سينما الدنيا
العدد 141 | 15 آب 2013
محمد ملص


المرأة المنام 

يقول الراوي قبل أن يتحول إلى مروي:

“حين التفت إليها، رأيتها قد غفت بعمق، وتناثر شعرها الكستنائي على وجهها الذي أدارته عني.

وكان الغطاء الأخضر الذي التحفنا به، يكشف جزءاً من ظهرها وإحدى ركبتيها.

تأملتها بمتعة فلمحت قطرتان من العرق بين أوبار ظهرها.

بدت لي هاتين القطرتين، حبتان من الأمان، تخرجان بي من الوحشة التي تتملكني، وحين استقرت عيناي على حبة “البن” التي رسمتها يد الرب على ظهرها، تغلغلت في روحي طمأنينة عميقة.

هبطت السلم لأخرج، فنهضت ثم وقفت على عتبة الغرفة، وهي تمسك طرف الباب بيد، وبالأخرى أطراف الغطاء الأخضر لتستر به شيء من جسدها.

لحظتها بدت لي في هذه العتمة، ظلالاً تملأها عيناي بما يحلو لهاتين العينين من الصور، وكانت صورة أمي أولى الصور.

قالت:

– الله معك!

“فكان لصوتها طعم لا يتسرب إليه أي ظلال أو صور”

 

امرأة الدنيا

“حين استلقت إلى جواري وأدارت وجهها إلى الحائط، فاحت في داخلي رائحة الصور التي تراوح وتنوس أمام عينيها.

رفعت رأسها قليلاً عن المخدة، والتفتت إلي وتمتمت قائلة:

– ما بيهمك شيء إلا السينما؟!

وعادت إلى المخدة، وعاد تنفسها الرتيب يسري في هذا الصمت.

أخذت أفكر بأن الاستكانة والاعتياد عليها، لا بد وأن يكونا قد وصلا بالخراب إلى داخلي أيضاً. فأنا أحس أن هذه المرأة تستلب مني “الهواء”. وأنها تعيش في فضاء من التعذيب الذاتي المسدود.

لقد فقدت الأمل في العثور على “الصورة” المشتهاة، التي كانت قد رسمتها للعلاقة بيننا، فلم تعد تجد أمامها إلا أن تلجأ إلى تغيير التصور وتكسير “الصور” في المرايا.

كان كل منا يغمض عينيه، ويتحدث مع نفسه، ويعتقد أنه يتحدث مع الآخر. وكأن كل واحد منا “ضفدع” يحدق في نفسه في صندوق المرايا السليمة والمتكسرة.

بدا أن المشهد كأنه “بوليرو” يكرر نفسه. إما أنه يلتف عن الآخر، أو يلتفت إليه، وفي الحالتين يئز السرير النحاسي العتيق، ونتراشق الطلقات في خنادق ملتوية وعاتمة. حيث يطلق طلقته ثم يبحث عن وكر يلجأ إليه ليختفي داخله، ثم ينقض من جديد.

وأن هذا الصمت ليس إلا هدنة مؤقتة. فلا بد من أن يئز السرير من تحتنا، ويبدأ كل شيء من جديد.

انتفضت وخرجت من صندوق المرايا، ثم مدت يدها وسحبت الغطاء عني، وأخرجتني وكأني “ضفدع” آن الأوان لتشريحه.

أخذت تتلمس جسدي قطعة قطعة، تبحث عن أثر ما، عن طعم، عن رائحة.. وهي تخلط الأسئلة بالإجابات، الصمت بالكلمات، الكلام المحكي اليوم بالمحكي قبل سنوات.

كانت تدور من حولي، تندب الماضي وترثي الحاضر، تنحسر على لحظات من هنا، ولحظات من هناك. ثم وقفت وأعلنت فرض “الصورة” التي تريدها هي.

لحظتها انتابني إحساس بأن ما يجري، هو صراع “الصور” التي تبحث عن ضحايا، وعن متفرجين. وأننا صور لشخصيات درامية، في حالة من العجز والحيرة، لا تجد أمامها إلا أن تعري نفسها، وتنكأ جروحها وتستعرض انكساراتها.

كنت أحس وهي تؤدي ذلك وكأن “الصوت” يمسك بالصورة، كما يمسك مخرج بممثلته بين الكواليس، منتظراً اللحظة ليدفع بها إلى داخل المنصة”.

 

امرأة السينما

تقول المرأة التي تروي الراوي.

حين غاب الراوي ودخل إلى “الكوما”، شعرت بقوة داخلية تدفعني لأن أكون البديل عنه في روايته.

وبدأت أحس أن الرواية أخذت تبدو وكأنها روايتي أنا، وأني مضطرة أن أبني “الميزانسين” الخاص بي.

فقد كان رأس الراوي على طبق مغمساً بالهشاشة، وهو في أرجوحة بين الحياة والموت. أخذت أتأمل كيف بدأت حبال الكونترول “التي كان يلفها حول نفسه، تتفكك شيئاً فشيئاً. فكانت “الصورة”، رغم مذاقها المأساوي، تبدو لي أكثر جمالاً وحرية.

