فصل من رواية “الهجران”
العدد 250 | 29 كانون الأول 2019
سومر شحادة


أقف بالقرب من باب الخروج من المنزل، أنادي على عزيزة إن كانت تحتاج شيئًا من الخارج. أخرج ويداي تلوحان عن يميني وشمالي، كأنّني خارج إلى لعبة كرة قدم في ساحة المدرسة، أرمي أقدامي أمامي وأبتسم. مررت على محل الخضار، ساعدتني سيدة على اختيار بندورة جيدة للطبخ وثلاث باقات بقدونس وكيلو بصل وكيلو باذنجان أسود، اخترت أنا فواكه من أصناف عدة، وكيلو خيار قبل أن أغادر المحل وأعود إلى المنزل.

أدخل إلى المطبخ، أضع الأكياس على المجلى، أنادي عزيزة لتأتي وتعدّ لي العجة. دخلت إلى المطبخ وهي تضحك لمشهدي أفرد الأكياس وأُخرج الخضار، أضعها في وعاء بلاستيكي وأدفعها تحت الماء. عندما رأت البندورة والبقدونس سألتني إن طلبتُ مساعدة أحد، فنفيت مساعدة أحدٍ لي، واستدرت صوب البراد كي لا تلمح ابتسامتي. لم تصدّقني، ابتعدتُ عن المجلى قدرًا سمح لها بالاقتراب وأخذ مكاني. أخرجتُ الباذنجان من الكيس، وضعته أمامها لتغسله، ورحت أبحث بين أدوات الطبخ عن تلك الآلة التي تشبه الصحن الطائر، كنّا نستخدمها لتسخين سندويش الزعتر الذي تحضره عمّتي إنصاف من جبلايا حيث تسكن. أجد تلك الآلة العجيبة، وأضع الباذنجان الأسود بين حديدتَيها الشبيهين بصحنَين، أغلقهما وأضعهما فوق النار. أسأل عزيزة بين الحين والآخر إن كان استواء الباذنجان مناسبًا. عندما تشير بالموافقة أسحبه من فوق موقد الغاز إلى المجلى، أقشّر الطبقة السوداء وأهرسهُ، ثم أضيف طحينة وثوم وحامض وملح وأخلط هذه المكونات جيدًا، أطلب منها تذوّق ما صنعت، وأسألها إن كنت ماهرًا في صناعة البابا غنّوج. تضحك وهي تقول إنه طيّب لكن الثوم زيادة، وتخبرني بأنّ إنصاف، شقيقة توفيق الصغرى، لا تضع للبابا غنّوج ثومًا، لأنّ ذلك يذكّرها بأخيها، فتوفيق كان يحب البابا غنّوج من دون ثوم. وتكمل كأنها وجدت مناسبة لتحدّثني عن توفيق، فهي تفعل ذلك في الفترة الأخيرة. «كان رجلً ناعمًا على الرغم من صلابته، ولم يكن يتردّد في مساعدتي في المطبخ، بل كان يجيد أنواعًا من الطبيخ يطبخها هو ولا يخجل أن يدعو صديقًا لتذوّق طعام أعدّه هو ». أتعرف؟ تنظر نحوي وتكمل؛ «أتمنّى أن تشبهه ». صمتُّ مندهشًا من عبارتها! فيما تابعت حديثها، وكأنها لا تعرف صدى هذه الأمنية لدى الشاب الذي ما توقّف عن تجنّب التشبّه بوالده. وغاصت عزيزة في ذاكرتها تحكي لي عن عائلة أبي، كأنها تريد إعادة الوصل بيني وبينهم: «لقد بقي توفيق كبيرًا في ذاكرة الأشخاص الذين عرفوه. لو كنا نعيش في حلب لكنت سمعت الكلام عنه وعن لطفه وشجاعته. كما كان مميّزًا في عائلته. عندما طلبت إنصاف من خطيبها، الذي صار والد أبنائها، تأجيل العرس إلى حين خروج توفيق من الحبس، وافق الخطيب بلا تردّد. وعندما تزوجا سنة 89 مع عودة خطيبها من عمله دهّانًا من بيروت كان قد مضى على نبأ وفاة توفيق تسعة أشهر. احتملت إنصاف تهميشها في الوظيفة لتنتهي قاطعة تذاكر في محطة القطار عند ساحة اليمن، لأنّها أخت المعارض اليساري المستقل توفيق غانم، وسمّت أبناءها توفيق وسليمان وبشير. لم تنجب بناتًا، الأمر الذي أحزن جدّك، الذي أحبّ أن يكون لديه حفيدة يسميها دارينا تيمنًا بأغنية فيروز. توفّى جدّك ولم ينجب أي من أبنائهِ، توفيق ونبيل وعائدة وإنصاف، بنتًا يسميها دارينا. عندما أنجبت عليا زوجة عمك نبيل ابنتهما دارينا، كان ذلك بعد وفاة جدك بثلاث سنوات. كان يجب أن نزورها قبل سفرها إلى دبي لتلتحق بزوجها.

