شهرزاد 1-2
العدد 160 | 18 تشرين الأول 2014
هاروكي موراكامي/ترجمة: أماني لازار


كانت بعد كل مرة يمارسان فيها الجنس، تروي لهابارا قصة غريبة مشوّقة. مثلها مثل الملكة شهرزاد في “ألف ليلة وليلة”. ولو أن هابارا بخلاف الملك بالطبع، لم يكن ينوي قطع رأسها في صباح اليوم التالي. (هي لم تبق معه أبداً حتى الصباح بأي حال.) حكت لهابارا القصص لأنها كانت ترغب بذلك، لأنها كما خمن، تستمتع بالاسترخاء في السرير والتحدث إلى رجل أثناء تلك اللحظات الحميمة الواهنة، بعد ممارسة الحب. وربما لأنها تمنت أيضاً أن تروّح عن هابارا الذي كان عليه أن يمضي الأيام حبيس البيت.

لهذا السبب، أطلق هابارا على المرأة لقب شهرزاد. هو لم يستعمل الاسم مطلقاً في حضورها، لكنه كان يشير به إليها في مذكرات صغيرة احتفظ بها. “جاءت شهرزاد اليوم،” دوّن بقلم حبر جاف. ومن ثم سجل خلاصة قصة ذلك اليوم بتعابير بسيطة وخفية ليكون على ثقة من إرباك أي شخص قد يقرأ اليوميات لاحقاً.

لا يعلم هابارا فيما إذا كانت قصصها حقيقية، مبتدعة، أو حقيقية في جزء منها ومبتدعة في آخر. لم تكن لديه وسيلة لمعرفة ذلك. بدا أن كلّ من الواقع والافتراض، الملاحظة والخيال الصرف مختلطون معاً في رواياتها. وبالتالي استمتع هابارا بها كما قد يحصل لطفل، من دون الكثير من التشكيك. ما الذي يمكن للاختلاف الجائز أن يصنع له، في آخر الأمر، إذا ما كانت حقيقة أم أكاذيباً أو مزيجاً معقداً من الاثنين.

على كل حال، كان لشهرزاد موهبة رواية القصص المؤثرة. لا يهم ما هو نوع تلك القصة، فقد جعلت منها قصة مميزة. صوتها، توقيتها، سرعتها، كانت كلها بلا شائبة. لقد استولت على انتباه مستمعها، مستثيرة إياه، تقوده إلى التفكير والتخمين، ومن ثم في النهاية تقدّم له تماماً ما كان ينشده. مسحوراً، كان هابارا قادراً على نسيان الواقع المحيط به حتى ولو للحظة. لقد أزيلت عنه المخاوف من الذكريات السيئة، مثل سبورة سوداء ممسوحة بقماشة مبللة. من يمكنه أن يطلب أكثر؟ في تلك اللحظة من حياته، كان هذا النوع من النسيان ما يتمناه هابارا أكثر من أي شيء آخر.

كانت شهرزاد في الخامسة والثلاثين من عمرها، تكبر هابارا بأربع سنوات، ربة منزل متفرغة ولها طفلان في المدرسة الابتدائية (ومع ذلك كانت أيضاً ممرضة مرخصة، وعلى ما يبدو كانت تستدعى للعمل بين الحين والآخر). كان زوجها ممثلاً نموذجياً لشركة. كان بيتهما على بعد عشرين دقيقة من بيت هابارا. هذه كانت كل المعلومات الشخصية التي قدمتها تقريباً. لم يكن لهابارا وسيلة للتأكد من أي منها، لكنه لم يتمكن من التفكير بأي مبرر للشك بها. هي لم تكشف عن اسمها أبداً. ” ليس لك حاجة بمعرفته، أليس كذلك؟ “سألت شهرزاد. وهي أيضاً لم تسمي هابارا باسمه أبداً، ولو أنها بالطبع تعرفه، لكنها تجنبت الاسم بحكمة واضحة، كما لو أنه سيجلب بطريقة ما النحس أو سيكون من غير المناسب أن تنبس به شفتاها.

 

ظاهرياً، على الأقل، لم يكن لشهرزاد هذه شيئا مشتركاً مع الملكة الجميلة في “ألف ليلة وليلة.”  كانت في طريقها إلى خريف العمر، وبالفعل كان لغداها وخطوط النسيج المحيط بزوايا عينيها آخذة بالتهدل. لم تكن تسريحة شعرها، زينتها، وطريقتها في اللباس تخلو من العناية تماماً، ولا كان من المحتمل أن تلقى أي إطراء أيضاً. لم تفتقر سماتها للجاذبية لكن وجهها كان ينقصه الاهتمام، وبالتالي كان الانطباع الذي تتركه مبهماً. وبالنتيجة، ربما لفتت قليلاً انتباه هؤلاء الذين ساروا بمحاذاتها في الشارع، أو شاركوها نفس المصعد. ربما كانت قبل عشر سنوات امرأة شابة جذابة وحيوية، ربما تكون أيضاً قد جذبت انتباه بعض الأشخاص. لقد أسدلت في مرحلة ما من عمرها الستائر على ذلك الجزء من حياتها وبدا من غير المرجح أن تُرفع ثانية.

