طفل الحليب
العدد 196 | 10 آب 2016
نبيل عبد الكريم


فرصة العمر

أجرت شقتي مفروشةً لرجل غريب اسمه (مالك)، استهجن سؤالي عن أوراقه الثبوتية عند توقيع عقد الإيجار وقال وهو يعطيني رزمة سميكة من النقود :

اطمئن، أنا لا أغادر بيتاً سكنته أبداً.

الشقة عبارة عن غرفة واحدة وصالة مستطيلة الشكل فوق سطح البيت الذي ورثته عن أمي، وأمامها شرفة مفتوحة واسعة تطل على جبال عمان الشرقية، عندما رآها الرجل انفرجت أساريره وقال:

هذا ما أبحث عنه، أفق مفتوح. ثم سرّح بصره في أرجاء المدينة وأضاف:
كم أكره الآفاق المغلقة!

فوح التبغ المنبعث من النارجيلة وقرقرتها الصاخبة المتسللة إلى أنفي وأذنيّ تذكرني بالسهرات السعيدة التي انقضت من عمري فوق تلك الشرفة، وها هو الرجل يعيش حياتي التي خلّفتها ورائي، وأغلب الظن أنه يستخدم الآن نفس الكأس التي طالما شربتها صحبة صديقاتي الجميلات. أستيقظُ فجراً فيختلط صوت الأذان بصوت (بوب مارلي) مغنياً (نو وومن نو كراي) فتسحرني الموسيقى المسترخية في هدأة الفجر، ثم يتملكني الغضب فأقف على سجادة الصلاة وأنا أرتجف والدموع تتساقط على قدميّ.

استوقفتني شابة تقف خلف طاولة صغيرة في مدخل المول، ومدت إلي يدها بمنشور دعائي يحمل صورة لأسرة نموذجية تقفز بمرح فوق بساط أخضر، وقالت لي بأدب مصطنع :

ادفع عشرة دنانير واحصل على فرصة العمر و….

شتمتها ومضيت قبل أن تكمل عرضها، وهو سلوك عصبي صار يلازمني منذ تركت شقة (الروف)، وعندما رأيت العمال يصعدون الدرج حاملين حزماً طويلة من أعواد القصب جن جنوني، فقابلني مالك بابتسامة هادئة وقال:

أريد أن أظلل الشرفة على حسابي الخاص، وهي ديكورات خفيفة تحفظ الخصوصية وتمنع الإحراج.

أُصغي إلى دبيب الأرجل القادم عبر السقف، أربعة أرجل، وأحياناً ستة، ومرات ثمانية، بعضها رشيق وسريع، وبعضها لعين وثقيل. تبدأ كَرّها وفَرّها بوقع حاد كحوافر الجياد، ثم تتحول إلى خبب عريض كعدو الجمال، وبعد أشواط عديدة ينتهي الطّراد بسقوط مدوّ يعقبه زحف وجرّ وصراخ وضحك مكتوم وتأوّهات متقطّعة.

أنزلت الساعة الكبيرة عن الحائط ومسحت الغبار الرطب عن إطارها النحاسي الثقيل، عقاربها طويلة مسننة عدوانية، تكاد، لولا سمك الإطار، أن تثقب الساعات الاثنتي عشرة وتمتد خارجها. ماتت أمي دون أن تسأل عن الوقت، وخلال الانطفاء التدريجي لنور عينيها ظلت قادرة على رؤية الساعة المعلقة أمامها، وآخر شيء رأته من كنبتها المهترئة هو تلك الرماح الثلاثة الممتدة إلى زمن لا نهاية له. قلبتُ الساعة على وجهها فوق الطربيزة ونزعتُ غطاءها الخلفي، وفي الحجرة المخصصة للبطارية وجدت صورة بالأبيض والأسود ملفوفة على شكل اسطوانة، لشابة تشبه ليلى مراد في تسريحة شعرها المموّجة باللفّافات، وعينيها العسليتين الضاحكتين. وعلى ظهر الصورة عبارة باهتة مكتوبة بخط دقيق ” حبيبي اسماعيل، أهديك رسمي للذكرى؛ فالذكرى ناقوس يدق في عالم النسيان” .

