غيابات تعبر فوق دراجة هوائية
العدد 231 | 20 أيار 2018
مصطفى النفيسي


فوات الأوان

لقد فاتك الغياب يا عزيزي. فاتك بشكل فادح لا يليق بقناص. غيابات كثيرة تمت الآن . غيابات بصيغة المفرد والجمع. غيابات تحدث  في  السر والعلن. غيابات تتم في الصباحات وأخرى في المساءات. غيابات تجهد الصباحات أيما إجهاد فتنتقل إلى المرور السريع عبر قطر المساء، وأخرى تعبر متثاقلة كأيام الآحاد. غيابات ندركها بسرعة وأخرى ندركها بشكل متأخر وثالثة لا ندركها أبدا. غيابات يذكرنا بها البعض وغيابات نذكر بها نحن الآخرين حينما تصبح المآزق كثيرة وطافحة كمستنقعات لا تجف أبدا.غيابات تسمع عنها في نشرات الأخبار المتلفزة وغيابات تسمعها في مقهاك المزدحم دوما،الذي تصرعلى أنه صالة شاي: ما الفرق إذن بين مقهى وصالة شاي؟

 

غيابات تشبه نبوءة عرافة

هي غيايات خفيفة كغيوم فوق منحدر صخري، وأخرى ثقيلة كظهيرة الأيام الممطرة الخرساء والتي يصيب فيها الأشجار الصمم .غيابات تسند ظهر اليأس وأخرى تسند ظهر الأمل. غيابات تفجر الرغبة في الانطلاق إلى أمكنة بعيد لم يكتشفها بعد أصدقاء كريستوف كولومبوس وأخرى تدفعك للبحث عن غرف دافئة وأسرة وثيرة تنبطح أمام نوافذ ذات ستائر غير مزركشة. غيايات الماضي البعيد كأشعار امرىء القيس، وغيابات تتشبث بالمستقبل كنبوءة عرافة معاصرة تستعين بتطبيقات غوغل المبتذلة والتي تختلف عن نبوءات العرافات الأصيلات اللواتي انقرضن الآن.

 

غيابات تجعل صدرك أضيق من خرم ابرة

إنها غيابات لا تختلف عن تساقط أوراق الأشجار التي أتعبتها شمس الصيف، وغيابات أخرى تشبه اختفاء أزهار اللوز بعد اجتيازها لامتحان الإثمار، الذي غالبا ما يكون صعبا،حينما تتقاعس الريح عن أداء واجبها الطبيعي. غيابات تستقبلها بصدر رحب كبستان أندلسي وغيابات تشعرك بالانقباض حتى أنها تحول صدرك إلى شيء أضيق من خرم إبرة.غيابات طازجة كعنب بعد أيام طويلة من الجلوس القرفصاء تحت شمس غشت، وغيابات أخرى فجة كسراويل قديمة لم تواتيك الشجاعة بعد لتتخلى عنها في أقرب سلة مهملات في جنح الظلام. غيابات ركيكة كجمل تلميذ مبتدئ لا زال يتهجى حروف الأبجدية وغيابات حسنة البناء كجمل مارسيل بروست حينما كان يبحث عن زمنه،الذي ضاع منه بغتة وفي غفلة من الجميع:هل وجده يا ترى؟

 

غيابات لذيذة كمتاهة

إنني اجزم أنها غيابات لا تحصى ولا تعد. إنها كنجوم السماء في ليلة مقمرة. تلك الغيابات الشهية والطازجة، والأخرى السريعة، والتي لا تعود إلى رؤيتها فيما بعد.غيابات موغلة في الخفة وفي الثقل وفي اللؤم أحيانا. لقد أصبحت تلك المتاهات اللذيذة بعيدة الآن. وأنت لا تمتلك أية بندقية ولو صغيرة أو حتى صدئة تسعفك في اقتطاف واحدة منها. هذا يحدث حينما تكون حقول الرماية قد توغلت في تفاصيل أحلام بعيدة، لا قبل لخيال – حتى وإن كان جامحا- باحتمال حماقاتها الكثيرة.

