سيكاريو.. مخدرات البطولة الخادعة
العدد 179 | 29 أيلول 2015
زياد عبدالله


مسكينة اميلي بلانت لقد وقعت في براثن كل من جوش برولين وبيثييو دل تورو، وليس لها إلا أن تكون شاهد عيان على ما سيقومون به حتى وإن كانت تلعب دور البطولة في فيلم Sicario “سيكاريو” جديد المخرج الكندي دينيس فيلنوف، فالبطولة في هذا الفيلم هي للبطل المضاد لكن منزوع الأظافر في حالة كيت (اميلي بلانت) المتأسس على ما يعرف بـ “البطولة الخادعة”، الأمر الذي اكتشفته بعد مشاهدة الفيلم وليس في أثنائها، ذلك أنني – وربما كل مشاهد لهذا الفيلم –  لن يقوى على إعمال التفكير بآلية سرد الفيلم، وأحداثه تتوالى وتتدافع في إيقاع تصاعدي منذ المشهد الافتتاحي، فحين تشاهد “سيكاريو” لن تجد ما تستمسك به وتيار أحداثه الجارفة تتقاذفك بلا رحمة.

هذا يعيدني إلى فيلم فيلنوف Prisoners “سجناء” 2013 ورحلة حل لغز اختفاء البنتين الصغيرتين فيه، وقد نجح ذاك الفيلم تماماً بتوجيه ضربات متلاحقة لكل الاحتمالات التي وضعتها في ذهني،  كما هو حال والد أحد البنتين (هيو جاكمان) وكذلك الأمر مع المحقق لوكي (جاك غيلنهال) والمسارات تتداخل وتضيع كما المتاهة التي يرسمها أحد المشتبه بهم، ولتنتهي اللعبة بسلسة من المفاجآت وليترك جاكمان حبيس حفرة في جوف الأرض تصدر عنه صفرات من صفارة ابنته المتروكة في الحفرة، بما يجعله لائقاً تماماً بفيلم يحمل صفة التشويق والإثارة، متأسس على سيناريو حاذق كتبه أرون كوزيكوفسكي.

ألغاز و”أكشن”، وحضور استثنائي للبيئة وتوظيفها في تلك السياقات ما تحمله أفلام فيلنوف، حيث المطر يدفع للبلل بأحداث “سجناء”، بينما تكون المدينة في فيلمه Enemy “عدو” 2013 غارقة بالغبار، وهنا يجسد فيلنوف رواية ساراماغو وليكون الغبار على شيء من نثار الخط الفاصل بين الخيال والحقيقة، بين الواقع والحلم، والنهاية صادمة ومخيبة في الوقت نفسه.

عُرف فيلنوف على نطاق واسع من خلال فيلمه Incendies  “حرائق” 2010 (رشح لأوسكار أفضل فيلم غير ناطق بالانجليزية ومأخوذ عن مسرحية للكندي لبناني الأصل وجدي معوض) وبشكل واسع في العالم العربي جراء تناول الفيلم الحروب الأهلية الشرق أوسطية مسخراً الحرب اللبنانية لهذا الغرض وإن كان يحكي عن بلد اسمه “فؤاد”، وللمفارقة فهناك في الفيلم مدينة اسمها “دارش” لها أن تصير “داعش” في أيامنا هذه، كون الديني هو الذي يتأسس عليه الصراع حسب الفيلم لكن في تركيز على المجهود المسيحي في هذا الخصوص.

يمكن القول الآن أهلا بكم في عالم دينيس فيلنوف وإن كان المرور سريعاً على ثلاثة أفلام من أفلامه ورابعهم “سيكاريو” موضوع هذه القراءة، لكن بما يكفي للتأكيد أننا حيال مخرج بارع في سرد القصص، ومشغول بـ كيف يرويها بصرياً وعلى نحو محكم، وليكون “سيكاريو” إضافة جديدة على تجربته، ليس المدهش فيه العالم الذي يمضي خلفه وهو يرصد حروب المخدرات وقذاراتها، فهذا ليس بجديد! لكن الكيفية التي قارب فيها هذه العوالم وأسلوبه في تجسيد السيناريو الذي كتبه تايلور شيردان، كما أن العنف الذي يتسيد الفيلم لن يكون بشيء إن شاهدت أفلاماً مكسيكية على اتصال بالعصابات والجريمة مثلما هو الحال مع أفلام أمات اسكلاتنه “هيلي” و “الباستاردو” وغيرها من أفلام أخرى.

يبدأ الفيلم من عملية اقتحام في أريزونا تقودها عميلة الإف بي أي كيت (ايملي بلانت) بحثاً عن رهائن، إلا أن ما يكتشفونه هناك سيكون عشرات الجثث المعذبة والمشوهة الموضوعة داخل جدران البيت، ومن ثم ستنفجر قنبلة تودي بحياة عدد من رجال الشرطة.

البداية تضعنا مباشرة في خضم أحداث الفيلم، ولا يتطلب الأمر تمهيداً يضيء على الشخصيات الرئيسة في الفيلم، فنحن سنتعرف عليها وهي تفعل وتصنع الأحداث، وهكذا فإن ما يحدث مع كيت سيستدعي تدخل القائمين بحق على حرب المخدرات، وسيكون ذلك من خلال العميل مات كارفر (جوش برولين) والذي سيختار كيت لتكون مرافقة له وممثلة لـ إف بي أي في فريقه، ولعل هذا الاختيار سيكون آت من اعتبار وحيد لنا أن نكتشفه مع توالي أحداث الفيلم.

ومع أن كيت ستكون الشخصية الرئيسة في الفيلم فهي لن تفعل شيئاً في تلك الحرب التي ستخوض غمارها، ولن يتعدى دورها مراقبة ما يجري حولها وهي تعيش في عوالم لا عهد لها بها، فأولى العمليات التي سيقوم بها فريق مات كارفر ستكون التوغل في المكسيك واعتقال أو اختطاف زعيم واحد من عصابات المخدرات هناك، وهنا سيبدأ دور أليخاندرو (بينثيو دل تورو) بالاتضاح، هو الشخصية الغامضة الصامتة، الأمر الذي سيكون تصاعدياً مع التوصل في الجزء الأخير من الفيلم بأنه أصل الحكاية.

ومع هذه العملية التي تخطف الأنفاس، ستكتشف كيت أن كل شيء مباح في عمل هذا الفريق الذي انتمت إليه، والمهم هو توجيه ضربات موجعة لعصابات المخدرات، وهم يجابهونها بأساليب لا تقل وحشية عن أساليب هذه الأخيرة، ولن يكون دور كيت إلا شرعنة ذلك من خلال وجودها معهم، وأليخاندرو الكولومبي يقوم بكل شيء متخطياً كل الخطوط الحمر بمباركة مات الضاحك على الدوام.

تصلح قصة أليخاندرو أن تكون فيلماً من تلك الأفلام التي يكون فيها البطل ضابط شرطة وتقوم عصابة بقتل زوجته وابنته يمضي بعدها في رحلة انتقام، إلا أن هذه الحقيقة في “سيكاريو” ستترك للجزء الأخير من الفيلم، وليتضح أن وكالة الاستخبارات الأميريكية ممثلة بمات تستغل سعيه للانتقام من عصابات المخدرات وتوظفه في القضاء على أعدائها من تجار المخدرات وكل ما يطلبه أليخاندرو هو مساعدته في ذلك وترك الباقي له الذي سينجزه بإتقان وقسوة، ليكون هو الـ “سيكاريو” الكلمة المشتقة من “سيكاروس” باللاتينية أي “رجل الخنجر” أو “السكاكيني” اليهودي الذي قتل العديد من الرومان بواسطة الخنجر، وهي تعني بالاسبانية “القاتل المحترف”.

إنه الإيقاع مجدداً ما يصوغه فيلنوف بحصافة مدهشة، الإيقاع الداخلي الذي تخلقه الحركة داخل المشاهد، والإيقاع الخارجي أي الزمن الذي تستغرقه المشاهد، وبالتالي “التمبو” سرعة الأداء الفني والتحولات الدرامية في الفيلم، ومع الأخذ بعين الاعتبار بأن بطلة الفيلم كيت لن تتغير، بل ستبقى كما هي مراقبة وشاهدة، فهذا تماماً ما اختارها مات لأجله.

____________________________________________

الصورة للفوتوغرافية الأمريكية برنيس ابوت (Berenice Abbott)

 

****

خاص بأوكسجين


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.