عودة إلى الملاعب
العدد 176 | 22 آب 2015
نجوى بن شتوان


قبل أن يذهب في إجازة إلهية ودعني معانقاً داعياً لي بصوم مقبول وذنب مغفور ، معترفاً بأن رحلتنا معاً خلال عام كانت مضنية، “رحلة ليبي مع ليبي” حافلة بالكثير من التعقيد وعدم التفاهم، ثم أثنى على عزيمتي في حماية مرماي من هجمات شياطين الأنس، واعتذر عن كونه مجبر للتعامل معي وكأنني عدو عريق، فليس بوسعه إلا تنفيذ قدره وفقاً لما تم الاتفاق عليه  ما بين الله وجده الأكبر  إبليس – سورة الحجر- بحسب ذلك العهد أمسينا ضحايا صراع أزلي لا دخل لنا به،  خصومة  لم يكن فيها إبليس قليل أدب مع خالقه، حيث خاطبه بلفظ الربوبية وأقسم له بعزته ووافق الله على العرض الطويل الذي قدمه، أي أن كل ما جرى بعد ذلك على الأرض هو تحصيل حاصل لاتفاق أبرم  في عالم مغاير، بموجبه أصبح المرء جزء من حدث إله- شيطاني في عالم آخر! 

قال لي سليل ذلك المهذب، بأن رحلته إلى التصفيد ستبدأ و يتحتم عليّ أن أعيش طيلة شهر بلا شيطان أو أفتش عن شيطان أو أدبر رأسي واكتفي بجاري جورج ارخمينو.  فهو لا تنقصه المؤهلات لذلك العمل. 

سألته أين سيمضي  فترة التصفيد، هز رأسه متمتماً وأين يقضي المرء أجمل إجازاته إن لم تكن في بلاده، مرتع آبائه وأجداده الكبار. 

كانت يده باردة عندما صافحني وخرج.

افتقدته في الأحيان التي ألقي فيها تبعاتي عليه، خصام مع أحدهم  الله يلعن الشيطان، حوار بيزنطي، الله يلعن الشيطان، سكب شاي على المنضدة، سقوط أواني وتهشمها، طنين أذن، صفير في أذن ميت، تعثر في سجادة،احتراق طعام، قضاء حاجة، مسج من دار الافتاء في هزيع الليل، كوابيس ناتجة عن تخمه،عدم ثقة في الناس، عجاج، وصولاً إلى سماع نهيق ورؤية  قط أسود وكلب أحمر ووزير ليبي في سروال  وردي. 

الله يعلن الشيطان وملته وقدرته!

طيلة شهر كان بعيداً عن الشبهات ومعفي من السماء من قراراتي وأفعالي، على مرمى خطوة مني احتجته لسب ماريا لأنها ترمي الصحون في الحوض رمياً وتحدث جلبة قوية في نهار رمضان، لا تدعني أنام، احتجته وأنا أقرأ أخبار ليبيا و إنجازات دولة الخلافة الإسلامية الجنسية، احتجته وأنا أُجري حواراً عن الجنة مع عجوز في طابور السوبر ماركت، لا تريد أن تصدق في خمس دقائق، أن جنة المسلمين  فيها جميع أنواع الفاكهة  كالتي يبيعونها في السوق، و أن جنة الليبيين، تزيد عليها بأن فيها كعك. 

 كانت لا تريد أن تصدق فيما يخص الفاكهة،  ولا تريد أن تؤمن فيما يخص الكعك! 

احتجته عندما اتجهت لله من دونه بالصلوات والأدعية، أن يحفظ بنغازي، فيما القذائف تمطرها دون توقف.

كنت بدونه في مأزق فهم حقيقي، إذ إنني أعلم تماماً أن القصف لن يتوقف وأن الصاروخ تلو الصاروخ لابد له من منزل أو شارع أو مدرسة أو أي رأس يسقط عليه وأنه ليس عشوائي (أكثر من أدعيتي) كما يشاع 

المأزق إذا استجاب الله لدعواتي من جهه وسلم من أعرفهم فإن الصاروخ لا محالة سيقتل أحداً ما من جهة أخرى  لا أعرفه!   

