فصل من رواية “بائع الحليب”
العدد 237 | 05 تشرين الثاني 2018
آنا بيرنز


فيما يلي محاولة لترجمة الفصل الأول من “بائع الحليب” الفائزة بجائزة البوكر لهذا العام، ولعل الانجليزية المكتوبة بها ستجعل من أي ترجمة محاولة، لكنها ضرورية وملحة وما تسرده هذه الرواية مقاربة معمّقة لحياة البشر في المجتمعات المغلقة المنكوبة بحرب أهلية، ولعل عمقها آت من التقاطها كل ما يطفو على السطح:

في اليوم الذي وضع فيه أحدهم ابن أحدهم فوهة مسدسه بصدري وناداني بالقطة مهدداً بإطلاق النار عليّ مات بائع الحليب. أُردي قتيلاً على أيدي فصيل حكومي ولم آبه بمقتل هذا الرجل. اهتم لأمره البعض، ومنهم من كان يعرفني من هيئتي ولم يبادلني كلمة واحدة، كما يقال، وقد كنت على ألسنتهم لأنهم أطلقوا الشائعات، أو أنه صهري على الأرجح من أطلقها، ومفادها بأنني كنت على علاقة مع بائع الحليب هذا، وأنا في التاسعة عشرة من عمري وهو في الحادية والأربعين. عرفت عمره، ليس لأنه أردي قتيلاً وبالتالي أوردت وسائل الإعلام ذلك، بل لأن حديثاً دار بين مطلقي الشائعات، قبل أشهر على حادثة إطلاق النار، بأن الفارق العمري بين الحادي والأربعين والتاسعة عشرة شيء مقزز، وأن ثلاثاً وعشرين سنة أمر مقزز، وأنه كان متزوجاً وليس وارداً أن أغرر به ذلك أن بعضاً من الهادئين والمتواريين ساهموا أيضاً بتتبع الأمر. وبدت تلك العلاقة مع بائع الحليب خطأي أنا. إلا أنني لم أكن على علاقة ببائع الحليب. لم يعجبني وكنت خائفة ومضطربة جراء ملاحقته ومحاولته إقامة علاقة معي. لم أعجب في المقام الأول حتى بصهري، فقد كان ميالاً بقوة لإثارة أمور متعلقة بحياة الآخرين الجنسية، وحياتي الجنسية. حين كنت أصغر، في الثانية عشرة من عمري، ظهر في حياة أختي الكبرى بُعيد انفصالها عن حبيبها الذي أمضت معه علاقة طويلة وهجرته جراء خيانته لها، ولتحبل من هذا الرجل الجديد ويتزوجها في الحال.  أبدى في اللحظة الأولى التي التقاني بها تعليقات داعرة متعلقة بي وموجهة إليّ – عن شكلي، وذيلي، وبلدي، وصندوقي، ومرطباني، وتناقضاتي، وكلماتي المقتضبة – مستخدماً الكلمات، كلمات جنسية، لم أفهمها. عرف بأنني لم أفهمها لكنني أدركت بالقدر الكافي لالتقاط أنها جنسية، وكان ذلك كفيلاً بإسعاده. كان في الخامسة والثلاثين. أنا في الثانية عشرة وهو في الخامسة والثلاثين. كان هذا أيضاً فارقاً عمرياً قدره ثلاثاً وعشرين سنة.

أبدى ملاحظاته وأحسّ بأنه مؤهل لإطلاقها وأنا بدوري لم أتكلم لأنني لم أعرف كيفية الإجابة على هذا الشخص. لم يعلّق قط في وجود أختي في الغرفة. دائماً، ومتى غادرت الغرفة، فإن تبدلاً يطرأ عليه وعلى دواخله. وعلاوة على ذلك، فإنني ما كنت خائفة منه بالمعنى الفيزيولوجي. كان العنف في تلك الأيام وفي ذاك المكان، المعيار الرئيس لدى الجميع للحكم على من حولهم وتبينت في الحال بأنه لا يحتكم عليه، وأنه آت من خارج ذاك المنظور. ويضاف إلى ذلك أن طبيعته البذيئة كانت تدفعني في كل مرة إلى أن أتجمد. لقد كان قطعة من القذارة وكانت (أختي) مستاءة من حملها، ومن حبها لذاك الرجل الذي أمضت معه زمناً طويلاً غير مصدّقة لما قام به، وأنه لا يشتاقها، وقد كان كذلك بحق. إنه بعيد الآن مع امرأة أخرى، وهي ما عادت ترى هذا الرجل هنا، الرجل الذي يكبرها وستتزوجه وقد كانت هي نفسها صغيرة، شديدة التعاسة، وغارقة بحب رجل آخر يحول بينها وبين قبوله. توقفت عن زيارتها رغم حزنها إذ ما عدت قادرة على احتمال كلماته وتعابير وجهه. مضت ست سنوات، وهو يشق طريقه من خلالي وأخواتي الأكبر مني، عبرنا نحن الثلاثة – رافضين له على نحو مباشر أو غير مباشر، بتهذيب، ببذاءة، كما هو بائع الحليب الذي اقتحم حياتنا إلا أن هذا الأخير كان مخيفاً أكثر، وأشد خطورة، خرج علينا من حيث لا ندري ودخل المشهد.

