سينت أوبين: إما الكتابة أو الانتحار 2/ 2
العدد 175 | 01 تموز 2015
ترجمة: أسامة منزلجي


  لقد أمضى إدوارد سينت أوبين 25 عاماً في تأليف ملحمة ميلروز. وعلى امتداد تلك الفترة كسب بعض الجوائز، لكنه كتب قدراً كافياً منها في الظل بحيث أنه خرج بفكرة شديدة الصلابة والوضوح حول سر نجاح الروايات. وبعبارة حِرفيّة، لقد توصل بحزم إلى السرد بلسان الشخص الثالث، الذي يشعر بأنه الأسلوب الأكثر حميمية لرواية قصة. وبعبارة أكثر رحابة، إنه يشعر كأنَّ قوة الرواية تنبع مما يُسمّيه “الشموليّة”.

   ونبدأ بالحديث عن الروايات الحديثة، وينزلق سينت أوبين برفق بالحوار بعيداً نحو جدليّة أكثر عراقة في الدراما الإنسانية. يقول “لقد رأى فولتير أنَّ شكسبير أعطى الكثير من الوعود، لكنَّ شكسبير ارتكب الكثير من الأخطاء بإقحام المهرجين والمُسلين والسكارى في مسرحياته المأساوية، بحيث يجب لملمتهم، وذلك لأنه كان يعتقد أنَّ النقاء هي قيمة أرقى من الشمولية، وأنا لا أعتقد هذا. أنا أعتقد أنَّ الشمولية قيمة أرقى من النقاء، ويعلم الله أنني أُقدّر النقاء كثيراً”

   الحق، أنَّ الروايتين الأوليتين لسينت أوبين قد كُتبتا وحُررتا في حالة محمومة من احتقار الذات والتنقيح. وكان يتصبب بالعرق جراء الضغط الذي يتعرَّض له من ذلك كله حتى أنه كان يتلفّع بالمناشف. ويتصل بناشره الأول وهو في حالة هائلة من الرعب من أنْ تُنشرا ويُعيد السماعة إلى مكانها عندما يسمع صوتاً يُجيب. والكتب الأخيرة كُتبَت بالطريقة نفسها، ولكن مع مقدار أقلّ من عدم الثقة في النفس. وأمضى خمس سنوات في غرفة مكتبه ليؤلف رواية ” أخيراً ” التي بالكاد يبلغ عدد صفحاتها الـ 200 صفحة. وكل صفحة منها كُتِبت بخط اليد ثم أُعيدت طباعتها على الآلة الكاتبة ثم حررها 50 مرة. والكتاب الذي طُبِعَ أخيراً كان يختلف عن التي كان قد سلَّمها قبل ذلك بستة طرق فقط – أربعة منها تصحيح علامات الترقيم، واثنتان لاختيار الكلمات. يقول سينت أوبين “ولكن في الأساس النسخة التي بين يديك هي التي سلَّمتها”. وهذا ليس مباهاة، بل ببساطة حقيقة. ولكن ما كان دائماً مُسلَّطاً عليه هو، حسب وصفه، الأنا العليا وسيف الساموراي متأهّب لقطع عنقه في حال كان ما كتبه لا يرقى إلى المستوى المطلوب”  

   وهذا ما يجعل فكرة سينت أوبين عن الشمولية أشد نُدرة، وغريبة. إنَّ سلسلة آل ميلروز تمثل بدون أدنى شك إحدى أشد النظرات الحميمة التي يمكن للقارئ أنْ يحظى بها على الطبقات الاجتماعية الإنكليزية المعاصرة في الأدب المعاصِر. إنها روايات تتحدث عن الطبقات العليا، لكنها سُرِدتْ بطريقة ديموقراطية. والسرد ينال من أفراد عائلة باتريك كلهم، وعشيقته، وخادمة المنزل، وزوجته، وأصدقاءه، وحتى السحلية المسكينة التي نفى باتريك نفسه فيها وهو يتعرَّض للاعتداء من والده. ويشرح سينت أوبين أنَّ هذا المدخل السردي الدقيق ضروريّ. “أنت لست فقط في حاجة إلى امتعاض باتريك المفهوم تماماً من والده، بل وإلى شخص يقترب منه في الحفل في رواية “بعض الأمل” ويقول “أتعلم، لقد أنقذ والدك حياتي”. لستَ في حاجة فقط إلى حس باتريك بما يشبه اليأس الموروث الفظيع من تلك العواطف السامة التي تتكرّر عبر الأجيال، ولكنكَ في حاجة أيضاً إلى آنيت، التي تعتقد أنَّ والدة باتريك قديسة”