كانت شهرزاد تأتي لرؤية هابارا مرتين أسبوعياً. لم تكن أيامها ثابتة، لكنها لم تأت أبداً في نهاية الأسبوع. لا شك أنها أمضت ذلك الوقت مع عائلتها. كانت تتصل دائماً قبل ساعة من قدومها. تشتري الخضار من متجر محلي وتجلبها له بسيارتها، “مازدا” صغيرة زرقاء “هاتشباك”. موديل قديم، كان فيها انبعاج في المصد الخلفي وعجلاتها مسودة بالسخام. تركنها في المساحة المخصصة للمنزل، تحمل الأكياس إلى الباب الأمامي وترن الجرس. بعد النظر من ثقب الباب سوف يفتح هابارا القفل، ويحل السلسلة، ويدعها تدخل. في المطبخ سوف تفرز الخضار وترتبها في الثلاجة. ومن ثم تصنع قائمة بالأشياء التي يتوجب عليها شراؤها في الزيارة المقبلة. كانت تنجز هذه المهمات بمهارة، بالحد الأدنى من الحركات المهدرة، بالقليل من الكلام أثناء ذلك.

عندما تنتهي، سينتقلان معاً إلى غرفة النوم بصمت، كما لو أنهما محمولان إلى هناك على تيار غير مرئي. تنزع شهرزاد سريعاً ملابسها وتبقى صامتة، منضمة إلى هابارا في السرير. هي بالكاد تتكلم أثناء ممارستهما الحب، كما أنها تؤدي كل فعل كما لو أنها تكمل مهمة. عندما كانت حائضة، استعملت يدها لتصل إلى نفس النهاية. رشاقتها، بالأحرى أسلوبها العملي ذكّر هابارا بأنها كانت ممرضة مرخصة.

بعد الجنس، يتمددان في السرير ويتحدثان. وللدقة، هي تتكلم وهو يصغي، مضيفاً كلمة مناسبة هنا، ويطرح سؤالاً عرضياً هناك. عندما تدق الساعة الرابعة والنصف تقطع قصتها (ولسبب ما، تبدو كما لو أنها وصلت ذروة الحكاية)، تقفز من السرير، تلملم ثيابها، وتجهز نفسها للمغادرة. عليها الذهاب إلى البيت، لتحضير العشاء، تقول.

سيرافقها هابارا إلى الباب، ويعيد السلسلة إلى مكانها، ويراقب من خلال الستائر السيارة الصغيرة الزرقاء المكسوة بالسخام وهي تبتعد. عند الساعة السادسة، يصنع عشاءً بسيطاً ويتناوله بمفرده. لقد عمل مرة طاهياً، لذا فتحضير الوجبات لم يكن بتلك الصعوبة.  يشرب مياهاً معدنية فوارة مع عشائه (هو لم يقرب الكحول أبداً) ويتبعه بكوب من القهوة، الذي يرتشفه أثناء مشاهدته لفيلم على “دي في دي” أو وهو يقرأ. لقد أحب الكتب الطويلة، بخاصة تلك التي كان عليه قراءتها مرات عدة كي يفهمها. لم يكن هناك الكثير ليفعله. لم يكن لديه من أحد يتحدث إليه. لا أحد ليتصل به. وليس عنده كمبيوتر، لم يكن لديه طريقة للوصول إلى الانترنت. ما من صحيفة تصله، ولم يشاهد التلفزيون أبداً. (لقد كان هناك سبباً وجيهاً لذلك.) وغني عن القول بأنه لم يكن بإمكانه الخروج. إذا ما كان على زيارات شهرزاد أن تتوقف لسبب ما فسيكون متروكاً وحيداً تماماً.

لم يكن هابارا شديد الانشغال بهذا الاحتمال، سيكون أمراً صعباً إذا ما حدث ذلك، فكّر، لكنني سأتجاوزه بطريقة أو بأخرى. أنا لست متروكاً على جزيرة معزولة. لا، فكّر، أنا جزيرة معزولة. كان كثيراً ما يرتاح إلى كونه وحيداً. وما يزعجه رغم ذلك التفكير في ألا يكون قادراً على التحدث في السرير مع شهرزاد. أو بشكل أكثر دقة، تفويت الحلقة التالية من قصتها.