لم أكن أعرف من هو بائع الحليب هذا. لم يكن هو من يبيعنا الحليب، ولا باع أحدنا. ما كان يتلقى طلبات بتوزيع الحليب. لم يكن الحليب على علاقة به. لم يسلّم الحليب قط، ولم يكن يقود سيارة توصيل الحليب. كان يقود السيارات بدلاً عن تلك، سيارات متعددة، سيارات سريعة غالباً، مع أنه لم يكن سريعاً. ومن بين هذا، فإنني لاحظته وسياراته حين صار يستقلها أمامي. ثم كانت تلك الشاحنة الصغيرة، البيضاء، المتحولة، مجهولة النوع. وبين الفينة والأخرى كان يظهر وهو يقود تلك الشاحنة.

ظهر في أحد الأيام، وهو يقود واحدة من سياراته بينما كنت أتمشى وأنا أقرأ “ايفانهو”. لقد درجت على قراءة الكتب وأنا أمشي. لم أكن لأرى شيئاً خاطئاً في ذلك إلا أنه تحول إلى دليل إضافي ضدي. “القراءة أثناء المشي” لقد ورد ذلك في القائمة.

“أنت من تلك الفتيات ..، أليس كذلك؟ وكان والدك فلان الفلاني، أليس كذلك؟ إخوتك، من كانوا، من كانوا، من كانوا، أولئك الذين يلعبون الهارلي، أليسوا كذلك؟ اصعدي. سأوصلك.”

قيل ذلك بتلقائية، بينما باب المقعد الجانبي يُفتح. انتزعت هلعة من قراءتي. لم أسمع هدير محرك السيارة. لم أر حتى هذا الرجل خلف مقودها. كان منحنياً، ينظر إلي، ودوداً ومبتسماً حريصاً على أن يبدو دمثاً. لكن الآن. في التاسعة عشرة من عمري، “ودّ وابتسام ودماثة” تزيد من احساسي بالخطر. لم تكن التوصيلة بحد ذاتها، فغالباً ما يتوقف أصحاب السيارات ويقدمون خدماتهم لتوصيل الذاهبين من هذه المنطقة أو للعائدين إليها. لم تكن السيارات بتلك الوفرة حينها، والمواصلات العامة تتعطل جراء السيارات المفخخة وعمليات الخطف. ما كان “تصيد النساء بالسيارات البطيئة”[1] مصطلحاً متداولاً بل ممارسة متبعة. لم أكن بالتأكيد قد تعرضت لذلك. على كل حال، لم أرد تلك التوصيلة. تحديداً، لم أكن أريد أن أستقل السيارة مع هذا الرجل. ما عرفت كيف أعبّر عن ذلك، فهو لم يكن وقحاً ويعرف عائلتي وسمّى ما يثبت ذلك، أي أسماء أفرادها من الذكور، لم أستطع أن أكون وقحة لأنه لم يكن كذلك. وهكذا فإنني ترددت أو تجمدت، وقد كان ذلك من الفظاظة بمكان. قلت “أنا أتمشى”. “أقرأ” قلت، ورفعت الكتاب، كما لو أن “ايفانهو” يوضح مشيي، حاجتي للمشي. “تستطيعين القراءة في السيارة،” قال، و لا أتذكر كيف أجبت على ذلك. ضحك في النهاية وقال “ما من مشكلة. لا تقلقي. استمتعي بكتابك،” وأوصد باب السيارة ومضى.

