غرفة التدخين
العدد 271 | 18 حزيران 2022
محمود عبد الدايم


بعدد جدران الغرفة كانوا، أربعة أشخاص في غرفة واحدة توزعوا على جدرانها، لم يكن هناك شيء داخل هذه الغرفة يسمح بالغموض، كل ما فيها متاح للآخرين، لا مكان هنا للانفراد بذاتك.. إطلاق ضحكة دون أن يسألك أحد عنها، إسقاط اللعنات على رأس من تشاء، الجدران اللامعة كانت تفرض على الجميع صمتاً إجبارياً.

بإيماءات مرتبكة من روؤسهم تبادلوا التحية فور دخولهم الغرفة.. وجوههم المتعبة.. صمتهم المطبق على المكان، صوت مكيف الهواء الذي يسيطر على الأجواء بلا شريك، جميعها أشياء تثبت أنهم غرباء.. أحدهم منذ اللحظة الأولى قرر ألا يغادر دائرة صمته التي أغلقها على نفسه، فسدد نظرته إلى عقارب الساعة المعلقة في منتصف الجدار الأيمن للغرفة، بعدما اختار الزاوية القائمة بين جدارين، تابع حركة عقرب الثواني.. تثائب ثلاث مرات في الدقيقة الأولى، وكان يمرر سيجارة لم يشعلها بعد بين أصابعه متابعًا تحرك العقرب الأسرع في دائرة الساعة.

الثاني اختار الركن الأكثر ظلمة في الغرفة مواجهًا رفيقه الثالث، الذي وجدها فرصة لمحي علامات التردد التي ظلت تعلو وجهه منذ وطأت قدماه الغرفة. تبادل الاثنان- للمرة الثانية – إيماءة الرأس، وزادا عليها ابتسامة لم تُظهر أسنان أي منهما، وامتناناً واضحاً غير مبرر، ووسط كل هذا انتصب رابعهم في منتصف الغرفة تحديدًا محاولًا إشعال سيجارة لكن تيار الهواء البارد الذي يطلقه المكيف المزعج كان يطفئ عود الثقاب.. حاول أربع مرات.. وأربعة أعواد ثقاب ترقد الآن بين قدميه وسيجارته لم تشتعل بعد!

رجل الزاوية القائمة تلاشى اهتمامه الواضح بحركة عقرب الثواني السريعة، عاد مجددًا ليدور بعينه في الغرفة، ليحصي ثلاثة رجال متقاربين في القامة والهيئة والملابس، اثنان منهما متواجهان، الثالث يلقي نظرة لا مبالية على أرضية الغرفة المتسخة، محركًا فمه دون صوت، وكأنه يحاول إنهاء حالة السكوت..كان يرغب فى الحديث فقال بصوت لم يحاول إخفاء الارتعاشات التي طغت على كلماته: “صباحًا تركت زوجتى غاضبة مني.. اعتدتها أن تغضب في المساء فقط.. لكنها هذه المرة أدخلت تعديلًا على موعدها الخاص بتحطيم بعض الأطباق، انهارت سريعًا، قذفتني بمنفضة السجائر الخشبية التي سبق وأن أهدتني إياها فى عيد زواجنا الأول.. سألتنى عن أحوال المرأة التى أخونها معها، بعد انقضاء عامين على زواجنا”.

توقف لثواني مخرجًا منديلًا قطنيًا محاولًا تجفيف نقاط عرق غير مرئية على جبينه، قبل أن يكمل: “أصبحت زوجتي على قناعة أن امرأة ثانية تشاركها إياي، تثاءبت.. أو ادعيت التثاؤب علها تصمت، لكنها – وعلى غير عادتها – أكملت مسيرتها، جدفت بقاربها الغاضب متجهة ناحية أكبر دوامات النهر، أعادت السؤال بنبرة أكثر عدائية.. تحدثت عن ضرورة رحيل أحدنا من البيت.. حددت من الذي سيرحل ومن سيبقي.. رسمت خطة الانفصال كاملة وانتظرت أن أباركها لتشرع فى التنفيذ”..

شكوى الرجل ترددت في أرجاء الغرفة.. في طريق عودتها اصطدمت برفيقه الذي لم يتركها تعبر دون أن يضيف عليها شيئاً من عنده، تنحنح، بصق إلى يساره، وقال بصوت واهن: “أما أنا فرجل بلا زوجة.. أعزب.. هناك من يظن أن الرجل الأعزب هو الأكثر سعادة، لكنني على عكس ذلك، أيامي متشابهة، اللهم إلا ساعات قليلة أخطفها من فم الدنيا، أضحك طوال دقائقها، أرقص.. أغني.. وأبكي.. نعم أبكي.. تعرفون أكون سعيدًا جدًا عندما أبكي.. لا.. أكون سعيدًا تحديدًا بعدما أنهي وصلة البكاء.. بعدها تحديدًا أشعر بروحي خفيفة.. ستلصقون بي تهمةالجنون.. إن قلت لكم، إنني فى اللحظة الأولى التى تلي دقائق انتحابي أكون مستعدًا للموت.. متهيئا للرحيل.. لكننى لا أموت.. بالطبع.. لا أتمنى الموت.. وإن كنت أخشاه طوال بقية دقائق يومي الخالية من الدموع.. ليت لى زوجة مثلك.. تعنفني صباحًا وتصالحني ليلًا.. لكني أخاف أن تكون لي زوجة.. فعلًا أخاف”.