” كنت ثعبان بحر في حياة سابقة،” قالت شهرزاد ذات مرة، وهما يضطجعان في السرير معاً. كان تعليقاً بسيطاً ومباشراً، مرتجلاً كما لو أنها قد أعلنت بأن القطب الشمالي كان في أقصى الشمال. لم يكن لدى هابارا أدنى فكرة عن أي نوع من المخلوقات كان ثعبان البحر، ناهيك عن شكل الواحد منها. فبالتالي لم يكن لديه رأي خاص في الموضوع.

هل تعرف كيف يأكل ثعبان البحر السلمون؟ سألت.

هو لا يعرف. في الواقع، لقد كانت المرة الأولى التي يسمع بها بأن ثعبان البحر يأكل السلمون.

ثعابين البحر ليس لها مخالب. هذا ما يميزها عن أنواع الحنكليس الأخرى.

ها؟ هل للحنكليس مخالب؟

ألم تلقِ بنظرة إلى واحد منها أبداً؟ قالت متفاجئة.

أنا آكل الحنكليس بين الحين والآخر لكن لم تتح لي الفرصة أبداً لأرى فيما إذا كان لديها مخالب.

حسناً عليك أن تتفحصها في وقت ما. اذهب إلى حوض الأسماك أو مكان ما من هذا القبيل. الحنكليس العادي له مخالب وأسنان. لكن ثعبان البحر ليس لديه سوى ممصات، التي تستعمل للالتصاق بالصخور عند قاع النهر أو البحيرة. ومن ثم يعوم هناك فقط، متموجاً جيئة وذهاباً مثل الأعشاب.

تخيل هابارا مجموعة من ثعابين البحر كما الأعشاب في قاع البحيرة. بدا المشهد بطريقة ما منفصلاً عن الواقع، رغم أن الواقع الذي عرفه يمكن له أحياناً أن يكون غير واقعي بشكل فظيع.

تعيش ثعابين البحر بهذه الطريقة، مختفية بين الأعشاب. مستلقية في حالة انتظار. وعندما يمر السلمون فوقها تنطلق مسرعة نحوه بممصاتها. في داخل ممصاتها هناك تلك الأشياء التي تشبه اللسان مع أسنان، التي تحتك جيئة وذهاباً على بطن السلمون إلى أن تفتح فيه ثغرة وبعدها يمكنها البدء بأكل اللحم شيئاً فشيئاً.

أنا لا أحب أن أكون سلموناً، قال هابارا.

في العصور الرومانية قاموا بتربية ثعابين البحر في برك، وتم رمي العبيد المتعجرفين فيها، لتتغذى عليهم ثعابين البحر أحياء.

فكر هابارا بأنه لن يستمتع في كونه عبداً رومانياً أيضاً.

كانت المرة الأولى التي رأيت فيها ثعبان بحر في المدرسة الابتدائية، في رحلة مدرسية إلى حوض الأسماك، قالت شهرزاد. اللحظة التي قرأت فيها وصفاً لطريقة حياتهم، علمت بأني كنت واحدة منها في حياة سابقة. أقصد يمكنني حقيقة أن أتذكر-كوني مشدودة إلى صخرة، أتأرجح بشكل غير مرئي بين الأعشاب، أحدق بالسلمون السمين وهو يسبح فوقي.

هل يمكنك تذكر أكلك لهم؟

لا، لا يمكنني.

هذا مريح، قال هابارا. لكن هل هذا كل ما تتذكرينه من حياتك كثعبان بحر-تتأرجحين جيئة وذهاباً عند قاع النهر؟

لا يمكن استدعاء الحياة السابقة بتلك الطريقة تماما، قالت. إذا كنت محظوظاً فإنك تحظى بومضة عما كانت عليه. إنها كالتقاط لمحة من ثقب صغير في الجدار. هل يمكنك تذكر أي من حيواتك السابقة؟

لا، ولا أي منها، قال هابارا. والحق يقال، هو لم يشعر أبداً بالرغبة في إعادة النظر في حياة سابقة. كان مشغولاً بالحياة الحالية.

ومع ذلك، فالحال يبدو أنيقاً جداً في قاع البحيرة، رأساً على عقب وفمي ملتصق بصخرة، أراقب الأسماك تعبر من فوق رأسي. رأيت حقيقة سلحفاة كبيرة تعض مرة، أيضاً، شكلاً أسود هائل يعبر مثل السفينة الفضائية الشريرة في حرب النجوم. وطيور كبيرة بيضاء بمناقير طويلة وحادة، من أسفل بدت مثل غيوم بيضاء تعوم عبر السماء.

وأنت بإمكانك رؤية كل هذه الأشياء الآن؟

واضحة وضوح النهار، قالت شهرزاد. الضوء، جذب التيار، كل شيء. أحياناً يمكنني أيضاً أن أعود إلى هناك في بالي.