هذا كل ما حدث في المرة الأولى – وفي الحال انطلقت الشائعات. جاءت أختي الكبرى لتراني، لأن زوجها، صهري البالغ من العمر واحداً وأربعين سنة الآن، أرسلها لتراني. لقد جاءت لتبلغني وتحذرني. قالت إنني شوهدت أتكلم مع ذلك الرجل.

“روحي انتاكي،” قلت. “ماذا تعني – شوهدت؟ من كان يراني؟ هل هو زوجك؟”

“الأفضل أن تنصتي إليّ،” قالت. لكنني لم أنصت – بسببه هو ومعاييره المزدوجة، ولأنها تتحملها. لم أكن أعرف بأنني كنت ألومها، وأنني ألومها على تعليقاته طويلة الأمد التي وجهها إلي. لم أعرف بأنني ألومها هي على زواجها منه وهي لا تحبه ولا حتى تحترمه ربما، إذ لابد أنها عرفت، وكيف لها ألا تكون قد عرفت، بما احتكم عليه من مراوغة وتلاعب.

أصرّت على نصحي بأن أقوّم سلوكي، بتحذيري من أنني لن أُكسب شيئاً، وأن كل الرجال الذين سأخرج معهم في كفة – وهذا في كفة أخرى . بت حانقة ولاعنة لأنها لا تحب أن تُلعن وكان هذا السبيل الوحيد لإخراجها من الغرفة. ومن ثم أتبعتها بصراخي من النافذة بأن على ذلك الرعديد أن يأتي بنفسه ويقول لي ما يود قوله. كان ذلك خطأً: أن أكون منفعلة، أن أظهر انفعالي، وأصرخ من النافذة، باتجاه الشارع، متيحة لنفسي أن تنجرف على هذا النحو. عادة ما أمتنع عن الوقوع بذلك. لكنني كنت غاضبة. كنت حانقة عليها كثيراً، لكونها صارت زوجة خانعة، ولأنه تنفذ ما يريد لها أن تفعله بحذافيره، ولأنها سعت أن تلقي بحقارته عليّ. أدركت عندي، واستيقظت لدي عبارة “اهتمي بشؤونك”. ولسوء الحظ ما أن حدث ذلك، حتى انحرفت، رافضة التعلم من تجربتي وأنا أجرح أنفي نكاية بوجهي[2]، كما هو الحال مع الشائعات التي راجت عني وبائع الحليب، التي استبعدتها من دون أن أتحراها، فالاجتياحات العارمة لم تستثن أحدا في المنطقة. تمتد الشائعات، وتنحسر، تأتي، وتذهب، وتمضي إلى الهدف التالي، وعليه لم ألقِ بالاً لعلاقة الحب هذه مع بائع الحليب. ثم إنه ظهر مجدداً – هذه المرة كان على قدميه بينما كنت أركض في حدائق خزانات المياه.

كنت وحيدة لا أقرأ في هذه المرة، لكوني لا أقرأ أبداً وأنا أركض، وها هو خارج عليّ من حيث لا أدري مقلداً خطواتي وهو إلى جانبي حيث لم يكن من قبل، وفجأة أصبحنا نركض سوية كما لو أننا درجنا على الركض سوية وأمسيت خائفة من جديد، وليصبح الخوف سمة كل مرة صادفت فيها هذا الرجل، ما عدا الأخيرة. لم يتكلم في البداية، ولم يكن بمقدوري الكلام. ثم إنه تكلّم وكان حديثاً وجيزاً، ليكون ما بيننا على الدوام حديثاً وجيزاً. كانت كلمات قليلة ومتعبة جراء ركضي، تتناول مكان عملي. يعرف عملي – أين يقع، ما أفعله هناك، الساعات، الأيام، وحافلة الثامنة وعشرين دقيقة التي أستقلها كل صباح لتأخذني إلى البلدة وإلى العمل قبل أن يتم اختطافها. كما أفصح عن أنني لا أستقلها لدى عودتي إلى البيت. هذا صحيح. ففي كل يوم من أيام الأسبوع، ممطراً كان أم مشمساً، برشقات من الرصاص أو القنابل، أثناء الصدامات أو المظاهرات، فإنني أفضّل العودة إلى البيت مشياً وأنا أقرأ أحدث كتاب لدي. كان كتاباً من القرن التاسع عشر لأنني لا أحب القرن العشرين ولا كتبه. أعتقد الآن، وأنا أستعيد ذلك، بأن بائع الحليب كان يعرف كل ذلك أيضاً.