أجلس في كنبة أمي وأحدق في الحائط، لا أرى الساعة ولكن أرى إطارها بحدوده المتعرجة على شكل نسر مائل الرأس ومنقبض الجناحين، يحدجني بنظرته القاسية، ثم يفتح منقاره المعقوف ويفرد جناحيه على اتساع الحائط وينقض عليّ، ويقف على مسند الكنبة فوق رأسي ويبدأ بنقر نافوخي، فأصحو مفزوعاً وأنا أتحسس رأسي. أسمع صوت صباح فخري يغني (عيشة لا حبّ فيها، جدول لا ماء فيه)، الصوت يخترق أذنيّ مثل رمح طائش أصاب ناقوساً مدفوناً في الرمال، وأشم رائحة شواء يسيل لها لعابي. أفزّ من مكاني وأجري نحو درج البيت وأصعده وثباً إلى شقة الروف. أجتاز الباب المفتوح فأجد كل شيء كما تركته؛ الإضاءة الخافتة والموسيقى الهادئة وكؤوسي والأفق المفتوح ومقعدي الأثير وشوائي ينضج على جمر بديع، ولا أثر لمالك إلا تعريشة القصب.

***

طفل الحليب

اتكأت الأم بظهرها على مسند السرير وأغمضت عينيها، لم ترتخِ ذراعاها اللتان تحيطان بجسد طفلها وتضمانه إلى صدرها العاري، لكنهما تحوّلتا إلى غصنين طويلين ناشفين. استمرّ الطفل يرضع حتى غدا الحليب بارداً؛ فأشاح بوجهه وأخذ بالبكاء. هرع أبوه وجدته وعمته وبذلوا جهداً كبيراً لتخليصه من حضن الشجرة الميتة.

رفضت مرضعات العائلة تلقيم أثدائهن للطفل الذي رضع حليب عزرائيل، وتهرّبن من النظر إلى عيني الأب الحائر. صارت الجدّة تضمّه إلى صدرها فيفتش بيديه الصغيرتين عن الضرع المكتنز فلا يجد غير بالون مفرغ من الهواء.

ظلت العمة تقدم له رضعات الحليب الصناعي إلى أن حنّت عليه أمٌّ مات وليدها فاتخذته ولداً. ظل الطفل متعلقاً بثديي مرضعته حتى قال لها أبوه:

يكفي، لقد سجلته في الروضة.

يعود من الروضة بعد الظهر، يرمي الحقيبة على الأرض فتقع منها الوجبة التي أعدّتها له في الصباح كما هي لم يأكل منها شيئاً، يقفز إلى حضنها ويعريّ صدرها ويحشو حلمتها بين شفتيه الجائعتين. لم تعد ساقاها النحيلتان تحتملان وزنه الثقيل، ولا صدرها الذي نتأت عظامه رأسَه الكبير، ولا ضرعاها المترهلان نهمَه الشديد، وازرقّت حلمتاها والتهبتا ونزتّ منهما الدماء. فتح عينيه المغمضتين وكفّ عن الشرب وسألها وآثار دمائها على شفتيه:

أمي، ما هذه العلامة على جبينك؟

مسحت جبينها بكفها وقالت وهي تنعم النظر في أطراف أصابعها:

– أي علامة؟

– هذه التي تشبه العلامة التي ترسمها المعلمة على دفتري عندما تغضب مني.

عاد ابن عزرائيل إلى بيت أبيه بعد أن ماتت مرضعته، وصار يأكل كلّ ما يوضع أمامه من طعام طالباً المزيد، ومن يره لا يصدق أن هذا الجسد الضخم هو لطفل في الخامسة من عمره. احتضنته جدته وشاركته فرشتها، يدفن وجهه في صدرها فيشتمّ رائحة نباتية لا تعجبه، وحين تستيقظ في الفجر تجده قد اندسّ في فراش عمّته.

– متى تتزوج عمتي. يسأل جدته فتجيبه:

– عمتك ما زالت طالبة، ستتزوج بعد أن تتخرج من الجامعة.

– وهل ستعيشين حتى تتخرج. يسألها وهو يحدّق في العلامة الغائرة في جبينها.

استيقظت الشابة في الفجر على نطحة قوية من الرأس الكبير في صدرها، فقالت بعد أن دفعته بيدها :

– ارجع إلى فرشة جدتك ولا تزعجني.