ما الذي كنت تفكرين به في ذاك الحين؟

نعم؟

بماذا تفكر ثعابين البحر؟

ثعابين البحر تفكر بأفكار تشبه ثعبان البحر. حول موضوعات شبيهة بالثعبان في سياق شديد الشبه بالثعبان.  ليس هناك كلمات تشرح هذه الأفكار. إنها تنتمي لعالم الماء. كما كنا في الرحم. كنا نفكر بأشياء هناك، لكن لا يمكننا التعبير عن تلك الأفكار باللغة التي نستعملها هنا. صح؟

انتظري ثانية! يمكنك تذكر ما كان الحال عليه في الرحم؟

بالتأكيد، قالت شهرزاد رافعة رأسها لترى فوق صدره. ألا يمكنك ذلك؟

لا، قال. ليس بمقدوره.

إذن سأخبرك في وقت ما عن الحياة في الرحم.

“شهرزاد، ثعبان بحر، حيوات سابقة” هذا ما سجله هابارا في يومياته ذلك اليوم. كان يشك أن أحداً بإمكانه أن يخمن ما كانت تعنيه الكلمات إذا ما وقعت بيده.

التقى هابارا بشهرزاد أول مرة منذ أربعة أشهر. كان قد تم نقله إلى هذا المنزل في مدينة ريفية شمال طوكيو، وقد تم تعيينها له باعتبارها “علاقة داعمة”، طالما أنه لا يمكنه الخروج، كان دورها شراء المواد الغذائية وغيرها من المواد المطلوبة وجلبها إلى المنزل. هي أيضاً كانت تتولى أمر الكتب أو المجلات التي يرغب بقراءتها، وأية أقراص مدمجة أراد أن يستمع إليها. بالإضافة إلى ذلك فقد اختارت تشكيلة من أقراص الفيديو الرقمية-ولو أنه قد مر بوقت عصيب في قبول معاييرها في الاختيار على هذا الصعيد.

بعد وصوله بأسبوع، أخذته شهرزاد إلى السرير، كما لو كان ذلك الخطوة التالية البديهية. كان هناك واقيات ذكرية على الطاولة الجانبية لدى وصوله. هابارا خمّن أن الجنس واحد من الواجبات الموكلة إليها-أو ربما “نشاطات داعمة”، بحسب التعبير الذي استعملوه. أياً كان المصطلح، وأياً كانت دوافعها، فهو سيمضي مع التيار وقد قبل عرضها من دون تردد.

لم تكن ممارستهما الجنس إلزامية تماماً، و لا يمكن القول أيضاً إن قلبيهما كانا منغمسان في ذلك. بدت حذرة خشية أن يزداد حماسهما-تماماً مثل معلم القيادة الذي لا يرغب لطلابه أن يكونوا متحمسين كثيراً بشأن قيادتهم. حتى وإن لم يصل الجنس إلى الشغف، ولم يكن بالنسبة إليها شبيهاً بالعمل. ربما بدأ الجنس كواحد من واجباتها (أو على الأقل كشيء ما كان مشجعاً بشكل قوي) لكن عند حد معين بدت، وإن باحساس طفيف، أنها وجدت نوعاً من المتعة فيه. تمكن هابارا من معرفة ذلك عبر عدة طرق محددة دقيقة كان جسدها يستجيب من خلالها، التجاوب الذي أبهجه أيضاً. في النهاية هو لم يكن حيواناً برياً مزروباً في قفص، لكنه انسان له حصته من العواطف. وما كان الجنس كافياً بالنسبة إليه لغرض التفريغ الجسدي فقط. كذلك إلى أي حد رأت شهرزاد علاقتهما الجنسية كواحدة من واجباتها، وكم كان ذلك على اتصال بحياتها الشخصية؟ لم يتمكن من معرفة ذلك.

هذا كان ينطبق أيضاً على أشياء أخرى. كثيراً ما وجد هابارا صعوبة في تفسير شعور شهرزاد ومقاصدها. على سبيل المثال، كانت تلبس سراويل داخلية من القطن العادي معظم الوقت، ذلك النوع من السراويل الذي تخيل أن ربات البيوت كن يرتدينه في ثلاثينياتهن دوماً، ولو كان ذلك تخميناً صرفاً إذ لم يكن على معرفة بربات بيوت في ذلك العمر. على أي حال تحولت تلك السراويل  إلى سراويل داخلية ملونة، حريرية مزركشة، لماذا بدلت بين الاثنين لم يكن لديه فكرة.

كان الأمر الآخر الذي أربكه، واقعة أن ممارستهما للحب وروايتها للقصص كانتا مرتبطتان بشكل وثيق. ما جعل من الصعب معرفة أين تنتهي الواحدة وأين تبدأ الأخرى. هو لم يجرب أبداً أي شيء من هذا قبلاً: ورغم أنه لم يحبها والجنس كان بين بين، فقد كان شديد الارتباط بها بدنياً، وكل شيء مدعاة للحيرة بعض الشيء.