قال كلماته بينما كنا نمضي سوية إلى أعلى نقطة من الخزان. ثمة خزان صغير إلى جانب الساحة المخصصة لألعاب الأطفال في أخفض نقطة. كان ينظر أمامه، هذا الرجل، وهو يكلمني، من دون أن ينظر إلي ولو لمرة. لم يسألني سؤالاً واحداً متعلقاً بي أثناء هذا اللقاء الثاني، ولم يبد راغباً بأية استجابة، وإن لم أكن قادرة على ذلك، فقد كنت ما زلت في الجزء المتعلق بالتساؤل “من أين جاء؟”، ولماذا أيضاً يتصرف كما لو أنه يعرفني، كما لو أننا نعرف بعضنا البعض، بينما كنا لا نعرف بعضنا البعض؟ لماذا يفترض بأنني لا أمانع أن يكون إلى جانبي بينما أنا أمانع أن يكون إلى جانبي؟ لماذا لم أوقف هذا الركض وقلت له أن يتركني وشأني؟ بعيداً عن “من أين جاء؟”، فإن هذه الأفكار لم تراودني إلا لاحقاً، وليس بعد ساعة على ذلك، بل أقصد بعد عشرين سنة. في تلك الفترة، حين كنت في التاسعة عشرة، وقد ترعرعت في مجتمع عاصف حكمته على الأرض قواعد – إن لم تتعرض لعنف جسدي، و لم تطالك إهانة لفظية بالغة، ونظرات معنّفة موجهة نحوك، فإن شيئاً لم يحدث لك، فكيف إذن تكون عرضة للهجوم من شيء لا وجود له؟ ما كنت في التاسعة عشرة من عمري على قدر كاف من الفهم للسبل التي يتأتى منها التعدي. لدي إحساس به، حدس، إحساس بالنفور من بعض المواقف والناس، لكنني لم أعرف بأن الحدس والنفور مما يعتد به، ولا أن لدي الحق بألا أُعجب، وألا أتقبل جميع و أي أحد يتقرب إلي. أفضل ما كنت أتدبر القيام به في تلك الأيام هو الأمل بأن يسارع الشخص المعني ويقول ما يعتبره أو تعتبره ودوداً ولطيفاً، وليمضوا بعدئذٍ، أو أن أمضي أنا، بمنتهى التهذيب والسرعة، في اللحظة التي أستطيع.

عرفت في اللقاء الثاني أن بائع الحليب منجذب إلي، وأنه يبادر ببعض الخطوات نحوي. لم أعجب بانجذابه إلي ولم أكن أبادله الشعور نفسه.  وهو لم يتلفظ بكلمة توحي بإعجابه. وما سألني شيئاً أيضاً. ولم يلامس جسدي. ولم ينظر إلي ولو لمرة واحدة في لقائنا الثاني. إضافة لكونه أكبر مني، أكبر بكثير، وبت أتساءل ما إذا كنت مخطئة، وأن الأمر ليس كما تخيلت. كانتا حديقتين كبيرتين مندمجتان ببعضهما البعض نهاراً، وبيئة مشؤومة ليلاً، رغم أنها كذلك أثناء النهار. لا يحب الناس الإقرار بالشؤم أثناء النهار لأنهم رغبوا بمكان واحد على الأقل يقصدونه. لم أكن مالكة تلك المقاطعة وبالتالي كان يحق لي الركض فيها كما يحق له ذلك، كما هو إحساس الأطفال في السبعينيات بأنهم مخولون بشرب الكحول فيها، تماماً مثلما باتوا يسوغون تنشقهم غرائهم فيها وقد أمسوا أكبر سناً لاحقاً في الثمانينيات، كذا وهم  يقصدونها كباراً في التسعينيات ليحقنوا أنفسهم بالهرويين، وصولاً إلى الحاضر حيث القوات الحكومية متوارية فيها بغية تصوير مناهضي الحكومة. يصورون المناهضين المعروفين والمجهولين على حد سواء، وكان هذا ما حصل حينها. سُمِعت “كليك” عندما مررنا راكضين أنا وبائع الحليب بجانب حرش درجت على المرور به مراراً من دون أن يخرج عنها أي “كليك”. علمت بأن ذلك حصل  بسبب بائع الحليب وتورطه، وأقصد بـ “تورط” ارتباطه، و”ارتباط” تعني النشاط الثوري، و”النشاط الثوري” المعادي للحكومة الرافض لها نظراً للوضع السياسي السائد في هذا المكان. وهكذا أصبحت متواجدة في ملف وصورة في مكان ما، بوصفي مجهولة، والآن أصبحت معروفة من خلاله. لم يشر بائع الحليب إلى تلك “الكليك” مع أنه من المستحيل ألا يكون قد سمعها. تعاملت مع ذلك بمسارعة خطواتي على أن أنهي هذا الركض، كما أنني تظاهرت بأنني لم أسمع تلك “الكليك”.