فإذا كان فيلمي الذي أهجس به طوال عمري كله، ولم أمتلك الثقة لتحقيقه، فإن ثقة غامضة تولدت لدي الآن، وتدفعني كي أقرر أن إنقاذي له من الموت هو “فيلمي”.

نظرت إليه في تلك اللحظة، فشعرت أن علاقة خاصة مختلفة، قد أخذت تتخلّق في داخلي معه. علاقة تشبه ذلك النوع من العلاقات، التي كانت تنشأ دائماً في داخله مع الممثلة التي يختارها في كل فيلم من أفلامه.

لم لا؟

أليس هو الآن الممثل الذي اخترته لفيلمي!

لا أتذكر كيف تعلمت، أن الذي يغيب عن الوعي، يجب أن لا نتركه في غيابه، وأننا يجب أن نفعل كل الوسائل ونحكي معه عن كل شيء كي يستيقظ.

كان يسيطر علي خوف عميق، من أن أي شيء لم يعد يحمل الأمان. فشرعت باستخدام كل ما لدي كي أخرجه من موته المحتمل. لكنه لم يكن لدي من حيلة إلا الحكي، فأخذت أناديه وأحكي معه:

في الطريق، في السيارة، في المستشفى، في الممرات، في المصاعد، في “الطبقي المحوري”، أو وراء زجاج غرفة العمليات.

أحكي! أوشوشه! أمامه، وراءه، فوق رأسه. وأدور من حوله تارة “كأم”، وأخرى كحبيبة، وثالثة كمساعدة تحضّر له “اللوكيشن” ليبدأ التصوير.

أخاف أن يتوقف نبضه، فأحكي مع قلبه. أخاف أن يتوقف تنفسه المتقطع فأحكي مع رئتيه. أخاف من أن ينزف فأحكي مع الأوردة والشرايين. أخاف من الغيبوبة فأحكي مع الدماغ.

وشيئاً فشيء، بدأت تنفلت مني حبال “الكونترول” التي كنت ألف نفسي بها، وكأني أيضاً كنت أدخل في غيبوبة من نوع آخر.

فصار الحكي له، كأنه لي.

وصار الحكي معه وعنه، كأنه معي وعني.

فأخذت أجعل له المشتهى معاشاً، والمتخيل ممكناً. وقد وجدت نفسي أحكي للمرة الأولى بصوت عال أو أمام أحد، عن نفسي، عن تجربتي، عن الأشياء الحميمة التي عشتها. كأن تلك اللحظة، كانت أقوى من التعذيب الذي تلقيته في السجن، والذي لم يستطع أن يجعلني أبوح لهم، وأحكي لهم عن نفسي.

وحكيت له عن السينما، وكيف كنت صوّر الأفلام في خيالي، وكيف كنت أنتظر رفيقاتي في الزنزانة أن يناموا لأتفرج على فيلمي على جدران السجن.

كنت أحكي له وأمسك أصابع يديه وقدميه وأنفخ عليهما كي تدفأ، أفرك له رأسه كي تستيقظ الدماء.

لقد تذكرت أنه يحب رائحة “الحبق” فاستخرجت من حقيبتي زجاجة “الحبق” ومسحت جسمه. وأنه يحب الاستماع لفيروز فوضعت له في المسجلة “بشوفك في الصحو! جاي من الصحو! ضايع بورق اللوز.”

قرأت له رسائل الحب التي كتبتها على ورق السجائر في السجن. لحبيبي في الزنزانة المجاورة… رسائل لا يعرف بها ولم يقرأها حتى حبيبي الذي لم أتمكن من إيصالها له.

وفي لحظة مفاجئة شعرت كأن شهاباً قد أفلت من يدي. وبدا لي أننا كلنا، نمضي في الحياة، طالما كانت تمضي بنا.

وأدركت أننا نعيش حياتنا الفعلية في دهاليز غامضة، نصفها في العتمة ونصفها الآخر في الضوء. وأن أجسادنا صارت مستودعات للمرايا.

وأن “الصورة” المفقودة أخذت تنفسد في أرواحنا، لطول ما سجنت في آبار النفس.

 هرعت إلى الحمام وتأملت نفسي في المرآة. فقررت أن أكون له ممثلة. وارتديت ملابس المشهد الذي كان سيصوره قبيل هذا الغياب، وسرحت شعري مثلها، وضعت المكياج ذاته،

رششت عطر الحبق الذي يحبه. وخرجت لأودي له مشهداً في الفيلم”.

_______________________

نص للمخرج السوري محمد ملص، لما بين السطور أن يخرج علينا كما أفلام هذا المخرج الكبير، والمرأة كما يكتب عنها هي تلك التي سكنتنا في “أحلام المدينة” و”الليل” و”باب المقام”

الصورة من أعمال الفنان التشكيلي السوري يوسف عبدلكي

*****