وهنا أكون كمن نزع من اللحية ووضع في الشارب، فهل تراني ساهمت بأدعيتي في انقاذ شخص وموت آخر  أو تدخلت في تغيير مسار الصاروخ حتى تجنب “س” الذي أعرفه وقتل “ص” الذي لا أعرفه في بنغازي نفسها؟ 

 

لهذا المأزق النفسي، توقفت عن الدعاء – وهو أمر يحبه الله تعالى- كلما رأيت الأموات والأحياء في مدينتي، وقلت في نفسي لابد من إنني شريك عن بُعد في المعركة! 

احتجته لأنسب له المسألة، فأنا لا أحتمل تفسير الميتافيزيقا بدونه. 

لربما  كان عنها مسؤولاً، كمسؤوليته عن الجانب المحب للقهوة واللحم فيّ، وعن جانب ملكات طلاء الجدران والاستحمام عدة مرات في اليوم، ومشاهدة الأفلام الوثائقية ليلاً، بل أيضاً “قول” أعوذ بالله من شر الشيطان الرجيم!

احتجته في الأنشطة التي نقتسمها بيننا بعدالة ربانية أعجز عن تفسيرها، فإذا كنت أنا من يحب شم الوردة كان هو من يحب لمسها وإذا كان هو من يحب أكل العصبان كنت أنا من يكره استبدال البراز في الأمعاء بكوكتيل من الخضروات والكبد. 

ثم ينسى ماضيه البرازي وينهال عليه حباً وتفضيلاً!

كنا نقتسم “أنا” بيننا حتى إننا معاً ننمذج للنظام الفيدرالي، سيء السمعة في ليبيا!

ورغم ما لدينا معاً من ذخيرة دراسية فقد اكتشفت بأنه لا يعي كلمة ثورة كما أعيها، إذ لا توجد لهذه الكلمة تجربة مطابقة عنده، بدا لي ذلك فارقاً طبيعياً بيننا، فجده إبليس قام بالتحدي وجدي آدم قام بالعصيان، ونحن قمنا بالثورات، لذلك لا يستطيع التعامل مع هذه الكلمة المستجدة كلما تحدثت عنها، وذهب إلى تأويلها بحدث أرضي شائك التأويل.

انتهى شهر رمضان ..

وها هو لا يعود وتشغلني سلامته الشخصية كما لو أنها سلامتي،  فالمرء يولد ومعه شيطان واحد، ليس بمقدوره اختياره أو تبديله بملاك أو الطعن فيه، فكيف إن فقده، أقصد إذا فقد جورج ارخمينو!

شيطاني لا يتكلم إلا  الدارجة الليبية ولا يعرف أين يذهب خارج ليبيا، ما يجعلني أخشى عليه أن يحدث له ما حدث لأحد الجرحي ذات ثورة لا تريد أن تبرأ من الجراح، ركب طائرة إلى إيطاليا للعلاج وطلب مني المساعدة، سألني أثناء إتمام اجراءاته عن مكان الصراف ليغير مامعه من يورو، قلت له إن اليورو هو عملة البلد، لكنه شك في  مصداقيتي، فأنا امرأة ناقصة عقل ودين،  ووالده كما حكى لي أوصاه بألا يأخذ مشورة امرأة (عليك بده من الزمان ما تاخذ شورة مرا)

الحقيقة تأثرت بجراحه غير البينه وزاد إصراري على عدم تركة وحيداً في كوكب روما العملاق، طالما والده ذاك الناصح، وعذرت وقاحته وجهله كما يحدث لدينا دائما في ليبيا، عندما نعفو عند عدم المقدرة على الإنتقام، ناهيك عن أن الثورة التي يتسيد باسمها يعتريني الشك بسلامتها العقلية، أخذت بيده لاعتبارات تتعلق بتعدد المسكنة، أولها أن له أباً كان عليه الثورة على تعاليمه قبل التفكير في الثورة على  القذافي و إصلاح شؤون ليبيا، ولن يكون أخرها بالطبع، إصراره على تبديل اليورو في منطقة اليورو!