 

 موتى متعجلون يجبرون جدتك على التغيب عن غرفتها

حينما تحدث هذه الغيابات دون خصم ولو غياب واحد منها أنصت لفرنسيس غابرييل. أنصت إليه بتؤدة وإمعان مثل من ينجز حصص اليوغا في الصباح. أنصت دون أن تطمع في أي شيء. فأنا لم أعهدك جشعا أبدا. أنصت إليه بجدية طفل يمضي حصته الأولى في المدرسة. أنصت إليه وأنت تستعد للنوم، أو أنت تستيقظ في الصباح. لكن لا تقترب منه في الظهيرة. لأنك لن تكون في حاجة إليه ما دمت قد عدت للتو من مشاوير المقاهي وأحاديث الصباح، التي لا تختلف عن أحاديث البحارة الحالمين بالثروة والأمجاد.أنصت إليه وحيدا كأنك مطرقة تتلقف صوت الأعداد من فم حداد يريد أن يستمتع بسيمفونيته، التي يعتقد أنها لا تختلف عن سيمفونيات بيتهوفن. أنصت إليه كي تعرف كم هي قاسية الوداعات والغيابات بدءا من وداعات الجنود لأمهاتهم قبل أن يمضوا إلى معاركهم التي لا يشتهونها، مرورا بوداعات الرهبان لباحات منازلهم، وصولا لوداعات أوراق الأشجار لتلك الجذوع الفارهة المليئة بوشوشة الطيور، وفكر فقط : هل تودع الأوراق الأشجار؟ أو على الأقل: كيف تكون وداعات الأوراق للأشجار؟

أليس مفيدا هذا الاستماع لفرنسيس غابرييل؟

 أنصت لفرنسيس غابرييل حينما يشتد زعيق لوعتك الشبيهة بتلك التي حدثت لك  حينما غابت جدتك، والتي وجدها أبوك مسجاة على قفاها بعد أن تركت أدويتها وعصيدتها التي كانت قد بردت. غابت دون أن تودع أي أحد. ولا أعرف إن كانت قد قرأت الشهادتين مثلما كانت تطلب من العلي القدير أن لا ينسيها إياها. كما  لا أعرف  إن كان الموتى القدامى  – المتعجلون مثلما يليق بموتى حقيقيين –  قد جاؤوا في مواكبهم المهيبة، والذين كانت تهجس بهم دوما. الموتى الذين يجب أن تكون أعينهم بيضاء مثلما كان يتخيل لك، وإلا كيف يجب أن تكون تلك الألوان، إن لم تشبه الثلج أو أزهار البرتقال في الربيع، رغم برودة الأول وجمالية الثانية؟

إن البون شاسع بين الثلج وأزهار البرتقال خاصة إذا كنت ستركب دراجة هوائية كثيرة الأعطاب، مثلما فعلت جدتك رفقة الموتى الجسورين والملحاحين في تلك الظهيرة المتخمة بالغيم والمطر .غابت جدتك لتترك لك وحدة شاسعة الأرجاء. أصبحت تتريض فيها مساء وصباحا، جيئة وذهابا، وأنت تضرب براحة يدك الصغيرة على صدرك. وحينما أتعبت صدرك كان عمك قد جاء ليذرف دموعا جعلتك تصحح قناعتك الطفولية بان الكبار يشبهون الفولاذ في صلابتهم. فلكل منا هشاشته التي يخفيها عن الآخرين.

ارتأت جدتك أن تغادر غرفتها ذات الباب المميز، والذي ستعيدون طلاءه كي تخفوا بصمات أيادي الموتى بأعينهم البيضاء، إلى الولي الصالح “سيدي إبراهيم”. رجل ورع  لا تعرف من أين جاء وكيف دفن هناك فوق تلك الأكمة التي تشبه رأسا سيئة الحلاقة. غابت جدتك لتترك لك سؤالين محيرين:كيف اهتدى الموتى بأعينهم الشبيهة بأزهار البرتقال إلى غرفة جدتي؟ ولماذا لم تسيج غرفتها بسياج حديدي، كي لا يصل اليها الموتى الذين يشبهون سعاة البريد، مثلما كنت تعدها في تلك الخيالات التي كانت تطبق عليك في طفولتك التي لن تتكرر أبدا؟

أليس حريا بك إذن أن تستمع لفرنسيس غابرييل كي تتغلب على لوعة كل هذه الغيابات؟

ألم يكن هؤلاء الموتى متعجلين إلى الحد الذي جعلهم يتركون باب غرفتها مشرعا؟

*****

خاص بأوكسجين

 

 


كاتب وقاص من المغرب. من اصداراته مجموعة قصصية بعنوان "تطريزات على جسد غيمة""."