عنكبوت في القلب
العدد 221 | 29 تشرين الأول 2017
محمد أبو زيد


لم تحب ميرفت شيئاً في حياتها مثل العناكب والقطط الضالة والتماسيح وآثار الأقدام الحافية على الرمال ومشاهدة الكتاكيت الصغيرة، وبنسات الشعر الملونة.

لم تستطع أن تقتني تمساحاً في البيت لضيق المكان، فرتبت الأركان بيوتاً آمنة للعناكب. تدق على أبواب شقق الجيران وهي تمسك في يدها ممسحة الجدران، تقول لهم وهي تبتسم خجلاً: هل من الممكن أن أنظف الجدران؟، وقبل أن يجيب أحد تكون قد أصبحت داخل الشقة بالفعل، ترفع عصاها إلى ركن الحائط، وتلفها بحرص حول بيوت العناكب الموجودة. وعندما لا تجد تهز رأسها آسفة مصدومة وتغادر من دون حرف واحد.

“الفتاة الطيبة، التي تحب النظافة بجنون، لدرجة أنها تنطف جدران جيرانها”، هكذا يلقبونها. ينطقون الجملة هكذا مرة واحدة دون نسيان حرف أو تقديم كلمة على الأخرى، لكنهم لا يعرفون أنها تخرج بسرعة من منازلهم، ليس تأدباً فقط، أوحرجاً من الفانلات الداخلية التي يرتديها الأزواج، لكن خوفاً على العناكب من الموت. تدلف بسرعة إلى غرفتها، تقرفص على الأرض، وتخرج العناكب من طرف المنفضة، وقد تضمد ذراع أحدها، إذا كان قد أصيب، وهي تعتذر له، ثم تضعه في مرطبانات بلاستيكية أعدتها لهذا الغرض.

وحتى لا يقول أحد أن ميرفت تقتل أو تسجن العناكب، أرد  بثلاث توضيحات؛ الأول: أنها حاولت اختراع آلة لالتقاط العناكب من الأركان دون أن تؤذيها إلا أنها لم تستطع تشغيلها. الثاني: أنها فشلت في أن تحصل للآلة على براءة اختراع لها من أكاديمية البحث العلمي. الثالث: أنها تترك المرطبانات ليلاً مفتوحة، لأي عنكبوت يريد أن يخرج للتريّض.

أما بنسات الشعر الملونة، التي لا تحب أن تضعها في شعرها، فقد ملأت بها مرطباناً كبيراً، كما صنعت منها خريطة كبيرة للعالم على حائط غرفتها، كل دولة بلون، تقف لتتأملها كل يوم، وتقرر أن تزور دولة جديدة بلون جديد، فتبدأ البحث عن المزيد من البنسات لتملأ مكانها على الخريطة.

ميرفت لا تملك الكثير من المال لتنفقه على هوايتها، لذا تلجأ أحياناً لأن تمسك أعلى بلوزتها بيدها، وتوقف فتاة صغيرة في الثانوية العامة عائدة من درس الرياضيات، ثم:

ـ ممكن بنسة؟ زر البلوزة سقط مني.

وقبل أن تمد الفتاة يدها إلى حجابها، تكمل ميرفت:

ـ أريد الزرقاء.

لكنها، والله، ليست لصة، لم تمد يدها إلا مرتين فقط، أقصد ثلاثة، إلى بنسة ملونة في شعر الفتاة التي جلست أمامها في الحافلة، وهي عائدة إلى غرفتها، أعلى إحدى البنايات التي تطل على خط المترو في أول شارع فيصل.