شيطاني ليبي أكثر من ذلك الثائر الجريح الذي لا أثر لجرح في جسده  ولا لثائر في شخصه، بل وليبي أكثر مني أنا كذلك، المنكمشة على ليبيتي كالزبيبه، لهذا يتعاظم خوفي عليه ومنه، وينتابني الشك في تصرفاته وفي قراراته غير المتوقعة، أتوقع أنه أراد الذهاب لمطار الابرق كي يعود إليّ، لكنه رأى ما رأى فيه من كمية الطلاق والأيمان الكاذبة والفوضى فعدل عن السفر، ثمة فرص عمل شاغرة هناك، أكثر من أن يكون مجرد عامل وسوسة هنا، أوكل إليه التربص بقلبي ليل نهار.

أتوقع أن يجد عملاً في إحدى اللجان التي تنتشر لدينا كالأورام ولا يعرف لها مأرب سوى جمع المال، أتوقع أن يكون في لجنة لإغاثة النازحين لا تغيث أحداً، لجنة تسيير رحلات حج تزور قرعة الحج  لتفوز هي برجم الشيطان، لجنة لإعمار مدينة بنغازي دون بنغازي، لجنة للتحقيق في اغتيالات الضباط دون متهمين، لجنة لحصر استثمارات ليبيا في الخارج تبدد الاستثمارات، لجنة مكافحة تجارة البشر ، تكافح التجارة ولا تكافح التهريب، لجنة مراقبة بيع النفط دون عدادات، لجنة علاج الجرحى دون جرحي، وهلملجنه! 

كان قريني مجرد شيطان بسيط يثير الشفقة، يبحث عن فرصته في بلاده، وهذا لعمري خير له من بقائه مكبلاً لسنوات تحت سلطتي في بلاد الاغتراب، محصور عمله في روتين ممل، مابين لحم الخنزير والخمر والديسكوتيكا.  

لو كنت مكانه لما تركت وطني وعدت. ولعملت في اللجنة التي تصادفني عند باب المطار،  في نهاية الأمر ستتحلل اللجنة وتنفرط بطريقة غير  مفهومة ودون مسألةٍ  سيرجع لأوروبا  مكتنزاً بالنقود، سيطلب إليّ مساعدته في تغييرها، سيكتب منشورات جد وطنية على الفيسبوك، سيبكي ليبيا سيئة الحظ في الأولين والأخرين، سيرسم أعداءه كنساء، يلبسهم الكعوب العالية ويضع لهم أحمر الشفاه، ويركز على طعنهم في المؤخرة،  ستكون خطته في الحياة هي خطة والده، تغيير الأخرين دون تغيير نفسه، وفرنيللو لكل مواطن، سيشتري ودي بتلك الدراجة التي أريد، سيغري شيطاناً صغيراً بعقد عمل في ليبيا، ويوسوس له بدهسي في الزحام، سيفعلها الشيطان الصغير، و سأنجو بعض المرات وليس دائماً، وفقاً لذلك الاتفاق التاريخي المبرم في عالم ذي طبيعة مغايرة!    

فعلاً الحياة دون شيطان مسؤولية كبيرة. 

__________________________________

قاصة وروائية من ليبيا صدر لها العديد من الروايات والمجاميع القصصية منها: “وبر الأحصنة” 2005، و”مضمون البرتقالي” 2008، و”الملكة” 2009 ، و”الجدة صالحة” 2013.

الصورة من رسوم المخرج الإيطالي فيدريكو فيلليني (1920 – 1993) ولها أن تكون رسوماً أولية لشخصيات أفلامه متسائلاً ” لماذا أرسم شخصيات أفلامي؟ لما أدوّن ملاحظات غرافيكية عن وجوههم، أنوفهم، شواربهم، ربطات عنقهم، حقائبهم.. هي طريقتي ربما لأبدأ بمشاهدة الفيلم وجهاً لوجه، لأرى من أي نوع هو، محاولاً ترميم شيء مهما كان صغيراُ وصولاً إلى حدود العدم، لكن ذلك يبدو لي شيئاً يمكن فعله مع الفيلم، ليبدأ حديثه معي في الخفاء”.

*****

خاص بأوكسجين


قاصة وروائية من ليبيا صدر لها العديد من الروايات والمجاميع القصصية منها: "وبر الأحصنة"" 2005، و""مضمون البرتقالي"" 2008، و""الملكة"" 2009، و""الجدة صالحة"" 2013. و""زرايب العبيد"" 2016 (ضمن القائمة القصييرة لجائزة بوكر)."