ضحكات ساخرة سرت في الغرفة.. أربعة أفواه انفرجت فجأة.. أسنان صفراء تصدرت المشهد، قطعتها “كحة” من النوع الذي يصاب به الشرهين في التدخين.. ضحكوا جميعًا، حتى الذي كان يجد سعادته في البكاء، ضحك.. نوبة الضحك طغت على صوت مكيف الهواء، وجاءت أصوات الضحكات لتزيحه تمامًا عن المشهد، تعالت الضحكات إلى الدرجة التي تجعلك تظن أنها ستظل معلقة في الهواء، لكنها اختفت فجأة، بعدما اخترقها صوت نحيب مرتفع.. الثلاثة تبادلوا النظرات المتسائلة، كان الرجل الذي يقف في منتصف الغرفة غارقًا في موجة بكاء، جسده النحيل يهتز، يرتعش.. كاد أن يسقط قبل أن يتحرك ناحية أقرب جدار له، استند عليه، في البداية انزلقت يده المتعرقة سنتميترات قليلة، انزلاقة كانت كافية لإسقاطه، لكنه تمالك نفسه، ارتكن بظهره على الجدار الأقرب لباب الغرفة تاركًا جسده للجاذبية تشده في تعب ناحية الأرضية المتسخة.

تعلقت الأعين الست بالوجه الرابع، المفاجأة ألجمتهم، كل واحد منهم تجمد في مكانه، بعد أن لامست مؤخرته الأرضية المتسخة، أطلق زفرة ساخنة من فمه.. هواء ساخن ابتلعته برودة الغرفة سريعًا، ألقى نظرة متعبة حوله، ولم يقف كثيرًا أمام الأعين المتربصة به، أطرق.. بصق بهدوء، قبل أن يقول: “ماتت زوجتي في السنة العاشرة لزواجنا.. دون أية مقدمات ماتت.. وأنا الذي كنت أخبرها كل ليلة أن تحيط الأولاد برعايتها بعد رحيلي، كنت أداعبها دائما بأنني سأتزوج بعد رحيلها بـ 40 يومًا، وأقول هذا ما يقوله إمام المسجد، كانت تضحك.. توزع نظرتها الحانية علينا الثلاثة.. أنا.. ابنتنا الكبرى.. وطفلنا الصغير.. كانت تكتفي بمنحنا ضحكتها الصافية، ولا تزيد عليها كلمة.. ماتت زوجتي في صباح أحد الأيام.. بعد فشل صوت المنبه الذي اعتادت أن تضبطه على السادسة صباحًا في إيقاظها.. كانت تصحو قبلنا بـ 60 دقيقة.. 60 دقيقة كانت تكفيها – ولا امرأة غيرها – لإعداد الإفطار.. تسخين 4 أرغفة خبز.. إعداد 3 أكواب لبن.. وكوب شاي.. ترتيب صالة المنزل بعد ليلة قضيناها في المذاكرة.. اللعب.. مشاهدة حلقة جديدة من حلقات مسلسها المفضل.. لطالما كانت تكفيها الدقائق الستون لأن تصنع من منزلنا جنة تليق بصباح مدهش مثل ضحكتها وهي توقظ أحبائها الكسالى.. هكذا كانت توقظ ثلاثتنا كل صباح”.

تبادلوا النظرات.. لم يستطع أحد منهم أن يمضي قدمًا في الحديث.. لم يكن في رأس أي منهم حكاية جديدة، حكاية سعيدة تمحو سحب الكآبة التي تدلت من سماء الغرفة.. فجأة اخترق صمتهم صوت معدني، مذيع المطار يعلن عن موعد الرحلة الأخيرة التي ستقلع بعد 30 دقيقة. أخرج أحدهم من جيب معطفه تذكرة، وهو ينصت لكلمات المذيع.. تمتم بأرقام الرحلة، ألقى نظرة على ساعة الحائط.. كان العقرب الأصغر لا يزال يدور بسرعته المعتادة.. ألقى سيجارته على الأرضية، لم يدهسها، فتح الباب وخرج.. وحيدًا غادر الغرفة.

*****

خاص بأوكسجين

 


كاتب وصحافي من مصر.