أبطأ من الركض تدريجياً، إلى أن أمسينا نمشي. لم يكن ذلك لكونه ليس رياضياً بل لأنه ليس عدّاء. لم يكن مهتماً بالركض. لم أره يوماً يركض أو يشرع فيه في المرات الكثيرة التي ركضت فيها حول الخزانات. كل ركضه كان بسببي. ضمّنه اضطرابه، وأبطأ الركض بسبب اضطرابه وبسببي، إذ لم يكن ذلك مشياً تخلل الركض. لا أستطيع قول ذلك، إذ ما كنت رياضية أكثر من هذا الرجل، ولم يكن بمقدوري أن أكون أكثر معرفة منه ببرنامجي، لأن تمارين الذكور والإناث هنا لن تسمح بذلك أبداً. إنها مقاطعة أنا ذكر وأنت أنثى. هذا ما كان يمكن قوله لفتى إن كنت فتاة، أو لرجل إن كنت امرأة، أو فتاة لرجل، وما لا تقوله – مخافة ألا يكون على نحو رسمي، مخافة ألا يكون على الملأ، مخافة ألا يكون مسموحاً قول ذلك. ثمة فتيات كن لا يستسغن الاعتقاد بأنهن لسن مختلفات عن الذكور، ولا يقررن بتفوق الذكر،  ويمضين أبعد من ذلك بأن يكن نقيض الذكر، أنثى مشاكسة، جنس متغطرس وشديدات الثقة بأنفسهن. لم يكن كل الذكور والرجال هكذا، وإن كانوا أشبه بذلك. بعضهن كن يضحكن ويجدن بالرجل المهان أمراً طريفاً. يروق لي من هو شبه حبيب من بين كثر مثله. كان يقول ضاحكاً، “ها أنا عندك. لا بأس بذلك، هل هذا سيء؟” حين أذكر من أعرفهم من الفتية أدرك من يحتقر من إلا أنهم مجتمعين على غضبهم من صوت بربارا سترايزون الجهوري، وحانقون على سيغورني ويفر لقتلها ذاك المخلوق في الفيلم الجديد الذي لا يتمكن أي من الرجال فيه من قتله؛ لهم أن يستجيبوا لكيت بوش لكونها أشبه بالقطة، القطط لأنهن أشبه بالإناث، مع أن القطط وجدن ميتات ومشوهات في شتى أرجاء هذا المكان لدرجة لم يبق منها إلا القليل. وعوضاً عن ذلك انتهى بي المطاف بفريدي ميركوري الذي ما زال محط إعجاب طالما جرى نفي أي جاذبية يتحلى بها شرط أن أنفي عنه أية جاذبية، يمتاز بها شبه الحبيب الذي يجهز ركوة القهوة – وحده هو وصديقه، شيف، لديهما ركوة قهوة من بين كل من أعرفهم – يتمجلس ويمضي في الضحك معيداً الكرة.