جدّتك كانت صعبة، انتهت إلى صورة عجوز من ذلك النوع الذي لا تحتمل الجلوس في حضورهِ. كأن بينها وبين الألفة خصومة. آخر مرة رأيتها في عرس محمود ابن عمك نبيل. مشيت خلفها في الجنازة مثل الغريبة. لطالما أشعرتني بكراهيتها لي، على عكس جدّك والآخرين، فقد أرادوا احتضاني طوال الوقت. خاصّة جدّك رحمهُ الله. وأنا أرى حالنا، أتذكّر مقولته الأثيرة التي اختلف هو وتوفيق حيالها كثيرًا، اذ كان جدّك يقول: «لو أنّهم أجروا عملً جراحيًا للسوري لينزعوا الخوف منهُ لما بقي منه شيء ». فيما كان رأي توفيق أن السوري شجاع وإلّا ما كان احتمل ما يحتمله. هو كان شجاعًا، أما جدّك، فهو رجل عارف توقّف عن الاكتراث بقضايا الشأن العام منذ شباط ال 68 . لقد أحبّ أسرتهُ، وأراد البقاء معهم تحت أي ظرفٍ. لولاه كنّا تشرّدنا. عندما ذهبت إلى مكتبه في مديرية التربية، وقفت عند الباب والدموع تغطي وجهي، فنهض عن كرسيه بارتباك من يشهد القيامة. عرف أنّهم اعتقلوا توفيق قبل أن أنطق بكلمة واحدة، كانت الاعتقالات في أوجّها. وقد تشاجر مع والدك أكثر من مرة لكي يتوارى في الأحراش أو يغادر إلى أي مكان «فقط حتى نرى ما سيحصل »، قال له. أنا كنت بعيدة عن تفاصيل تلك الشجارات، وقد أخبرني جدّك بها إثر تقاعده بعد خمسة أشهر من وقوفي في باب مكتبهِ. عندما سمعنا عن وفاة توفيق، حدس جدّك بالأمر أيضًا. أحيانًا ينكشف السر على الكبار في العمر. هذا لم يحصل معي، تبتسم عزيزة، وتنهي حديثها عند هذا الحد وهي تعجن العجّة بين يديها قبل أن تدفع الأقراص إلى الزيت الذي يغلي، فيما كنتُ أزيّن صحن البابا غنّوج بالنعناع والفجل والسمّاق.

نهضت في صباح ذلك اليوم وفي بالي تمضية نهارٍ جيّد لي ولعزيزة التي بدأت تعود إلى عالمها، إثر انتكاستها التي كانت طارئة، ولكنها كافية كي تشعرني بأنّها ستغادر عالمي يومًا. إنّها تتعب وتمرض وتعاني، تعتكف عن الحياة، وتحاول أن تمرّر لي فكرة أنه سيطالها الموت.

عندما اقترحت عليها أن نخرج ونتناول غداءً في أحد المطاعم البحرية، ردّت بأنها تريد اليوم أن تأكل طعامًا أعدّه أنا لها.

منذ فترة وهي تتحدّث عن تأخّر الخريف وعن تعليمي الطبخ. أفكّر أنها تريد أن أفكر بالزواج، وأن تعلّمني تحضير طعامي، أي أن تجعلني مستعدًا لمغادرتها. ولم أجرؤ على أن أقول لها شيئًا مما أفكّر فيه.