كنت مراهقة عندما بدأت اقتحام البيوت الفارغة، قالت في أحد الأيام وهما مستلقيان في السرير.

هابارا-كما كان حاله غالباً عندما تروى له القصص-وجد نفسه تعوزه الكلمات.

هل اقتحمت أبداً بيت شخص ما؟ سألت.

لا أظن ذلك، أجاب بصوت جاف.

افعلها مرة ولسوف تدمن.

لكنه عمل غير قانوني.

أنت على حق إنه خطر، لكنك تظل مدمناً مع ذلك.

انتظر هابارا بهدوء حتى تكمل.

أروع شيء في كونك في منزل شخص آخر عندما لا يكون هناك أحد، قالت شهرزاد، إنه كما ينبغي للصمت أن يكون. ما من صوت. مثل أكثر الأمكنة هدوءاً في العالم. هذا ما شعرت به على اي حال، عندما جلست على الأرض وبقيت ساكنة تماماً، حياتي كثعبان بحر عادت إلي. أخبرتك عن كوني ثعبان بحر في حياة سابقة، صح؟

نعم لقد فعلتِ.

حدث ذلك تماماً كالتالي. التصقت ممصاتي بالصخرة تحت الماء، وجسدي يتموج جيئة وذهاباً مثل الأعشاب من حولي. كل شيء هادئ تماماً، ولو كان ذلك لأنني لا أملك أذنين. في أيام مشمسة، سقط ضوء من السطح كالسهم. انجرفت أسماك من كل الألوان والأشكال من الأعلى. وكان عقلي فارغاً من الأفكار. أقصد أفكار ثعبان البحر. كان غائماً ولكن صافياً جداً. كان ليكون مكاناً رائعاً.

كانت شهرزاد تلميذة مستجدة في المدرسة الثانوية حين اقتحمت للمرة الأولى منزلاً، كما أوضحت، وكانت مفتونة افتتاناً جدياً بزميل لها في الصف. وإن لم يكن من النوع الذي يمكن اعتباره وسيماً، فهو طويل وواضح الملامح، طالب مجتهد يلعب في فريق كرة القدم، وكانت منجذبة إليه بقوة. لكنه على ما يبدو كان معجباً بفتاة أخرى في صفهما ولم يمنح شهرزاد أي اهتمام. في الواقع، من الممكن أنه كان غافلاً عن وجودها. ورغم ذلك، لم تستطع أن تتوقف عن التفكير به. كانت مجرد رؤيتها له تبهرها، شعرت أحياناً أنها على وشك أن تتقيأ. فكّرت بأن عليها القيام بشيء في هذا الخصوص، فما لم تفعل فهي ماضية نحو الجنون.  لكن الاعتراف بحبها كان أمراً مستبعداً.

في أحد الأيام، هربت شهرزاد من المدرسة وقصدت منزل الفتى. كان على بعد حوالي خمس عشرة دقيقة سيراً على الأقدام من مكان سكنها. كانت قد استبقت ذلك بتحري أمر عائلته. أمه تدرّس اللغة اليابانية في مدرسة في بلدة مجاورة. والده، كان يعمل في شركة إسمنت، قضى في حادث سيارة منذ عدة سنوات. أخته طالبة مستجدة في المرحلة الإعدادية. هذا يعني أن المنزل لا بد أن يكون خاوياً خلال النهار.

من غير المستغرب أن الباب الأمامي كان مقفلاً. تفقدت شهرزاد تحت الممسحة بحثاً عن المفتاح. كما هو متوقع كان هناك واحداً. المجتمعات السكنية الهادئة في المدن الريفية مثل مدينتهم قلّت فيها الجريمة، وكان كثيراً ما يترك مفتاح احتياطي تحت ممسحة أو تحت أصيص للنبات.

زيادة في الحرص، قرعت شهرزاد الجرس، منتظرة لتتأكد من أنه ما من رد، تفحصت الشارع فيما لو كانت مراقبة، فتحت الباب، ودخلت. أغلقت الباب ثانية من الداخل. نزعت حذاءها، وضعته في كيس بلاستيكي وحشرته في حقيبة ظهرها. ومن ثم صعدت الدرج برفق نحو الطابق الثاني.