كان هذا “شِبه الحبيب الذي استمرت علاقتي به تقريب السنة”، والذي درجت على لقائه في ليالي الثلاثاء، مرة ومجدداً في ليالي الخميس، في معظم ليالي الجمعة ويوم السبت، ومن ثم كل ليالي السبت ويوم الأحد. بدت تلك مواعدة ثابتة في أحايين كثيرة، وفي مرات أخرى ما كانت مواعدة قط. البعض ممن في الجوار رآنا ثنائياً مناسباً، رغم أن الغالبية رأوا فينا ثنائياً ليس فيهما من الثنائي بشيء، من نمط من يلتقيان بانتظام من دون أن يكونا مؤهلين لإنجاز اقتران ناجح جراء ذلك. وددت لو كان لدي اقتران جيد وأن أواعد رسمياً وأقول ذلك في وقت ما، إلا أن شبه الحبيب قال لا، وأن ذلك ليس صحيحاً، وأن عليّ أن أنسى وله أن يذكرني بذلك. قال ذلك حين حاولنا – رغم كونه الفتى الذي أحب وأنا الفتاة التي يحب، أثناء لقائنا وترتيباتنا الانتقال جزئياً، كما يفعل ثنائي متناغم، نحو المقبل. قال إنني أصبحت غريبة الأطوار. وهو قال أيضاً إنه أصبح غريباً، لكنه لم ير هذا القدر من الخوف لدي من قبل. تذكرت على نحو مبهم، بينما كان يتكلم شيئاً مما يحاول استعادته. جزء آخر مني كان يفكّر أيضاً فيما إذا كان يختلق ذلك؟ قال إنه يقترح، كرمى لكل ما هو بيننا، أن ننفصل كحبيب وحبيبة، وأن ذلك، برأيه، كان على كل الأحوال من جهتي فقط وأنا أسعى لـ “الحديث عن المشاعر”، ما كان يثير أعصابي حين كنا نفعل، ونرفزني حينها، لكوني أتحدث عن المشاعر بأقل مما يفعل هو، ولم يكن عليّ أن أصدق أياً من ذلك. ثم إنه اقترح أن نعود إلى “المنطقة الملتبسة” بين أن نكون على علاقة حب أم لا. وهذا ما فعلناه وقال هو تمالكي نفسكِ وهو بدوره تمالك نفسه.

أما بالنسبة للمقاطعة “الذكر والأنثى” الرسمية، وما بمقدور الإناث قوله وما هو ممنوع عليهم بتاتاً، فإنني لم أقل شيئاً حين كبح بائع الحليب ركضي، وأبطأه، ثم أوقفه. مجدداً، ومخافة أن أبدو متعمدة ذلك، فإنني لم أتواقح وأواصل الركض، ذلك أنه لم يكن وقحاً، لا بل تركت له أن يُبطئ خطواتي، تركت ذلك لهذا الرجل الذي ما أردته بجانبي، وفي تلك اللحظة قال شيئاً عن مشيي الطويل حين لا أكون أركض وكانت تلك كلمات تمنيت بأنه لم ينطق بها أو لم أسمعها أبداً. قال بأنه كان مهتماً، ولم يكن متأكداً، وهو أثناء كل ذلك لم ينظر إليّ. “الكثير من الركض والكثير من المشي.” هذا ما قاله، ولم يضف كلمة أخرى، توجه عند الزاوية إلى حواف الحدائق واختفى. كما في المرة الأخيرة حين كان في السيارة السريعة، هذه المرة أيضاً – بظهور مفاجئ، وتقرب، واستنتاج، و”كليك” الكاميرا، وحكمه على ركضي ومشيي ومن ثم اختفاؤه المفاجئ مجدداً – ساد الاضطراب، هيمن ما له أن يكون ذهولاً. بدا ذلك صدمة، صدمة متأتية مما لابد له أن يكون صغيراً، عديم الأهمية، لا بل عادياً بالقدر الذي لا يجعله صادماً حقيقة. وجراء ذلك، استغرقت ساعات بعد عودتي إلى البيت حتى تذكرت بأنه يعرف عن عملي. لم أتذكر كيف عدت إلى البيت أيضاً، ذلك إنني حاولت معاودة الركض بعد أن مضى، محاولةً استئناف برنامجي، للتظاهر بأنه لم يحضر أو أن حضوره لم يعنِ شيئاً على الأقل. بعدئذٍ، ولأنني مشتتة، مضطربة، وكاذبة، انزلقت قدمي حين داست أوراقاً لامعة لفظتها مجلة مفككة. كانت صفحة مزدوجة احتلتها امرأة بشعر أسود طويل جامح ترتدي جوارب بحمّالات، وشيء آخر أسود ومخرّم. كانت تبتسم لي، مستندة إلى الحائط في لقطة مقرّبة، حين انزلقت وفقدت توازني، رأيت الكلام القليل حولها بينما كنت أسقط أرضاً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] Kerb-crawling

[2]  Cutting off the nose to spite the face تعبيرمرتبط بتدمير الذات

*****

خاص بأوكسجين