع النخيل، وتدير القطط آذانها ناحية الأرض. يتربع هو وعائلته في وسط الدار بأطباق تزهو بصدور الدجاج، وكؤوس تفيض باللبن. 

 

دائما بين البيت وقضاء الحاجة سور…

 

يكاد لا يتذكر شيئاً عن ماضيه إلا عبورًا بذلك السور. صباحات المدرسة الموحشة. أحلام منتصف الليل. أيام الامتحانات. طلعات الشباب. الخوف من أبيه. الاختباء عن أخيه. الاختلاء بكتاب لا يجد مكاناً آخر لقراءته وكلما توسعت العائلة، والبيوت من حولها، زادت أركان قضاء الحاجة وراء السور.

 

حتى كان عام ظهرت فيه نبتة في مكان قضاء حاجته. كانت خضراء، بأوراق ناصعة. سأل أمه عنها، فنهرته. “ما يحدث وراء السور، نتركه وراء السور.” لكن النبتة التي كانت صغيرة توسعت إلى شجيرات، والمكان الذي يقضي فيه الحاجة صار يضيق به. عندما بدأت الشجيرات في حمل وإسقاط الثمر، اشتكى إلى والده. بدوره فاتح والده الجيران فتبين أنهم يشتكون من نفس الضائقة ولا يعرفون لها حلا. شجر أثمر حيث ينبغي أن يقضي المرء حاجته، ماذا يفعلون به؟ فلا هم يقدرون على اجتثاث جذوره ولا هم يستطيبون ثمره. 

 

نصب رجال الحارة سوراً بديلاً على الناحية الأخرى من الحارة، وبنوا أركاناً جديدة لهم ولأبنائهم يقضون حاجاتهم خلفها. تغيير الوجهة أربكه بعض الشيء. صار حين يترك بيته يذهب إلى الشرق بدلاً من الغرب، ويمشي ضعف المسافة التي كان يمشيها من قبل.  لكنه اعتاد ذلك سريعاً. اعتاد كذلك أن يذهب إلى السور ويعود منه ثابت الخطى، رافعا رأسه.  يسلم على جاره إذا صادفه متجهاً إلى السور في الوقت نفسه، ويتمنى له السلامة قبل أن يفترقا. يصب الماء على رأسه إذا اشتدت الشمس، ويتلفع بعباءة الصوف إذا حل الشتاء.  وعندما تستجد مشكلة الشجر فيثمر حيث يقضون الحاجة، ينصب مع جيرانه سوراً بديلاً.

 

أما الآن فهو يقضي حاجته في بيته. جيرانه، هم أيضاً يقضون حاجتهم في بيوتهم. مدينة كاملة من بيوت تقضي حاجتها داخل الأسوار. “ما يحدث داخل السور، يبقى داخل السور.” يقول لأبنائه. لكن المواسير التي تجري تحت الأرض تفيض عن طاقتها أحياناً فتلفظ حاجاتهم إلى الشوارع والطرقات. وأحياناً، تهاجر إلى أماكن بعيدة جداً، وتنبت بهدوء شديد على السطح.

*****

خاص بأوكسجين


ممثلة وكاتبة سعودية مقيمة في كندا.