كانت غرفة نومه هناك، كما تصورت. سريره كان مرتباً بإتقان. هناك على رف الكتب مسجلة صغيرة، مع بضعة أقراص مدمجة. على الجدار روزنامة عليها صورة لفريق برشلونة لكرة القدم، وبالقرب منها ما بدا أنه يشبه علماً لفريق، ولا شيء آخر. ما من ملصقات، لا صور، فقط جدار ملون بلون قشدي. ستارة بيضاء أعلى النافذة. كانت الغرفة مرتبة، كل شيء في مكانه. ما من كتب مبعثرة، ما من ثياب على الأرض. تشهد الغرفة على شخصية ساكنها شديدة التدقيق. أو أم حافظت على منزل مثالي. أو على كليهما. ما جعل شهرزاد متوترة. إذ إن غرفتها مهملة، ما من أحد يمكن أن يلحظ الفوضى القليلة التي قد تصنعها. ولكن في نفس الوقت نظافة الغرفة الشديدة وبساطتها، ترتيبها المثالي، جعلتها سعيدة. لقد كانت تشبهه كثيراً.

جلست شهرزاد على كرسي المكتب لفترة. هذا هو المكان الذي يدرس فيه كل ليلة، فكرت، خفق قلبها.  التقطت الأدوات على المكتب واحداً بعد الآخر، جمعتها بين أصابعها، اشتمتها، قربتها من شفتيها. أقلامه، مقصاته، مسطرته، “دبّاسته”-الأشياء الأكثر دنيوية أصبحت بطريقة ما مشعة لأنها كانت له.

فتحت أدراج المكتب وتفحصت بحذر محتوياتها. كان الدرج الأعلى مقسماً إلى أقسام، كل منها احتوى على أشياء متناثرة وتذكارات. الدرج الثاني كان جاروراً صغيراً يكاد يكون ممتلئاً بدفاتر الملاحظات لدروسه الحالية، في حين كان الدرج الذي في الأسفل (الدرج الأكثر عمقاً) ممتلئاً بمجموعة متنوعة من الصحف القديمة، الدفاتر، والامتحانات. تقريباً كل شيء كان متعلقاً بالمدرسة أو بكرة القدم.  كانت قد تمنت أن تعثر على شيء ما شخصي-يوميات، ربما، أو رسائل-لكن لم يكن على المكتب شيء من هذا القبيل. ولا حتى صورة. هذا صدم شهرزاد قليلاً باعتباره غير طبيعي إلى حد ما. ألم يكن لديه حياة بعيداً عن المدرسة وكرة القدم؟ أو أنه أخفى بحذر كل شيء من طبيعة خاصة، حيث لا يمكن لأحد العثور عليه؟

ومع ذلك، مجرد الجلوس إلى مكتبه وتمرير عينيها على كتابات بخط يده أثر بشهرزاد بما يعجز الوصف عنه. من أجل أن تهدئ من روعها، نهضت من على الكرسي وجلست على الأرض. نظرت إلى الأعلى نحو السقف. الهدوء المحيط بها كان مطلقاً. بهذه الطريقة عادت إلى عالم ثعابين البحر.

إذن كل ما فعلته، سأل هابارا، كان الدخول إلى غرفته، والمرور على أشيائه، والجلوس على الأرض؟

لا، قالت شهرزاد. كان هناك المزيد. رغبت بأخذ شيء يخصه إلى البيت. شيء ما يستعمله كل يوم أو شيء ما قريب من جسده. لكن لم يكن ممكناً أن يكون شيئاً هاماً قد يفتقده. لذا فقد سرقت واحداً من أقلامه.

قلم واحد؟

نعم. القلم الذي يستعمله. لكن السرقة لم تكن كافية. كان من شأن ذلك أن يجعل منها حالة سطو واضحة. واقعة أنني قمت بذلك ستكون خاسرة. لقد كنت لص حب في آخر الأمر.

لص حب؟ بدا ذلك لهابارا عنوان فيلم صامت.

لذا فقد قررت أن أترك شيئاً ما خلفي في بيته، علامة من نوع ما. دليل على أني كنت هناك. توضيح أن هذا كان تبادلاً، وليست مجرد سرقة. لكن ماذا ينبغي أن يكون؟ لم يخطر في بالي شيء. بحثت في حقيبة ظهري وجيوبي لكني لم أتمكن من ايجاد أي شيء مناسب. ضربت نفسي لأني لم أفكر بجلب شيء مناسب. أخيراً، قررت أن أترك سدادة قطنية . طبعاً، واحدة غير مستعملة، لا تزال في غلافها البلاستيكي. كانت دورتي الشهرية تقترب لذا فقد كنت أحملها معي لأكون في مأمن. أخفيتها في آخر الدرج السفلي، حيث سيكون من الصعب إيجادها. هذا حقيقة أثّر بي. حقيقة أن السدادة كانت مكنوزة في درج مكتبه. ربما لأني كنت مستثارة ما جعل دورتي تبدأ تقريباً بعد ذلك بالحال.