   إنَّ سماع سينت أوبين وهو يصف كتابته الصفحة الأخيرة من ” أخيراً ” مؤثّر بصدق، وبصورة مرعبة. وفي الصفحات الأخيرة من الكتاب، والتي تجري أحداثها في أثناء جنازة والدة باتريك، نرى أنَّ بطل سينت أوبين ليس بالضرورة يغفر الآثام التي سبّبتْ له كل ذلك الألم، بل يتدرب على هذا الحس بالشمولية على مستو عال. وهل تُلام إليانور، التي تعرَّضتْ بدورها للاغتصاب من ديفيد، على إخفاء ألمها ؟ وهل يمكن تفهُّم ديفيد دون النظر إليه على ضوء حياته الطويلة، والغامضة ؟ إنَّ الحرية، والإحساس المستقر بالذات، يأتيان من الاعتقاد بأنَّ ليس كل شيء يتم شرحه. ويقول سينت أوبين “إنَّ الهوية تتكوَّن مما تعرف ومما لا تعرف. وكل إخفاق في المعرفة موجود فيها”

*

   مع إتمام ملحمة آل ميلروز في عام 2012، شعر سينت أوبين بأنَّه لم يبلغ فقط نهاية الحكاية، بل ومعرفة الذات ومخاطرها. لقد أراد أنْ يستكشف مساراً جديداً. “بعد أنْ أمضيت 40% من حياتي أستخرج الكآبة، كان من العبث أنْ أؤلف كتاباً طويلاً جداً وجاداً جداً. لقد شعرتُ بأنني يجب أنْ أذهب في اتجاه آخر”. أحد الأسئلة الكبرى التي جالت في خاطره كان “أينبغي أنْ تغني وأنت تخرج من الجحيم لكي يكون غناؤك جميلاً ؟”

   لكي يُجيب عن هذا السؤال، كان عليه أنْ يرفع السيف فوق رأسه. لن يكتب بعد الآن تحت تهديد الانتحار. “قلت في نفسي، هل أجرؤ على تمزيق هذا العقد، لقد كان فعّالاً، وأنتج روايات”. لكنه مزّقه. ثم قال “قلت في نفسي، لن أعمل وهذه الأنا العليا الفظّة، المؤدِّبة، تقفُ خلفي رافعة سيف الساموراي، تنتظر أنْ أتوقف عن الكتابة لكي تقطع عنقي، إنّ هذا لا يُحتمل. لذلك أحرقت العقد”.

   إنَّ كل رواية من روايات سينت أوبين أثارها ما سمّاه نوعاً من السؤال المستحيل. هل يستطيع أنْ يكسر تابو سفاح القربى؟ هل يستطيع أنْ يجلب من حواف الهياج والذاكرة المفقودة تجاربَ تستحق الانتظار؟ هل يستطيع أنْ يجعل من أمه شخصية تستجلب التعاطف معها؟ ومع مشروعه الأخير، كان السؤال المستحيل أقلّ ضرراً بكثير. هل يستطيع أنْ يستمتع بالكتابة؟ “لقد كان ذلك بالنسبة إليّ جراءة، كيف يمكن هذا؟”

   بدأ بتغيير أسلوبه تغييراً تاماً. لم يمنح نفسه أكثر من عام مهلة لكي يؤلف كتاباً جديداً، دون أنْ يُجري أية مراجعة محمومة. “ورميتُ مرآة المراجعة المتكررة ولم أسمح لنفسي إلا بالسير قُدُماً”. ونتيجة لهذا الهجوم الثابت على الجانب الغريب المُتحكم لذاته الخلاقة سلَّم المخطوط بعد انقضاء عام  وطلب من وكيله ومن مُحرريه في نيويورك ولندن تعليقاً. فاقترحوا عليه إجراء تغييرات، من ضمنها حذف إحدى الشخصيات وإضافة شخصيتين أُخريين. كيف جرى الأمر؟ “كدتُ أطير من الفرح!” قال سينت أوبين هذا بسعادة حقيقية، وبارتياح.