– جدتي فرشتها باردة. قال وهو يلتمس الدفء في حضن عمته.

رفعت العمة رأسها فرأت وجه أمها مثل قطعة من البلاستيك، فاحتضنت الرأس الكبير وأجهشت بالبكاء.                                                                            

بعد وفاة الجدة صار منامه الدائم في حضن العمة، يتشمّم صدرها ويحدق في جبينها كلّ ليلة وهي غافية. أنهت العمة دراستها وتوظفت فى شركة ذات ساعات عمل طويلة.

– عمتي، متى ستضعين طفلك؟ سألها من تحت الغطاء الثقيل، ارتبكت وتلعثمت قائلة:

– كيف سيكون عندي طفل ولم أتزوج بعد! وأتبعت قولها بضحكة بلهاء.

– ولكني أشمّ رائحة حليب في صدرك.

انتفضت الشابة وأزاحت الغطاء بيديها وقدميها ونظرت إليه بعينين مذهولتين ثم تمالكت نفسها وقالت متوسلة:

– إياك أن تكرر هذا الكلام أمام جدك.

– لن أخبر أحداً، أقسم على ذلك، أنا فقط أنتظر الحليب.

***

 

نبيهة وقطتُها النائمة

كريم الترطيب يَسرُج على أصابعها الطويلة تحت ضوء الأبجورة الواطئة، وهي تفرك كفّيها بنعومة ثم تمسد ببطء شعر قطتها المسترخية في حجرها. التشابه غريب بين الكرتين الزجاجيتين الزرقاوين في وجهيهما، لكن البريق في عيني نبيهة أكثر سطوعاً من مثيله في عيني المفترسة الأليفة المغمضة العينين دون إحساس بالفولتيّة العالية التي تشحنُ فضاءَ الحجرة.                                                                       

 على مدار ساعتين نجحت نبيهة في إخفاء أظفار كفيها تحت طيات شعر قطتها، لكنها عبثاً حاولت إخفاء أظفار عينيها وهي تصغي إلى الشاعر الجالس على الكنبة المقابلة؛ تمرر نظراتها على جسده عضواً فعضواً وتغرزُها فيه، ولا تنتقل إلى عضو آخر حتى ترى الدم ينزّ من الأول، إلى درجة أن الكلمات كانت تخرج من شفتيه مبللةً بالدماء. رأسها يميل يمنة ويسرة على زمبركات عنقها وعيناها المستنفَرتان تنتقلان بين جبهته العريضة وصدره المكشوف من فتحة قميصه الواسعة مروراً بأنفه وفكّيه وعنقه، أما عيناه الحالمتان فكانتا بمنأىً عن مخالبها رغم أنه كان يحدق فيها، وعبثاً حاولت أن تغرزها فيهما لتسحبهما إلى مجالها المغناطيسي، وفي لحظة جنون غرزت مخالب يديها في جسد قطتها فانتفضت المسكينة وأبرقت عيناها الرعب وأطلقت مواءً حاداً وطارت نحو الشاعر المختبئ تحت طيات شِعره وأنشبت أظفارها في صدره.                               

– عليك أن تطفئَ الحريقَ الذي أشعلته كلماتك. قالت نبيهة للشاعر بعد أن انتبه.             

– وعليك أن تمسحي الدماء التي سفحتها قطتك. قال وقد هاله العنفُ الذي مورس عليه.       

– أنت تطفئ ، وأنا أمسح. قالت وهي تمد يديها اللامعتين نحوه.                                                        

– اتفقنا، رد الشاعر وهو يبلل شفتيه بلسانه.                                             

– والقطة، ماذا عن القطة؟ تساءل الشاعر وهو يجثو بين ساقيها.                       

– ستنام في حضن السجادة الليلة. همست نبيهة وهي تلحس قطرة دم سالت على عنقه.     


قاص وكاتب من الأردن. صدر له مجموعة قصصية بعنوان "الصور الجميلة"" 1996. والقصص المنشورة هنا من مجموعة قصصية صدرت له أخيراً عن ""الأهلية للنشر"" بعنوان ""مصعد مزدحم في مدينة خالية"""