سدادة مقابل قلم، فكر هابارا. ربما ذلك ما كان عليه تدوينه في يومياته ذلك اليوم: ” لص حب، قلم، سدادة قطنية.”  سيود أن يرى ماذا سيفعلون بذلك!

لقد كنت هناك في بيته نحو ما يقارب خمس عشرة دقيقة. لم أستطع البقاء مدة أطول من ذلك: قد كانت تجربتي الأولى في التسلل إلى منزل، وكنت خائفة من دخول أي شخص أثناء تواجدي هناك. تفحصت الطريق لأتأكد من أن لا أحد هناك، تسللت من الباب، أقفلته وأعدت المفتاح إلى مكانه تحت البساط. ومن ثم ذهبت إلى المدرسة. وأنا أحمل قلمه الثمين.

صمتت شهرزاد. وعلى ما يبدو، أنها عادت في الزمن وكانت تتصور أشياء عديدة حصلت فيما بعد، واحدة فأخرى.

كان ذلك الأسبوع الأسعد في حياتي، قالت بعد توقف طويل. خربشت أشياء عشوائية في دفتري بقلمه. شممته، قبلته، مسحت خدي به، دحرجته بين أصابعي. حتى أني وضعته في فمي أحياناً وقمت بمص رأسه. بالطبع، آلمني أني كلما كتبت به أكثر سيصبح أقصر، لكني لم أستطع منع نفسي. إذا ما صار قصيراً، فكرت، يمكنني دائماً العودة والحصول على آخر. كان هناك مجموعة كاملة من أقلام مستعملة في حاملة الأقلام على مكتبه. هو لن يكون لديه فكرة عن فقدان أحدها.  وهو ربما لم يجد بعد السدادة القطنية المحشورة في درجه. تلك الفكرة أثارتني بلا حدود-لقد منحتني إحساساً غريباً قلقاً. لم يعد يؤرقني بعد الآن أنه في العالم الحقيقي لم ينظر إليَّ أبداً أو لم يظهر ما ينبي بأنه كان حتى مدركاً لوجودي. لأني أنا سراً أمتلك شيئاً منه-جزءً منه، كما كان.

بعد عشرة أيام، هربت شهرزاد من المدرسة مجدداً وقامت بزيارة ثانية إلى منزل الفتى. كانت الساعة الحادية عشرة صباحاً. كما الرمة السابقة، التقطت المفتاح من تحت الممسحة وفتحت الباب.  كانت غرفته هذه المرة أيضاً مرتبة ترتيباً لا تشوبه شائبة. بادئ ذي بدء، اختارت قلماً متهالكاً ومتروكاً من كثرة استعماله، وبحذر وضعته في حقيبة أقلامها. ومن ثم بحذر شديد استلقت على سريره، وشبكت يديها على صدرها، وراحت تنظر إلى السقف. إنه السرير الذي ينام عليه كل ليلة. تفكيرها هذا جعل دقات قلبها أسرع، وبدا تنفسها بشكل طبيعي أمراً صعباً. لم تكن رئتاها تمتلئان بالهواء وحنجرتها جافة كعظمة، ما جعل الألم رفيق كل نفس.

نهضت شهرزاد من على السرير، رتبت الأغطية، وجلست على الأرض، كما فعلت في زيارتها الأولى. نظرت مجدداً إلى السقف. أنا لست مستعدة تماماً لسريره، قالت لنفسها. لا يزال ذلك متخطياً لقدراتي.

أمضت شهرزاد هذه المرة نصف ساعة في المنزل. أخرجت دفاتر ملاحظاته من الدرج ومضت تتصفحه. وجدت تقريراً عن كتاب فقرأته. كان عن رواية “كوكورو” لسوزكي ناتسومي، وظيفة القراءة لذلك الصيف. خط يده كان جميلاً، كما هو متوقع من طالب متفوق، ليس هناك خطأ أو سهو في أي مكان.  كانت الدرجة عليه ممتاز.  ماذا يمكن أن تكون غير ذلك؟ أي معلم سيقابل خطاً بهذا الكمال سوف يمنحه تلقائياً درجة ممتاز، سواء أزعج نفسه بقراءة سطر واحد أم لم يفعل.

انتقلت شهرزاد إلى خزانة الأدراج، متفحصة محتوياتها بالترتيب. ثيابه الداخلية، وجواربه. قمصانه وبناطليه. لباسه الخاص بكرة القدم. كانت كلها مطوية بإتقان. لا شيء ملطخ أو مهترئ. هل هو من قام بطيها؟ أو أن الاحتمال الأكبر ، أن أمه قد قامت بذلك؟ شعرت بوخز من الغيرة تجاه أمه، التي يمكنها أن تقوم بتلك الأشياء من أجله كل يوم.

