قصة حب شرقية
العدد 208 | 19 آذار 2017
هيثم عبد الشافي


كان يدخل الحصة على رأسه شال ملون، وأيام كثيرة كان يستبدله بكوفية غريبة يلفها حول رأسه على طريقة الرفاعية، وهؤلاء كانوا يمشون في شوارع البلد ويقولون نحن رفاعية ونقسم على الثعابين فنخرجها وديعة هادئة وآمنة، وأمي قالت مرة لواحد منهم في وجهه أنت نصاب، فجر حماره وأخرج 3 حيات من بيت جارتنا..! أما حكاية الشال الملون كنت أحسبها في البداية جمالا ربنا خص به أستاذ الموسيقى وحده، وقلت إن الله يحب العازفين أكثر، حتى كوفية الرفاعية وسجائره السوبر وعلبة التبغ في آخر الشهر رسمتها لأستاذ أنيس في حصة الفن ولم يعرفها، وكتبت عن المزيكا في موضوع التعبير وعاقبني مدرس العربي لأنه أزهري.

المدرسة كلها حتى الآن لا تعرف الموسيقى، لم أجرب يوما إحساس النشيد الوطني المعزوف أو قلت مرة للشمس خلف العلم إني أحب وطني في تحية الصباح.. كانت هموم الحساب والنحو أثقل من حقيبتي في يوم مشحون بـ7 حصص كاملة، وخيبتي كانت كبيرة لما سمعت أحدهم في الفسحة يحلف برحمة أمه أن مدرس الدين يحبس الآلات الموسيقية كلها في مخزن الكُهنة، وأن الناظر وافقه فقط خوفا من غضب الله، وسألته هل الكاسيت الكبير في بيتنا يضايق ربنا، فسكت، وقلت له أنت تصدق أن وردة ونجاة وقنديل سيدخلون أبي النار، لم يرد، واستحلفته برحمة أمه يجاوبني إن كانت حفلات سليم سحاب حراما فسألني: “مطرب جديد ده”..!

كلمة مخزن في مدرستنا كانت لينة وسهلة، وكنا نطلقها على كل الغرف المغلقة، معمل العلوم، المكتبة، غرفة الأدوات الرياضية، وراقبتها كلها بصراحة، كل يوم كنت أذهب إليها وأضع أذني على الباب طويلا، كان في بالي أن مدرس الدين يدخل في الفسحة يعاقبها مثلا، أو سأسمعها مرة تطلب مني أن أنقذها من التراب وأفتح لها الشبابيك قليلا، لكن تقريبا كان يحبسها في صندوق كبير، وربما قطع أوتار العود وكسر النايات وأصابع البيانو.

يومها لم أجد إلا مدرس الموسيقى، وقلت بالتأكيد سينهار لو عرف بفعلة مدرس الدين، وإن لم يضربه سيحبسه على الأقل في نفس المخزن أسبوعا كاملا، وقلت له أنا عرفت أين يحبسون آلاتك الموسيقية، فسألني في دهشة: يا راجل.. طيب والرقاصة فين؟، ووقفت أمام السبورة 40 دقيقية كاملة، وقطع كتاب الموسيقى أمام عيني، وسب كل المطربين والعازفين، ونصحني بترك المدرسة واللف في الموالد والأفراح، وإن سألني أحد ماذا ستكون في المستقبل أقول له “طبال”.

تخيل في اليوم نفسه نفذت كلامه بالحرف، وهربت من المدرسة ومعي آخر 20 صفحة من كتاب الموسيقى، ووقفت أمام مرآة الحمام وقلت لنفسي أنت موسيقار كبير وكلام المدرسين لا يقدم ولا يؤخر، وحضنت الكاسيت الكبير، وسمعت أغنيتن لوردة ونجاة، وقلدت سليم سحاب أمام التليفزيون، وضربتني أمي وقلت لا يهم.

وفي الليل عرفت أن فرقة موسيقية من المنصورة ستبهر القرية كلها في فرح جارنا، وذهبت لأم العريس وسلمت على جدته ووقفت مع أبيه نستقبل المعازيم، وحضرت الفرقة، وكنت أنا أول طفل يقف أمام الميكروباص الأبيض الكبير، أول طفل في بلدنا رأى حقائبهم السوداء أنا، كلها كانت جلدا، هذه طويلة وأخرى مربعة وثالثة دائرية، وآآآآه لو رأيت شنطة الأورج، أنا لمستها 4 مرات في الزحمة، وسلمت على العازفين مرتين.. كنت أتخيلهم كلهم سليم سحاب، لكن وجدت النياتي يرتدي شالا ملونا، أيضا، وعازف الكمان يلبس طاقية صوف، حتى المطرب لم يختر إلا السوبر ويدخنها، الطبال فقط كان يرتدي قميصا أزرق مفتوحا، وشعره ناعم ولا يدخن أصلا.

عجبتني الكمنجة، حقيبتها من البداية كانت تقول إنها مختلفة ومميزة، وتركت العالم كله وجلست خلف العازف، مرة يطلب شاي، وفي ثانية واحدة يكون أمامه، عشرين مرة طلب مياه وأحضرتها، وآخر الليل سألني عن الحمام وأخذته لأبعد مسجد في البلد، وفي الطريق ألفت له حكاية عن عشقي للكمنجة، وكيف علمني والدي العزف، وأول مرة التقيت فيها سليم سحاب، حكاية طويلة أنا أسميها كذبة بيضاء أبهرت الرجل وجعلته يطلب مني أن أجلس مكانه وأعزف تقسيمتين أو ثلاثة حتى ينتهي من حمامه، وجلست على الكرسي مثله تماما، وقلت أضبط المفاتيح فقطعت وترا، لكن حضنتها وعرفت كل ذنوب أستاذ الموسيقى، ولعنت مدارسنا البعيدة ومخازنها المغلقة وقساوة مدرس الدين، وتركتها تبكي في يد صاحبها.

لن أشتري لك جيتارا من محلات “آخر العنقود”، كلها لعب أطفال، ولن أرضى إلا بعود له وجه ورقبة وأوتار في أول صورة لك مع آلة موسيقية، أنتظر فقط عامك الخامس وإلى أن يأتي سنزور نصير شمة في بيته، ونعرف كيف يعزف “أنت عمري” بيد واحدة، وكم تلميذ علمه “قصة حب شرقية”، وسنسمع كل مقطوعات حازم شاهين وإسلام القصبجي ومحمد أبو ذكرى على يوتيوب، وستبهر أستاذك في الدرس السادس وأنت تعزف البيات وتدخل عليه العجم، وسأصفق لك في السحب والتقطيع، وأقول: الله ابني أصغر موهبة مسكت الريشة.

*****

خاص باوكسجين

 


قاص وصحافي من مصر.