أصبحت أمضي الوقت معها في المطبخ، مستسلمًا لإرادتها في الرحيل. لا أجرؤ على مناكفتها. أردت أن أسألها لماذا لا تفكر هي باختيار شريكة لي كما تفعل معظم الأمهات. لكني تراجعت، فأنا أعرف جيّدًا موقفها الحازم بعدم التدخّل في شؤوني العاطفية، تريدني أن أتصرّف، أن أدفع ضريبة خياري، مثلما دفعت ضريبة خيارها هي. خلال الساعات التي رحنا نمضيها في المطبخ، اقتصرت أحاديثنا على مكوِّنات الطبخات العديدة التي تعلّمتها، وكيف أعرف درجة نضج الرز، قبل أن أعمد إلى ترك الشوكة تنزل في حبّات الأرز، وتستقر بشكل عمودي، ثمّ أسحبها نظيفة مثلما تركتها تسقط. صَعُب عليَّ تعلّم طبخات معقَّدة، فلم تجبرني على تعلّم ما كنت أتبرّم من تعلّمه. بمضي أسابيع قليلة، أصبحت جاهزًا لحياة عزوبة طويلة. اقترحَت أن نستبدل الغسالة بأخرى حديثة يكون التعامل معها أسهل، دلّتني على المحلات التي تتعامل معها، وعلى محلات الملابس الداخلية التي كانت تشتري حاجياتي منها «ملبوساته القطنية جيّدة ». أخبرتني أن ألجأ إلى عمتي إنصاف في شؤون المونة، وإلى خالي بكري في أي شأن مالي.

كنت أطلب منها التوقّف عن الحديث كأنّها راحلة. فكانت تصمت لكنها لم تتوقّف عن دفعي إلى تعلّم العيش في غيابها. أرادت بإصرار أن تقول لي؛ هذا آخر ما أستطيع تقديمه لك؛ أن أعلّمك كل ما يمكنني لتتمكّن من العيش من دوني. أمّا كيف تحبّ وتملأ قلبك الخالي؟ فهذا دربك الخاصّ وهو أمر شخصيّ لن أتدخّل فيه.

قليلً ما تخطر جوري على بالي، إنّما أعترف بأنني كنت سعيدًا في خلال الشهرين اللذين كنّا قريبين خلالهما، وأشعر بحنين إلى رفقتها. أفكر بزيارة المكتب، لكن أغيّر رأيي عندما أتذكّر تجاهلها الحادث الذي عصف بحياتي، أقصد مرض والدتي، وهي تعلم أن عزيزة هي حياتي.

كانت أحاديث عزيزة عن حلب، أحاديث عن النكران. لقد أنكرت أمي حلب، وأعرف أنّها لا تفكر بزيارتها على الرغم من كلامها عن شوقها لها. يصعب أن يتصالح الناس مع حياتهم التي تركتهم أو تركوها، ولا يمكن تعديل الماضي، ما يمكن هو تجاوزه فقط. مع الوقت يخفّ قلقها عليّ. ترمي عن كاهلها الأعباء، أتخيّلها تتخلّى عن قطع من جسدها. تفرح عندما تراني أستعمل السكين وأنا أفرم البصل وأقطّع البقدونس، تفرح وهي تراني أُعِدّ عجينة البيتزا وأفرم اللحمة، مؤكّدة لي «راس عصفور ». كنتُ سعيدًا بعودتها إلى حياتي، مع أننا كنا نمضي معظم الوقت في المطبخ حتى بتّ أراها قطعةً من أثاث المطبخ، مثلما كنت أراها جزءًا من الشرفة عندما كنت أتركها وحدها وأخرج إلى المكتب أو للمشي في الشوارع برفقة جوري.

كانت عزيزة تريد أن تطمئن على أنّني آكل جيدًا وأرتدي لباسًا أنيقًا. وأنّني أتدفأ في الشتاء وأفتح الشبابيك في الصيف. غلب التفكير بالغياب إرادة الحياة عندها. كانت عزيزة قد أوشكت على التحليق خفيفةً مثل طائرة ورقية في سماء اللاذقية.

 

————————-

صدرت الرواية أخيراً عن دار التنوير.

*****

خاص بأوكسجين

 


روائي وكاتب من سورية. من رواياته "حقول الذرة"" 2017rn"