   ليس مُدهِشاً، في ظل الظروف التي كُتِبَت فيها رواية ” تائه في خضم الكلمات “، أنها أول كتب سينت أوبين التي تُقارب فكرة السعادة، كأنها شيء حقيقي أو يمكن بلوغه. ليس فرحاً دائماً، بل رضا. الكتاب يحكي قصة أربع روائيين ومؤلف كتب للطبخ يتنازعون حول شيء شديد الشبه بجائزة بوكر. كأربعة من القضاة يكدون ويتصارعون ويُخططون لجعل أفضل كتبهم ضمن اللائحة التي تُظهرهم بالشكل اللائق. ويبدو أنَّ من المُستبعد أنْ يُثيروا إعجاب قُضاة البوكر. يقول سينت أوبين ” لن أُضطر إلى قضم أظافري في شهر تموز، وأنا أتساءل إنْ كان اسمي سيرد في اللائحة “

   لكنَّ الكتاب يحكي عن أكثر من الحياة الأدبية في لندن. إنَّ شخصيات رواية ” تائه في خضم الكلمات” تصارع ما يرى سينت أوبين أنه مرض إجراء المقارنة المستمرة ” كان في استطاعتنا أنْ نجلس هنا ونفكر، أووه، لقد تناولت أرزيّة أفضل في آخر مرة كنا في إدرنا، ونستطيع أساساً أنْ نُفرِغ حياتنا من أي معنى بالبقاء في هذه الحالة من المقارنتة القلقة… هل هم أكثر ثراء، أم أشدّ فقراً، هل هم شخصيات أكثر أهمية، هل صديقته أجمل ؟ – إنه مرض. إنه جحيم مُستعر يعيش فيه الناس، ولعلهم يعيشون مع فرصة أقلّ للخروج من ذي قبل لأنَّ هناك فراغاً من القيم، ولأنَّ هناك ثقافة الإعلانات التي لا ترحم. إنَّ كل شيء خاضع للترويج “

   وآتي على ذكر وسائل الإعلام فينطلق سبنت  أوبين في مسار جديد. إننا نجعل من أنفسنا سلعاً ثم نروج لأنفسنا كسلع ! أي حياة بائسة هذه ! ثم نصنف أنفسنا مع آخرون يفعلون الشيء نفسه. ألهذا نحن موجودون هنا ؟ وكأننا نعود مراراً وتكراراً لنقف أمام كاتدرائية القديس ماركو أو نوتردام، وترى شخصاً يترجل من عربة تجرها الخيول وفي الحال يُقاطعون تأملهم البناء بالتقاط الصور، وهكذا يمنعون أنفسهم من خوض التجربة، وأيضاً يعِدون أنفسهم بأنهم سيخوضونها لاحقاً لأنَّ في حوزتهم الصور، على الرغم من أنَّ الصور تكون قد أضحت مادة تُثير الحسد، لتجعل جيرانك يتمنون لو أنهم ذهبوا إلى البندقية. إنّ كل شيء يُصبح شيئاً آخر، والشيء الذي لم يعُد موجوداً هو وقوفك أمام كاتدرائية القديس ماركو للمرة الأولى “

   في رواية ” تائه في خضم الكلمات “، لا أحد مُستثنى من هذه الغريزة، ولكن من ناحية أخرى، لا أحد يتمرغ فيها. ومن بين كتب سينت أوبين كلها، ينتهي هذا الكتاب نهاية سعيدة. تواجه شخصياته شياطينها وتُمنح لهم الفرصة للخروج من دائرة المقارنة، والحسد، وألا يكونوا في المكان الذي هم فيه.