انحنت شهرزاد واشتمت الثياب في الأدراج. كان لها رائحة الغسيل المنعشة وعبق الشمس. أخرجت قميصاً ذو لون رمادي خالص، فردته وضغطته على وجهها. ألا يمكن أن تكون نفحة من عرقه بقيت تحت الذراعين؟ لكن لم يكن هناك من أثر. ومع ذلك، أبقته هناك لبعض الوقت، تستنشقه بأنفها. لقد أرادت أن تبقي القميص لنفسها. لكن ذلك سيكون مخاطرة كبيرة. كانت ثيابه مرتبه ومثبتة بدقة كبيرة. ربما يعرف هو (أو أمه) العدد الدقيق لقمصانه في الدرج. إذا ما فقد أحدها، قد تثار ضجة كبيرة.  أعادت شهرزاد بحذر طي القميص ووضعته في مكانه الصحيح. بدلاً منه، أخذت شارة صغيرة شكلها يشبه كرة القدم وجدتها في درج من أدراج المكتب. بدا أنها تعود لفريق من سنوات مدرسته الابتدائية، شكّت أنه سيفتقدها. أو على أقل تقدير، سيمر وقت قبل أن يلحظ غيابها، وبينما كانت عنده، تفحصت الدرج السفلي للمكتب بحثاً عن السدادة القطنية. كانت لا تزال هناك.

 حاولت أن تتخيل ما قد يحصل إذا ما اكتشفت والدته السدادة. ماذا ستفكر؟ هل ستطلب منه شرحاً عما تفعله السدادة في مكتبه؟ أو أنها ستحفظ سر اكتشافها مدورهً شكوكها المظلمة في رأسها مراراً وتكراراً، لم يكن لدى شهرزاد أي فكرة. لكنها قررت أن تدع السدادة حيث كانت، ففي النهاية لقد كانت فعلتها الأولى.

لتحيي ذكرى زيارتها الثانية، تركت شهرزاد خلفها ثلاث ضفائر من شعرها. كانت قد انتزعتها في الليلة السابقة، ولفتها في لفة بلاستيكية، ووضعتها في مغلف صغير. الآن أخذت المغلف من حقيبة ظهرها، زلقته في واحد من دفاتر الرياضيات القديمة في درجه. كانت الشعرات الثلاث مستقيمة وسوداء وليست طويلة جداً ولا قصيرة جداً. ما من أحد سيعرف لمن كانت بدون إجراء فحص الحمض النووي، ولو أنه كان واضحاً أنها تعود لفتاة.

غادرت منزله وتوجهت مباشرة إلى المدرسة، لتصل في الوقت المناسب لصفها الأول ذلك الأصيل. مرة ثانية، كانت مسرورة لمدة ما يقارب عشرة أيام. شعرت بأنه أصبح لها بشكل أكبر. لكن كما قد تتوقع، هذه السلسلة من الأحداث لن تنتهي من دون حادث طارئ لأنه كما قالت شهرزاد، التسلل إلى بيوت الآخرين يسبب الإدمان بشكل كبير.

عند هذه المرحلة في القصة شهرزاد ألقت بنظرة على الساعة التي بجانب السرير ورأت أنها قد صارت 4:32 عصراً. عليَّ الذهاب، قالت. كما لو أنها تحدّث نفسها. قفزت من السرير وارتدت سروالها الداخلي الأبيض، علقت حمالة صدرها، وانزلقت في بنطالها الجينز، وجذبت قميصها النيلي اللون من ماركة “نيكي” من رأسها، ومن ثم غسلت يديها في الحمام، سرحت شعرها بفرشاة، وانطلقت بسيارتها المازدا الزرقاء. متروكاً بلا شيء لفعله على وجه الخصوص، استلقى هابارا في السرير وأنعم النظر في القصة التي أخبرته إياها لتوها، مستمتعاً بها على مهل، مثل بقرة تجتر طعامها. أين هي وجهتها؟ تساءل. كما هي كل قصصها، لم يكن لديه فكرة. وجد أنه من الصعب تصور شهرزاد طالبة في المدرسة الثانوية. هل كانت نحيلة حينها، خالية من التهدلات التي تحملها اليوم؟ لباس مدرسي، جوارب بيضاء، شعرها مجدول؟

لم يكن قد انتابه الجوع بعد، لذا فقد أجّل تحضير الطعام وعاد إلى الكتاب الذي كان يقرأه، ليجد أنه لا يستطيع التركيز. صورة شهرزاد تتسلل إلى غرفة زميلها في الصف وتدفن وجهها في قميصه كانت طازجة جداً في عقله. كان متشوقاً لسماع بقية القصة.

… يتبع في العدد 161

______________________________

نشرت هذه القصة في مجلة “النيويروكر”

الصورة من أعمال السينمائي والفنان التشكيلي السوري رائد زينو

*****

خاص بأوكسجين


مساهمات أخرى للكاتب/ة: