عشرون حالة كنت فيها وحيداً
العدد 235 | 21 أيلول 2018
نجوى بن شتوان


اللحظة التي أنهت فيها إيزابيل علاقتنا، شعرت فيها بدوار مزدوج وبأن شيئاً ما يسحقني ويجعلني أموت. لم أكن قد جربت شعوراً مماثلاً من قبل، حتى عندما هجرتني زوجتي الأولى ورحلت مع رجل آخر. لا أظنني خبرت نفس الشعور الذي  أقاسيه الآن مع إيزابيل، كما لا يسعني المقارنة بين الحالتين، فالحالتان أنا. أنا الذي استطاع أن يعيش بعد ماريا غراتسيا لكي تقتله إيزابيل روسوليني!

ربما في الأولى كان لدي استعداد خفي للتخلص من زوجتي وافق خيانتها لي، لذا لم أشعر بحاجتي للعزاء كما أشعر بها الآن، ولكن صوتاً من أصوات منشار الفراق الذي يقطعني همس لي بأن هذه النهاية  تستدعي النهايات السابقة في حياتي، لذا يخيل لي بأنها الأكثر إيلاماً.

كنت أتصور بأني أحب إيزابيل حباً طفيفاً يختصر احتياج رجل ستيني لامرأة، وليس شعوراً يستدعي المعاناة وما بعدها، لم يكن فراقها طبيعياً البتة ولا متناسباً مع الحب الذي شعرت به حيالها.

كان ثمة شيء غير اعتيادي يربطني إليها ولا يريد أن يستجيب للقطيعة وينقطع.

 دار رأسي وأحسست بالغثيان وبالدموع تملأ صدري وتنفجر من كل مكان فيّ، ثم انتباني شعور بأنني لم أعد موجوداً.

افتح ياديمتري اللعين، إنني أموت.

دققت الباب بيدي الاثنتين وبقدمي عشرين مرة حتى انبجس العرق من جسدي كاملاً وأصابني الإعياء.

وماذا إن لم يفتح ديمتري البوابة، هل سيظل هذا الجسد المهزوم يدق ويركل طلباً لمساعدة بواب تعس تدور حياته كاملة حول هذا الباب فتحاً وإغلاقا؟!

إن الباب سواء فتحه ديمتري أم لم يفتحه لن يودي بي إلى عالم يغسلني بسرعة من حزني وكآبتي ويخدر شعوري بالتمزق والسحق.كلا لن يحدث سوى أن أدلف إلى مسلخي الشخصي أي سريري واتكوم فيه وجها لوجه مع آخر  ما قالته لي إيزابيل:

” لم أشعر بأنك رجل، فالرجال يذهبون لأعمالهم ويكدحون، تتكون لهم عضلات وتجاعيد، بينما تترهل أنت في مكانك دون أن تفعل شيئاَ مفيداً للمجتمع والحياة”.

آه لقد قالت المجتمع والحياة، أي قصدت ما قالته وفكرت فيه مسبقاً، ولم تقله من باب التسرع أو تعثر اللسان، لقد عنت ما قالته عن ناقد سينمائي جمعتها به علاقة وثيقة  لأعوام!

لم يعد معقولاً أن أسأل :”وكيف يتسنى لكِ قول ذلك؟”، وما أدراكِ بمهنة النقد وما تفعله بالعقل؟ لم يعد ممكناً أن أشرح لها ماذا يفعل النقد بالأدمغة التي تتعاطاه، فهي بكل وضوح تريد أن ترى ما تراه… العضلات وتأثير الزمن على الرجال.

افتح ياديمتري اللعين

إنني أنزف

إنني أحتضر ولا أريد الموت ككلاب الشوارع .

فجأة فتح الباب رجل قصير نحيل لا ينتمي إلى شكل ديمتري، يرتدي صدرية فسفورية ويحتزم حقيبة ملأى بالرسائل. سألني وأنا بالكاد أحمل جسمي لمدخل البناية:

– أهلا سيد ألبيرتو فيليني؟

عاد وكرر اسمي في هيئة سؤال:

– ألست السيد ألبيرتو فيليني؟

سألني في اللحظة التي يموت فيها ألبرتو فيليني عن ألبيرتو فيليني المهيب، الذي لم يعد منه سوى بدلة من بدل ت.س. إليوت على هيكل عظمي مفرغ. لو أن هذا الأحمق سألني قبلها لربما عرته انتباهاً فعلياً لكني الآن أعيش لحظة قاتمة جداً وأنازع كمحتضر لا حاجة به إلا للخلاص.

لم يكن الرجل دقيق ملاحظةٍ ليدرك ما بي،  أو ربما أدرك وتجاهل. حال الناس هذه الأيام لا يكترثون بالشخص إلا لحظة حدوث الواقعة، يهبون لالتقاط صورة له وهو يذوي ليحركوا بها المنطق العام.

ربما يمتليء هاتف الرجل الذي أضحى فسفورياً بالكامل أمامي، بصور أناس طلبوا  منه النجدة لحظة انشغاله بتصويرهم، بل هو ألعن بكثير مما في هاتفه، فها هو قد مد لي دون مبالاة حزمة من المغلفات قائلاً بأنها تنبيهات من مصلحة الضرائب. لم أسمع منه سوى الكلمات الأولى، ابتلعت ريقي بذهن مشتت و طلبت منه دون النظر إليه أن يعود في وقت لاحق:

“من فضلك عد مرة أخرى، أنا جد مشغول”

لكن الموظف رآني بمظهر عادي جداً، ربطة عنق محكمة وشعر لم يتشتت بعد منتصف النهار، وحذاء لم توسخه أرصفة روما، فأوحى له هذا الإطار المشيد بعناية أنني قوي ولا أقهر وأنني ربما أسخر منه وأقلل من شأنه، فمضى يتكلم ويملأ فراغ البناية الذي خلفه  ديمتري.

قلت متوسلاً عطفه:

– أرجوك اسكت الآن فقط..الآن فقط.

أريد أن أكون بمفردي… دعني بحق أنبيائك وقديسيك. أو حتى اللاشيء إن كنت تؤمن به.

لكن الموظف القصير لم يلق بالاً لكلماتي كما لو أنه سمعها مراراً من زبائن مكتب الجباية والمتهربين من سداد الديون أو أنه كان يستمع لشيء آخر وأراد إنهاء الشريط المسجل داخله قبل الواحدة ظهراً، أو أنه مسيحي غير مكترث، غارق في الاعتقاد ببوذا أكثر من البوذيين! ما يدريني،  وما يدري رجل دائخ عن رجل في ذروة صحوه؟

 أظنني رأيت عينيه أو اتضح لي أن له وجه حين صرخت به: اللعنة عليك وعلى القانون و على المادة الحادية عشرة، هل قلت لي المادة الحادية عشرة أم العاشرة أم الثانية عشرة؟ ماعدت أذكر،  ومع ذلك اللعنة عليها أياً كان موضعها من القانون حتى تصيبها اللعنة ولا تتخطاها.

 

بل اللعنة حتى على حياتي السيئة التي انتهت بي هنا بينكم مع المادة الحادية عشرة أو العاشرة. ما عدت أدري فأنا إنسان تلاحقه الضرائب بينما هو يحتضر.

 استمر الموظف يسرد القوانين ويريني بعض المغلفات وأنا لا أرى شيئاً من عالمه الميت الذي يفرضه على عالمي الذي يموت.

رأيت وجهه معبأ بالدم والتراب لكن صوته كان مثل آلة سحب اليانصيب في البقالات الفقيرة. اعتيادياً. صوت يتكلم فينا من الصباح للمساء من دون أن يغير حال فقراء البقالات المتواضعة.

مسحت العرق الذي سقط على عيني ليرى حالتي الحقيقية. إنسان جرح للتو، ينزف يرغي. يتخثر دمه. يفرغ جسده منه. يسبح في فراغ أسود وسيع. تضرب قلبه مشاعر مجهولة. يبكي ولا يصدر عنه إلا محاولة افتكاك لسانه المتخثر من تكدس الكلام.

صعدت الدرجات الأولى للسلم، فككت ربطة عنقي، فتحت الزر الأول والثاني للقميص. أرجوك دعني أنا أنزف هذه اللحظة.

أين أنت ياديمتري اللقيط؟

وكأني قلت ما يجذبه أكثر إلي  انجذاب حوت القرش للدم، صعد ورائي مستفيضاً في الكلام عن قانون العقوبات.

اتجهت غاضباً  للمطبخ. لم يتوقف عن كلام، ماعدت أفهمه. كان ورائي وأدراج المطبخ حيث السكاكين من أمامي. فتحت الدرج الأول فاستجاب الثاني من تلقاء نفسه وفتح نفسه بسرعة أمامي. بحثت عن شيء يضرب بقوة وحسب، لم يكن ثمة سكين معينة أريدها، أي سكين تظهر تلك اللحظة المغشوشة ستكون قادرة على أداء ما أريده منها، قدمت لي سكين اللحم التي قطعت بها ديك عيد الميلاد نفسها، أخذتها وأدخلت نصفها على الفور في أحشائي، فدخلت بانسياب وكأني الديك الثاني في تاريخها، سقطت على الأرض فوراً و سقطت فوقي وعلى جانبي كلمات الموظف المتدفقة. لكني لم أعِ عن أي فقرة من القانون كانت.

حين نزلت دمائي كالنافورة شعرت بأني هدأت وتخلصت من مطاردة الحزن  والضرائب لي.شعرت كأني احتفظ بإيزابيل في اللحظة التي منعت نفسي فيها من التألم بسببها.

أنا لم أعد مجرد إنسان مترهل خامل يتعاطي النقد السينمائي. انتقلت إلى الفعل السينمائي الحركي نفسه، وانتقل تأثيري لموظف البريد الفسفوري، فقبض يدي وحاول التأكد من أنني لازلت حياً بينما يطلب الإسعاف والطوارئ بيده الآخرى.

-النجدة.. النجدة..المواطن ألبيرتو فيليني 61 سنة،  القاطن بشارع سانتاماريا كروز، الجادة الحادية عشر، طعن نفسه أمامي بسكين الآن. لا أدري  لماذا، إنه يغيب عن الوعي.

أسند رأسي لركبته محاولاً الاحتفاظ بي صاحياً وسألني:

– سيد ألبرتو. سيد ألبرتو، هل تسمعني؟ هل تود إخباري شيئاً؟

دل سؤاله على أنه متفرج جيد للأفلام، فهذا المشهد ما كان ليفعله رجل عادي مهمته ملاحقة الضحايا للشركات. وهذا ما أراحني وأنا أواجة نهايتي، فلولا النقد السينمائي، ما استطاعت السينما تحقيق أي تأثير غير ملحوظ في سلوك العامة، أكثر مما تفعله ضرائب الحياة المتعددة.

تحاملت على نفسي وكانت هذه آخر جملة لي حياً:

– أرجوك اصمت…فأنا أموت!

 

*****

خاص بأوكسجين


قاصة وروائية من ليبيا صدر لها العديد من الروايات والمجاميع القصصية منها: "وبر الأحصنة"" 2005، و""مضمون البرتقالي"" 2008، و""الملكة"" 2009، و""الجدة صالحة"" 2013. و""زرايب العبيد"" 2016 (ضمن القائمة القصييرة لجائزة بوكر)."