   إنَّ سينت أوبين يستمتع بنجاحه، وبأنه استطاع أنْ يتحرر من سيف كبح النفس المُسلَّط على رقبته. أما الجانب السيئ فهو السفر وقراءة كتبه والترويج لها. إنَّ سينت أوبين ينشر كتباً منذ عام 1992، ولكن لم يبدأ أولى قراءاته إلا في عام 2006. قال “كنتُ مفرط الخجل. كان هناك 14 شخصاً” تذكّر الآن. ومع ذلك انتابه الرعب. ثم يستعرض مستويات الضغط التي يُعانيها، بدءاً بالحوارات الثنائية كهذا الحوار، والبث الإذاعي المُسجَّل، والقراءات، ومن ثم، والأسوأ، التلفزيون، “لأنهم يحصلون على جسمي وعلى صوتي والأمر لن ينتهي بحلول الغد، لعله سوف يُحفظ في الأرشيف اللعين”

   إنَّ سينت أوبين ليس جاحداً. فكلما علَّقَ مرَّة على مصاعب كون المرء شخصية عامة، كان يعلق ثلاث مرات على مدى كونه محظوظاً. “إنَّ الناس يأتون إليّ ويقفون صفاً طويلاً ويقولون، “إننا نعاني من مشاكل مشابهة، وجربنا وسائل علاج لا تُحصى، وأفضل ما ساعدنا كان قراءة كتبك” – حتى أكاد أبكي”

   ومع ذلك، يبقى سينت أوبين شكوكياً بالفطرة. يقول “إنَّ مسألة تكوين سمعة برمتها مزعجة جداً لأنها نسخة رهيبة من الشيء الذي تحاول أنْ تدمّره في مهده “… لقد نجا ليس فقط عبر الكتابة بل بتفكيك الدفاعات التي أقامها بحيث أنَّ نقطة الدفاع الوحيدة التي بقيت هي الصدق الكامل والكليّ. لكنَّ أفضل طريقة للتعبير عن ذلك الصدق هو بالكتابة، بالصيغة والشكل اللذين يسمح بهما الأدب.

   “إنَّ قرّائي يُسلطون عليّ صورة مؤلّف الكتب، يعتقدون أنَّ مؤلف الكتب سوف يظهر على خشبة المسرح. وهذا صحيح بدرجة ما، لكنه بطريقة هامة جداً ليس صحيحاً، لأنَّ كتبي كتبها أفضل جزء مني، ومن ثم أُعاد كتابتها مرات عدة الجزء القاسي مني، والنتيجة هي الكتب، وأنا لا أستطيع أنْ أفعل هذا بالسرعة الكافية في الزمن الحقيقي، كذلك الشخص الذي يستمر، إذا أمكن ذلك، إذا حالفني الحظ، وهناك أيضاً الجزء الأفضل مني، لكنه كل ما تبقّى، الذي أُحرِقَ بعناية قبل أنْ يُدفَن في الكتاب من دون ذلك الزمن التحريري الطويل الذي يمكن أنْ يحول ملاحظة مُبهمة أو حمقاء إلى أخرى دقيقة أو حكيمة”

   نعم، في الواقع هذا هو سينت أوبين الذي يتكلَّم. يبدو أنه يسير على ما يرام، بعد شرب كأسين من النيغروني وتناول وجبة غداء، وأيضاً بعد خمسة أشهر من شرح وجهة نظره. إنَّ ما يُقلقه أنه يتقدم بصورة جيدة جداً. ” سوف أخبرك بالتحذير الذي تلقّيت. ما حدث هو أنني تلقيت إيميلاً من وكيل أعمالي من شخص قال، كما تعلم، ” لقد سمعتك تواً عبر الإذاعة وأذهلتني قصتك حتى أنني انتقلت إلى النت واستمعت إلى مقابلاتك كلها “، وآخر فقرة كانت ” أنا واثق من أنني سأصل إلى الكتب ذات يوم، لكنني أجري تنقلات في المنزل، ولا أعرف أين وضعتها ” ويضحك. ”  هناك الآن مُعجبون جُدد، معجبون بالصحف. لقد ساءت الأمور جدياً عندما تروج الصحف لنفسها أكثر مما تروج للكتب. وكأنّ الجوائز الأدبية تروِّج لنفسـها بدل نْ تروج للأدب. 

   ثم قهقه وكأنَّ هذا الأمر لم يحدث أبداً.

________________________________

حوار: جون فريمن

 

الصورة من أعمال التشكيلي الأمريكي Salamon Bradford

*****

خاص بأكسجين