عالم ينتهي مرة واحدة
العدد 234 | 01 آب 2018
تيم الكردي


 

وقتها كان العالم مرتمياً على الأرض ولا يقدر على اللهاث، حينما ولدت في يوم كان الله غارقاً في النوم، متعباً من مراقبة ومعاقبة الضالين، كل تلك المعابد التي تحتضن الغبار لم تعرف دروبها إلا الأعشاب التي تنمو في شقوقها. كانت الآلهة قد أصبحت قديمة للغاية، حكايات الأصنام تركناها مرمية أسفل السرير لنجد ما نتحدث عنه عند الملل، والكل يحكي عن النهايات، ولدت بعد كل تلك النهايات.

عرفت كم قاسية هي الأيام التي تتوالد على هيئة كرات حجرية ضخمة، بثقل لا يبسط طريقاً بل يحفر قبوراً للمارقين عليها، قبوراً لا يحضنها التراب. كان من المخيف أن تقضي أيامك لا تؤمن بأن الغد سيكون يوماً أجمل، كان من المرعب أن تؤمن أن الغد سيكون أجمل ليوم أشد وحدة منك.

وكما هي تلك الجثث الملتحية التي دفنت نظيفة وباردة، نحاول القيام من توابيتنا الخشبية، ندوخ من ثقل الأحجار التي ترتطم برؤوسنا ونضحك كثيراً لشدة الألم، نشتكي من نواح الذين يزورون قبور جيراننا أسفل التراب، يبكون خوفاً على أنفسهم، ويتركون آلامهم مع زهور باهتة تزيّف قبور الموتى.

 كما الذين نسوا أزمانهم نجلس ساكنين بانتظار ملائكة مترهلّة تنتزعنا من ذنوبنا، لننتظر نهاية أخرى في مكان آخر. في بواطن جماجمنا تحتشد آلاف النقاط السائلة تداعب عيوننا في كل فرصة وتخشى الخروج إلى الضوء والذوبان، كل ذلك الزجاج المحطّم في أعماق رئاتنا يستحيل سوائلاً تدنّس الأجساد. داخل رأسي لا يملك الناس تفاصيلاً ولا وجوهاً تحمل الحروف الأولى من أسمائهم الكثيرة. تطوف أعضائهم في الهواء ويتناوبون على استخدامها. ولدنا بعد النهايات، لسنا مميزين، نحن أناس يؤمنون بأوهام تقيأها غيرهم، لأننا اخترناها والضجر وحده لا يحتمل.

في كل صباح الكلمات تتدفق من ألسنتنا حارة، لكن شفاهنا في آخر الليل تخرج إلينا باردة وجافة. الألوان تشكّل الصور التي نحملها في حقائبنا لكن كل ما نذكره رماديّ بالكامل، وحدها الآلهة لحسن الحظ تركتنا وحيدين لمرة واحدة ولم تعد، لكنّا بقينا نستحضرها كلما تذكرنا أنها في الأعلى ونحن عالقون هنا في الأسفل إلى جانب آخر النهايات.

اشتهي كل يوم عالماً ينتهي مرة واحدة إلى الأبد، أغلق عينيّ لأفتحهما في العدم، لا لون ولا لغة، أرى ثقوباً لا تنتهي وغراباً وحيداً ينقر بطنه منتظراً دماء سوداء، أقلّده لأكتشف أن دمائي حمراء قبيحة.

أغلق عينيّ ساعات طويلة، أفتحهما لأرى أن العالم ما زال يضّج. أنتظر الرحيل، ملايين الطرق لا تتسّع للرحيل جميعه، كل الطرق لا تتسّع لرغبة أحدنا في الرحيل.

كنت ملقى على صخرة أقلد جمودها، لكن الموج كما الحياة تماماً، لا يتوانى عن إثارة الضجيج واستعادة أسراه إلى جوفه، حتى أولئك الذين لم يتعلموا “إيتيكيت” يلائم الغرق.

للصخور أيضاً أحلامها الجميلة المقلوبة. أغلق عينيّ بانتظار الموج، أصحو في آخر البحر حيث تختفي الشمس، أرى النور قريباً في القاع ولا أملك الوقت الكافي للعوم، تمنيّت لمرة واحدة أن العالم لا يمضي.

أغلق عينيّ مجدداً بانتظار الغرق، وأصحو لتكون الشمس تذوب بعيداً عن البحر تاركة أثرها على أصابعي كلما حاولت التقاطها، كل الأشياء بعيدة هنا، لا تنظر إليها أبداً، فكلها من بعيد تبدو باهتة وقد ماتت اختناقاً بلعابها.

أنا الذي رأى ما تحت الصخور التي نقلدها، رأيت المخمورين الذين يحاولون ابتلاع الموج تباعاً باحثين عن قطرة كحول ربما خرجت من مثانة أحدهم، وآخرين لفظتهم الماكينة التي تطحن أعضاءنا لترمينا طعاماً للديدان اللاحمة التي تبحث عن نفايات الأرض. شلّة تقدم قرابينها بالبكاء، شلّة تقدم قرابينها بالضحك حتى البكاء، كلهم يرقصون حتى تتورم أقدامهم وعيونهم، كلهم اعترفوا بأنهم لم يعرفوا السر يوماً، يسحقون عيونهم التي لم ترى يوماً، والعالم الذي يستعصي على الانتهاء يتركنا هناك في الأسفل.

يخطر ليّ فجأة أنني خارج هذه الأرض أملّك العديد من الصور الرقمية في مكان ما، ما زلت أتجنب تصفحها لو لمرة فقط، في بعضها وجوه لا أتذكرها، وفي البقية وجوه أتمنى أن أمتلك المقدرة على عدم تذكرها، وهناك وجهي الذي أبحث عنه دائماً دون الكثير من الأمل.

أبعد عن رأسي هذه الفكرة المثيرة للأسى، أبصق القليل من الماضي على كل موجة تتحضر للابتعاد، وأرجو أن ترجعهم مع كل موجة تعود، اليأس، أعيد خلق من أبصقهم مرة بعد أخرى، أرجو للعالم أن ينتهي مرة أخيرة.
أنتظر الفجر لكي أبحث في وجوه كل العائدين، أنادي وجهي كثيراً ولا أراه يقترب، لا أراه على الإطلاق، أصلّي صلاة صغيرة لليل، ربما يعود لأنسى وجهي والآخرين.
 

*****

خاص بأوكسجين
 


كاتب من سورية.