عشاء مع القاتل
العدد 258 | 17 تموز 2020
مروان عثمان


 

 ارتديت بذلتي الرسمية،

 نظرت في المرآة،

 كنت لأقول بأني تأنقت لولا أن الموقف لا يحتمل تأنقًا ولا يحتاجه.

 خرجت متوجهًا للعشاء.

 جلست إلى الطاولة المخصصة لنا، وكان هو قبالتي، ولولا رؤيتي لصورته مسبقًا، لقلت أني بالتأكيد فيما يسمى “عشاء عمل” مع مستثمر ثري.

 سرعان ما التقطت قائمة الطعام وبدأت تصفحها. كان البروتوكول يقتضي أن أسأله عما يود تناوله من طعام على سبيل تحطيم جدار الصمت بيننا، والولوج في الحديث من باب الطعام، فأجابني:

-طبق مشويات مع السَلَطة الخضراء، وعصير برتقال.

 لم أتوقف طويلًا عند رده الغريب، إذ توقعته سيقول “أي شيء”، “اطلب لي أنت”، أو أيًا من تلك الجمل التي لا تشي بانفتاح الشهية بهذا الشكل الغريب!

 جاء النادل وأخبرته بالطلب كما هو، فقط ضاعفت من كل طبق طلبه، حتى لا أعود للتفكير فيما سآكله، ثم قلت محدثًا نفسي: غريب! أيطلب هو طعامًا بشهية مفتوحة وهو على شفا الموت، بينما أحجم أنا عن الطعام وأرضى بأي شيء يؤكل!

 دفعتني تلك الخاطرة العدمية على الابتسام، لاحظ بدوره ابتسامتي، فتساءل محاولًا التودد:

-ما يضحكك؟!

 استثقلت دمه، يوجه سؤالًا سخيفًا لشخص لا يعرفه!، أجبته بفتور:

-لا شيء.

 ثم وجدتني أقول مغيرًا مجرى الحديث:

-أود أن أسألك بخصوص زميلي الذي قتلته، حول دوافعك، وأسبابك؟

قال بشيء من اللامبالاة التي لا تليق بالموقف:

-أولًا، أود تقديم عزائي لك.

فهززت رأسي، ووددت لو قلت: “أعفني من ديباجاتك السخيفة!”

 لا حاجة له بكل هذا، فمعرفتي بالمجني عليه معرفة سطحية، لا يجمعنا سوى العمل المشترك فقط، أنا هنا لأنه لا أهل له ولا أقارب، أو أصدقاء.

 وددت لو قلت له أيضًا: “لست معنيًا بأسبابك أو بغيرها، أنا هنا الآن فقط بسبب القانون لا أكثر، القانون الذي يضع أمثالي دائمًا في مواقف لا يحسدون عليها كهذا الموقف!”

 فكل هذا الهراء الذي أنا فيه، مردّه القانون الذي أصدروه منذ عام أو اثنين تقريبًا، بعدما قدم برلماني اقتراحًا طائشًا بإلغاء أحكام الإعدام، والحذو حذو الدول الأخرى التي تصنفه حكمًا غير إنساني.

 لاقى اقتراحه اعتراضًا هائلًا في البداية، لكنه على الجانب الآخر وجد بعض المؤيدين الذين صاروا يتزايدون يومًا بعد آخر.

وتلا ذلك عدة نقاشات برلمانية استمرت لشهور.

 ووجدت برامج التوك شو هي الأخرى ضالتها في هذا الموضوع، بعدما لم تعد تجد جديدًا تقوله في الشأن العام، فصارت تستضيف الخبراء بالقانون ليمتد الجدل بينهم لساعات.

 وفي يوم تالٍ، يستضيفون بعضًا من الضباط الذين حضروا أحكام الإعدام وتنفيذها، إلى جانب استضافة طبيب نفسي يتحدث عن أثر ذلك في نفوسهم، وأثره على أسرهم على المديين القريب والبعيد.

 وفي يوم لاحق، يعددون حالات الإعدام التي اكتُشفت براءة أصحابها بعد فوات الأوان.

 وهكذا دواليك.

 في النهاية وصلوا لحل وسط غريب، قرروا بعد الحكم على أي متهم بالإعدام وثبوت الأدلة عليه، والانتهاء من النقض والاستئناف وكل تلك الإجراءات القانونية، أن يُحدد له موعد عشاء مع واحد من ذوي المجني عليه، من أسرته أو أقرب أصدقائه.

 فيأت كما أتيت هكذا، لقاعة طعام فخمة داخل محكمة، يسلم بطاقته للضابط المسؤول، ويجلس مع الجاني لمدة تمتد من ساعة إلى اثنتين، وبعد ذلك يكتب تقريرًا يُرفع إلى المحكمة، إما بإعدامه، وإما بعدم إعدامه، وفي الحالة الثانية تعود المحكمة فتوقع عليه أقصى عقوبة ممكنة، لكنها لا تقوم بإعدامه.

 في البداية احتج الجميع على هذا القرار الغريب الذي وصلوا إليه، بما فيهم من كانوا ضد فكرة الإعدام، فكيف يظنون نتيجة لقاء الجاني بذوي المجني عليه!

 صحيح أنهم اتخذوا تدابيرًا تخص السلامة، بإبقاء ضباط على مسافة قريبة لا تسمح لهم بسماع الحديث الدائر، لكنها تكفيهم للتدخل في حالات الشجار وما إلى ذلك.

 وينص القانون أيضًا على أن أي اعتداء من الجاني سواء لفظيًا أو باليد يعني الإنهاء الفوري للعشاء، وتجهيزه للإعدام في اليوم التالي.

 أما إذا حدث العكس واعتدى المقرب من المجني عليه، فتبقى له حرية كتابة ما يريده في التقرير، لكنه يقع تحت طائلة القانون فيما يخص الاعتداء، الذي يُرفع في تقرير إلى محكمة تختص بالنظر فيه، وتوقيع عقوبة تتراوح بين الغرامة المالية والسجن لمدة عام.

 الغريب أننا عندما سمعنا نص ذلك القانون في بداية صدوره، لم نتوقع التزامًا به، لكنهم في النهاية رضخوا له مضطرين، لأن ذلك العشاء يعد من إجراءات ما بعد الحكم بالإعدام، ما يعني بأن الجاني سيُعدم في حالة عدم إتمامه.

 نشرت الصحف دراسة تفيد بأنه في البدء كانت معظم التقارير، إن لم تكن كلها، تشير إلى إعدام الجاني، وكان الأمر كله في طريقه للفشل، لكن بعد الوصول إلى العدد مائة من التقارير تقريبًا، لاحظوا أن نسبة التقارير التي تفضي إلى عدم الإعدام قد تزايدت!

 رجل سرق مالًا ليطعم أولاده، وعندما تهجم عليه صاحب المال، قتله، فبكى أخاه، وقال أنه لطالما نصحه بالتصدق من ماله والإغداق على المحتاجين، وبأن المحتاجين، وحتى لا يترك بابًا من الإحساس بالذنب، يقرر عدم إعدامه من باب عتق الرقاب.

 شاب يقتل صديقه بعد وقوعهما تحت تأثير حبوب الهلوسة، فيقرر الأب لعلمه بأن ابنه هو الذي دفع صديقه لتلك الحبوب منذ البداية عدم إعدامه، لأنه يرى أن القدر وحده بدل موقع ابنه وجعله مجنيًا عليه بدلًا من جانٍ.

 والحادثة الشهيرة التي تصدرت عناوين الصحف وكانت محور أحاديث الناس لأسابيع، عندما قرر زوج عدم إعدام قاتل زوجته الحامل، بعدما اكتشف أنها كانت عشيقة القاتل في السر، وقتلها بسبب حملها منه خلافًا لما اتفقا عليه، وبعد ذلك بأيام وجد الزوج منتحرًا بالقفز من شرفة منزله.

 قُدمت إلينا أطباق الطعام، راقبته بعينين متفحصتين، فوجدته يتنحنح ويهم بتناول الشوكة والسكين في يديه، مادًا إياهما في الطبق الموضوع أمامه بهدوء رجل يفكر بما ينتظره من أعمال مؤجلة!

 ساعدت ملابسه الرسمية، بذلته الأنيقة، وذقنه المحلوقة بعناية في زيادة هذا الإيحاء.

 في البداية عندما أخبروني بالحضور ببذلة رسمية، سخرت من الموقف، لكني الآن أراها تؤتي نتائجها وتزيل الكثير من الحساسيات التي لا تزول بمفعول السحر.

 فقررت فتح باب الحديث من جديد، وتكرار سؤالي حول الدوافع والأسباب، ذلك السؤال الذي كان من الممكن تجنبه لو أني اطلعت على محاضر جلسات المحكمة وحيثيات الحكم كما أخبروني مسبقًا بأن من حقي أن أفعل، لكن ولأن المجني عليه لم يكن أكثر من زميل في العمل، تكاسلت ولم أبد ولو فضولًا طفيفًا بالأمر.

 لكن من الجيد أني لم أفعل، فالآن وفي خضم تلك التجربة الغريبة التي قد لا تتكرر في العمر مرة ثانية-كما أرجو-، أظنني قد استبد بي الحماس وصرت مهتمًا فجأة بالتجربة التي تصلح مادة ثرية للحكي، وقد تُعجب الكثير من الفتيات على ما أظن.

 قال لي في صوت وقور يليق بالحدث، ولا يليق بالموقف:

-في البداية، أود تعريفك بنفسي…

 وذكر اسمه، الذي لم أنتبه إليه لتعجبي من صاحبه ومن إصراره المدهش على تثبيت انطباعي عنه، وكأنه يلعب دورًا محكمًا في قصتي الهزلية، يلعب دورًا يفسدها، يجعلها لا تُصدق!

 ثم أردف:

-سأحكي لك حكايتي في عجالة…

 قالها بأنفة يُحسد عليها، أنفة جعلتني أتضاءل أمامه فجأة، وكأنني مذيع تلفزيوني يلح لإجراء مقابلة مع نجم من نجوم الفن أو الرياضة يحرص على تقليل ظهوره التلفزيوني كي يبقى لامعًا، فقلت وكأني اتفقت ضمنيًا على المُضي معه في هذا العبث:

-تفضل.

استأنف بعد بلعه قطعة اللحم التي أحسبها مُضغت جيدًا بين فكي أسنانه:

-سافرت إلى الخليج للعمل وأنا في سن صغيرة، كان عملي هنالك صعبًا، لكنه در عليّ مالًا وفيرًا، ولأن حياتي السابقة للسفر قد خلت من الكثير من المُتع، انفقت دخلي كله على متعي ونزواتي الشخصية، أنت شاب وتفهمني بالتأكيد، سيارات على أحدث موديل، ملابس غالية الثمن، سفر إلى أوروبا من وقت لآخر، عشت الحياة التي يتمناها أي شاب في مثل سني وقتها، وساعدني في ذلك غياب المسؤولية الأسرية، أعني عدم اضطراري لتحويل مدخراتي لأسرتي لأن من بين أفرادها أمًا مريضة، أو أختًا بحاجة للزواج، فأسرتي كانت متوسطة الحال ولم تبتلَ بكل ذلك..

قلت محدثًا نفسي في غضب مكتوم: ماذا عساه يقول هذا الوغد! وهل أسأله عن أخر مسلسل شاهده! ما علاقة كل ما يثرثر به الآن بقتله زميلي في العمل، هل سيخبرني في نهاية هرائه أن كل ما قام به كان بسبب الطمع ويعظني بالرضا بالحال حتى لا أجد نفسي في مصيبة مثله!

 لكن زميلي لم يمتلك في حياته ثروة من الأساس!

 فلينجز هذا السفاح الوغد حكايته التي لا لزوم لها تلك ويدخل في صلب الموضوع، كي لا أضطر لإنهاء طعامه اللذيذ، كتابة تقرير يقضي بإعدامه، مضيفًا التماسًا شخصيًا بأن يكون إعدامًا وحشيًا لا تنساه روحه القذرة خلال رحلتها للعالم الآخر!

 انتبهت إليه مجددًا، وتساءلت مستفهمًا:

-لكني لا أفهم ما علاقة كل هذا الذي تقوله بقتل صديقي؟!

رد كمن كان ينتظر سؤالي:

-ببساطة، عدت لمصر بعد انقضاء سنوات شبابي بلا مدخرات، فقد انفقتها كلها كما أخبرتك.

 لكني بعد سنوات، أتيحت لي فرصة ذهبية أخرى للثراء، مات والدي وترك لنا ميراثًا أنا وأختي، البناية التي كان يسكن فيها صديقك، بناية قديمة لكنها في حي راقٍ ومرموق، فلاحت لي العديد من الفرص الذهبية للدخول في شراكة مع مستثمرين يتكفلون بهدم البناية وتحويل قطعة الأرض إلى برج تجاري كبير.

 وجدتها فرصة لا تعوض، خصوصًا وأنهم سيعطونني مبلغًا ماليًا كبيرًا إلى جانب دخولي شريكًا معهم في المشروع، لكن العقبة الوحيدة كانت في صديقك الذي كان يقطن شقة في البناية استأجرها والده من والدي بعقد إيجار قديم يُجدد تلقائيًا منذ زمن بعيد.

 عرضت عليه أموالًا نظير إخراجه من الشقة، ورفض.

 عرضت عليه أموالًا وشقة أخرى، فثبت على رفضه.

 لأنها على حد تعبيره ذكراه الوحيدة المتبقية عن والده وأسرته، أخبرتها بأنه لا يمتلكها وكل ما في الأمر عقد إيجار، قال إن العقد يكفل له العيش فيها حتى الموت وهذا فقط ما يحتاجه، ولا يحتاج لأن يملكها أو يملك غيرها لأنه ليس لديه من يورثه أو يقلق عليه إذا ما فاجأه الموت.

 وتلك الأسباب نفسها هي ما وسوست إليّ بقتله، فهو وحيد ولن يسأل عنه أحد، كما أنه معروف ببساطته وطيبته، وعدم تكوينه لعداوات مع أحد.

 إحقاقًا للحق، تعاطفت بعض الشيء مع صديقي المجني عليه، فهو لم يرغب بشيء سوى العيش مع تلك الذكرى الباقية له من والده، صحيح أن الأمر ليس منطقيًا، ولو كنت مكانه لقبلت بما عُرض عليّ من دون شك، لكن غبائه هذا لا يعد مبررًا للضبع الجالس أمامي ليطلق النار عليه!

 ترحمت عليه في سري، لكني تعجبت كيف أُمسك بهذا الرجل بعد أن انتقى له القدر بكل تلك العناية ضحية مناسبة، فسألت:

-لكني لا أفهم، كيف أمسكوا بك في نهاية المطاف؟!

 ندت عنه ابتسامة، فقرصت نفسي غير مصدق لما أراه أمامي، لكن سرعان ما انتبهت إليه وهو يقول:

-لن تصدقني! لم يكشفني سوى المسدس وكاتم الصوت اللذان استأجرتهما من محل الأسلحة الواقع في نفس الحي برقم بطاقتي…

 ضحكت ضحكة اشمئزاز من غبائه، بعدما أهداه القدر بكل سهولة جريمة قتل مثالية تجعله ثريًا، لم يتكبد أي عناء في التخطيط لها، فقط استأجر سلاحًا من محل للأسلحة، وفي الحي نفسه، ثم اتصل بالمجني عليه وأبلغه أنه سيأتي لزيارته والتحدث بخصوص الشقة، فتح له المسكين الباب في الموعد المحدد، أشهر الرجل مسدسه وأطلق عليه طلقتين.

 أراهن أن المحقق المختص بتلك القضية، لم يتخيلها بتلك السهولة، لم يحسب حسابًا لوجود سفاكي دماء بهذا الغباء!

 ترك الجثة وخرج من الشقة، وفي الموعد المُحدد أعاد السلاح لمحل الأسلحة بعدما تأكد من إزالة بصماته من على قبضته، يا للسخرية!

 وددت في الحال لو أنهيت العشاء وكتبت تقريرًا بإعدامه، لكنني فكرت طويلًا، واستصعبت الأمر، كم هو صعب بالفعل أن تجلس مع رجل وتشاهده يأكل، وبعد ساعات تكتب موافقتك على قتله!

 نعم، إنه مجرم ويستحق ذلك بالتأكيد وأكثر، لكن ما يحدث بات يربكني، يشعرني بوجود مسؤولية كبيرة ملقاة على عاتقي، كلمة أكتبها تُبقي روحًا على الأرض أو ترسلها لتحت الأرض…

 في الموعد المحدد، أعلن الضابط المسؤول انتهاء العشاء، أعادوا الكلبشات إلى يديه استعدادًا لنقله للسجن، وناولني الضابط بطاقتي الشخصية وهو يحييني بابتسامة، يود معها لو يسألني “كيف كانت تجربتك؟!”

 عدت إلى بيتي، وبدأت كتابة التقرير المطلوب…

 

القاهرة

11-5-2020

*****

خاص بأوكسجين

 


قاص ورائي من مصر. صدر له رواية بعنوان "حكاية سقطت من الزمن"" (2017)."