ميرفت لا تحب السرقة، لذا اتصلت بالشيخ الملتحي الذي لا تعرف اسمه، لكنه يظهر أسبوعياً على قناة “دريم”، لتسأله عن حكم السرقة في لعبة “المزرعة السعيدة” على فيس بوك. لم يفهم الرجل الذي لا يعرف كيف تكون السرقة الإلكترونية، ولم يستوعب شرحها أن هذا جزءاً من آلية اللعبة، أي أن تسرق من مزارع جيرانك كي تستطيع أن تشتري بذوراً جديدة، وأن هذه سرقة متبادلة. اليوم تسرقني وغداً أسرقك. الرجل الذي يحاول أن يبدو وقوراً ظن أنها تسخر منه، فأغلق المعدون الهاتف في وجهها، عندما رأوا عروق وجهه نافرة من شدة الغضب.

ميرفت تخاف الله، لذا تركت أول عمل لها في حياتها، في محل خردوات، خوفاً من أن تمد يدها إلى علبة البنسات الملونة. سمعت الشيخ يقول ذلك في المسجد، هو لم يتحدث عن البنسات تحديداً، لكن كما تعلمون فالحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات ‏استبرأ ‏ ‏لدينه وعِرضه، لذا قررت أن تقطع رزقها بيدها وتبحث عن عمل آخر.

لم تجد العمل الذي حلمت به وهي صغيرة، وأضحك عليها الفصل كله، عندما وقف المعلم أمام السبورة وأشعل سيجارة سوبر وشد شعرة في أذنه نظر إليها في تعجب، ثم سأل الطالبات عن الوظائف التي يحلمن بها عندما يكبرن، فردت عندما حان دورها: حارسة بيت الزواحف في حديقة الحيوانات. المعلم لم يعلّق لأنه غالباً لم يفهم، وزميلاتها ضحكن بشدة دون خوف من عصا مستر ناصر وتوبيخه. أما هي فتذكرت الرحلة الوحيدة التي خرجت فيها مع زميلاتها أيام المدرسة إلى حديقة الحيوانات، وهناك وقفت مشدوهة أمام بيت الزواحف.

يومها عشقت التمساح، بحراشفه التي تقيه النظرات المتطفلة التي تعاني منها دائماً، بمكوثه الدائم تحت الماء هرباً من الساخرين، بفمه الواسع الذي يتيح له أن يقول كل الكلام الذي في جوفه مرة واحدة دون أن يخبئ شيئاً أو يجبره لوم الناس على الصمت، وحين عادت إلى المنزل في ذلك اليوم، لم تستجب لنداء أمها لتناول العشاء، وهرولت إلى حقيبتها، أخرجت كراسة الرسم، قطعت ورقة من المنتصف ورسمت تمساحاً بعرض الصفحتين، يبتسم، لونته بالبنفسجي والأخضر والأصفر. قطعت الورقة وعلقتها على حائط غرفة نومها، واصطحبتها معها بعد ذلك إلى كل مكان ذهبت إليه.

هل ميرفت غريبة؟

ترد على من يصفها بذلك بهز كتفيها، ومط شفتيها. لكن جميعهم يقولون ذلك، وكأنهم اتفقوا عليها.

عموماً، لا أحد يستطيع أن يقول لها شيئاً الآن، بعد أن كبرت، وأصبحت آراء الجميع بالنسبة لها مثل بقايا طبق الأرز المحترق الذي تسكبه كل يوم في سلة المهملات، ففي غرفتها أعلى تلك البناية الحقيرة في أول شارع فيصل تستطيع أن تفعل ما تشاء، تربي كلاباً أو ثعابين أو دوداً كما تشاء، هي حرة، ستتحمل نظرات النجار أسفل المنزل، والأرملة التي تمصمص شفتيها كلما رأتها داخلة أو خارجة، والمرأة الممتلئة في الدور الثاني، وتواصل صعودها إلى حجرتها على السلم الضيق المظلم، تغلق الباب خلفها جيداً، وتبدأ حياتها الحقيقية.

…………………..

فصل من رواية تصدر قريباً

*****

خاص بأوكسجين


شاعر وروائي من مصر.

مساهمات أخرى للكاتب/ة: