سلمان رشدي: أنا مجرد خادم مخلص لعملي 2-2
العدد 178 | 14 أيلول 2015
ترجمة: شادي خرماشو


س: هناك العديد من اللغات المحكية في مومباي. ما هي لغتك الأصلية؟ 

رشدي: الأوردو. الأوردو هي لغتي الأم بكل ما للكلمة من معنى. كما أنها لغة أبي أيضاً. لكن في شمال الهند يمكنك أيضاً أن تتكلم اللغة الهندية. في الواقع لم نكن نتحدث أياً منهما، أو بالأحرى كنا نتحدث الاثنين معاً. ما أريد أن أقوله هو أن اللغة التي يتحدث بها الناس في شمال الهند ليست لغة حقيقية، بل هي عبارة عن لغة عامية هجينة ولدت من تزاوج الأوردو مع الهندية، وتسمى الهندوستانية. هي لغة غير مكتوبة، كما أنها اللغة المستخدمة في أفلام السينما الهندية. أما ما نتحدثه في بيتنا فهو خليط من الهندوستاني والإنجليزي. عندما ذهبت إلى المدرسة في إنجلترا وأنا في الثالثة عشر ونصف من عمري كان بإمكاني القول أنني ثنائي اللغة، وكنت جيداً بالقدر نفسه في اللغتين. وما زلت إلى الآن أتحدث الأوردو والهندية دون مشقة في حياتي اليومية، لكني لن أفكر أبداً في الكتابة بهما. 

 

س: وهل كنت طالباً جيداً؟ 

رشدي: لم أكن بالذكاء الذي اعتقدته. كانت مدرستي تُعتبر من المدارس الجيدة عموماً، وهي “المدرسة الكاتدرائية” في مومباي. عندما قدمت إلى إنجلترا لم أكن متخلّفاً عن أقراني، لكنك إذا ما اطلعت على التقارير المدرسية، ستدرك أنني لم أكن ذلك الطالب النابغة. قبل “روغبي”، كان أبي، مثله في هذا مثل العديد من الآباء الهنود، يثقل كاهلي بفروض إضافية. أذكر كيف كان علي أن أكتب المقالات والدراسات وغيرها من الفروض المتعبة، وكيف كنت أستاء من ذلك حتى العظم. كان يجعلني أعد ملخصات لأعمال شكسبير. هو أمر شائع كثيراً أن تجد الأطفال في الأسر الهندية، الأكبر سناً على وجه الخصوص والذكور حصراً، يُسيّرون بهذه الطريقة. في “روغبي”، وبسبب ما كنت أعيشه من بؤس اجتماعي، أغرقت نفسي في العمل. لكن لم يكن التأليف والكتابة ما يشدني، بل كنت مولعاً في تلك الأيام بالتاريخ. كسبت الجوائز لكتابة الأطروحات والمقالات الطويلة. لم أعلم لماذا لم يحدث لا في المدرسة ولا في الجامعة أن درست الأدب، هذا بالرغم من ولعي بالكتابة، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه لا يمكن النظر إلى قراءة الروايات على أنه مهنة أو عمل. في الحقيقة لم يعتبر أبي التاريخ نوعاً من العمل أيضاً. كان يريد مني أن أقوم بعمل مربح ومادي أكثر… أن أتخصص في الاقتصاد. 

 

س: وهل قاومت رغبته تلك؟ 

رشدي: آتى الدكتور جون برودبينت مدير الدراسات لينقذ حياتي ويكون مخلّصي. ذهبت إليه وقلت له: “استمع إلي، أبي يقول لي أن التاريخ ليس بذي فائدة، وأنني يجب أن أتحول إلى دراسة الاقتصاد، وإلا لن يدفع لي رسوم الدراسة والمصاريف اللازمة”. فما كان منه إلا أن قال: “دع الأمر لي”. وأرسل إلى أبي رسالة نارية شرسة جاء فيها: “السيد المحترم رشدي، هذا ما أخبرنا به ابنكم. للأسف لا نعتقد أن ابنكم يمتلك المؤهلات اللازمة لدراسة الاقتصاد في “كامبريدج”. لهذا، إذا ما أصريتم على جعله يتخلى عن دراسة التاريخ، سنضطر إلى الطلب منكم أن تخرجوه من الجامعة علّه يترك مكانه لمن هو مؤهل أكثر منه”. كانت تلك لحظة غاية في الغرابة لأنني كنت قد غادرت شبه القارة الهندية متجهاً إلى “كامبريدج” عندما كانت الحرب الهندية الباكستانية في أوجها، وكان ذلك في شهر سبتمبر من العام 1965. لم استطع التواصل مع أحد هاتفياً لأن السلطات العسكرية كانت قد سيطرت على كل الخطوط. وكانت الرسائل كلها تخضع للرقابة وتستغرق أسابيع حتى تصل، وكانت تتردد في تلك الأوقات أخبار القذائف والقصف الجوي. لكن بعد رسالة برودبينت، لم أسمع كلمة واحدة من أبي بخصوص دراسة الاقتصاد. عندما تخرّجت وأخبرته بأنني أنوي تأليف الروايات، أصابته الصدمة. ندّت عنه صرخة فضحت خوفه، وصاح قائلاً: “ماذا سأقول لأصدقائي؟” أما ما كان يعنيه بصرخته تلك هو أن كل أبناء أصدقائه الأقل ذكاءً مني كانوا يجنون أموالاً طائلة من المهن الجدية التي يعملون بها، بينما سأكون أنا روائياً مفلساً لا ألوي على شيء. كان يظن أنه سيفقد ماء وجهه أمام معارفه، فالنسبة إليه الكتابة هي في أرقى حالاتها هواية لا طائل منها، ووسيلة لتزجية الوقت. لحسن الحظ، عاش بما يكفي ليرى أن خياري لم يكن خاطئاً في نهاية المطاف. 

 

س: هل صرّح لك بذلك؟

رشدي: كان هناك شيء في داخله يمنعه من أن يثني على كتبي… كان مقيداً من الناحية العاطفية بصورة غريبة. كنت أنا ابنه الوحيد، وهذا ما جعل العلاقة بيننا عصيبة إلى حد ما. توفي في العام 1987، وكانت روايتا “أطفال منتصف الليل” و”العار” قد صدرتا قبل أن توافيه المنيّة، لكن لم تكن “آيات شيطانية” قد أبصرت النور بعد، ولم يكن قد قال لي أي كلمة حسنة عن كتاباتي إلا قبل أن يموت بأسبوع أو اثنين. لكنه قرأ كتبي مئات المرات. وأغلب الظن أنه قد فهمها وسبر أغوارها أكثر مني حتى. كان مستاءً من “أطفال منتصف الليل” لأنه شعر أن شخصية الأب تنطوي على قدح مبطّن لشخصيته. بطريقتي الصبيانية الاستفزازية رددت عليه بأنني قد استثنيت كل الأمور البغيضة ولم آتِ على ذكرها. كان أبي قد درس الأدب في “كامبريدج”، لهذا توقعت منه أن يتجاوب بشكل أكثر عمقاً مع الكتاب، لكن من فعل ذلك في الواقع كان أمي. كنت أظن أنه لو كان هناك من سيقلق حيال فكرة أن الكتاب يقدم محاكاة أدبية لعائلتي وشخوصها، سيكون أمي. أخذ أبي وقتاً لا بأس به حتى تمكن من الغفران لي، هكذا عبّر هو عن الحالة. أما أنا فقد كان شعوري بالاستياء حيال غفرانه أكبر بكثير من الاستياء الذي شعرت به حيال غضبه مني. 

 

س: لكنه، حسب قولك أنت نفسك، لم يعش ليقرأ “آيات شيطانية”.  

رشدي: أنا متأكد بنسبة خمسمئة في المئة من أنه لو كان والدي ما زال على قيد الحياة لأيدني ووقف في صفي. كان باحثاً في العلوم الإسلامية، وكان عارفاً بحياة النبي والبدايات الأولى للإسلام، والطريقة التي نزل بها القرآن، وغيرها الكثير من المعلومات والتفاصيل الدقيقة، لكنه كان مفتقداً تماماً للإيمان الراسخ بهذا الدين. كنا نذهب إلى الجامع مرة في السنة. حتى عندما كان يُحتضر على سرير موته، لم يمر بلحظة ضعف واحدة لجأ فيها إلى الدعاء أو الابتهال إلى الله. لم يعش أبداً تحت وطأة وهم يجعله يفكر بالموت على أنه أي شيء آخر سوى النهاية. كان هذا مثير للإعجاب فعلاً. من هنا يمكنك القول إن قراري المتعلق بدراسة أصول الإسلام لم يأتِ صدفةً في النهاية، فالأمر يعود في جزء منه إلى وجود مثال كهذا ماثلاً أمام عينَي في منزل عائلتي. كان أبي قد لمس أن ما أفعله في هذا الكتاب نابع من شخص يحاول أن يتقصّى ويدقق في قصة نزول الوحي مستخدماً الأمثلة الموجودة في الإسلام انطلاقاً من معرفته المتبحرة بتفاصيله وسراديبه. 

 

س: أين ذهبت بعد أن أنهيت دراستك في “كامبريدج”؟ 

رشدي: في البداية حاولت أن أكون ممثلاً. قمت بكل ما ينبغي لطالب التمثيل قبل التخرج القيام به، وظننت أنني سأحب المضي في هذا الطريق، خاصة أثناء سعيي كي أكون كاتباً. لم أجد الأمر سهلاً في البداية. كنت أعيش في عليّة منزل أتقاسمها مع أربعة من أصدقائي في لندن، وكنا نقضي وقتنا في العبث. لم أكن أعلم ما الذي كنت أفعله. كنت أتظاهر بأنني أكتب. كان ثمة نوع من الهلع في داخلي، وهذا ما جلعني شخصاً حاد المزاج في تلك الفترة. كان لدي بعض زملاء الدراسة الموجودين في لندن، وكانوا منخرطين في فرق المسرح الجوّال. كان العديد من الكتاب المهمين يعملون هناك، كديفيد هير، وهوارد بينتون، وتريفر غريفيث، هذا بالإضافة إلى الكثير من الممثلين الموهوبين. تعلمت من العمل مع الممثلين الموهوبين أنني لم أكن ذلك الممثل الجيد. الممثل المتمكن سيجعل منك ممثلاً أفضل مما أنت في الواقع على خشبة المسرح، لكنك ستعلم حينها أن الفضل يعود للممثلين الآخرين، وليس لك. كان هذا أحد الأسباب التي جعلتني أتوقف عن التمثيل، أما السبب الآخر فكان عدم امتلاكي أي نقود، وعرفت بعد مدة من الزمن أنني بحاجة إلى القيام بأمر آخر. أحد أصدقائي المسرحيين من الذين درسوا معي في “كامبريدج” كان كاتباً يُدعى داستي هوز، وكان قد حصل على فرصة عمل في وكالة “جي والتر تومبسون” الإعلانية في لندن. هكذا فجأة أصبح لديه مكتبه الخاص المطل على ساحة “باركلرلي سكوير”، وكان عمله ينحصر في التقاط الصور لعبوات الشامبو وعارضات الأزياء، وبات المال بحوزته وأصبح يقود سيارته الخاصة. قال لي: “هذا ما يجب أن تفعله يا سلمان”. ورتّب لي مقابلة لسبر قدرتي على تأليف النصوص والكتابة الإبداعية في الوكالة التي يعمل بها، لكنني لم أنجح في هذه المقابلة. من بين الأسئلة التي طُرحت سؤال ما زلت أذكره إلى الآن، هو: تخيل أنك التقيت بشخص يدعى مارتن يتحدث الإنجليزية لكنه لا يعرف ما هو الخبز – لديك مئة كلمة لتشرح له كيف تصنع قطعة من خبز التوست. في فيلم Company Limited الذي أخرجه ساتياجيت راي، يتقدّم مليون شخص للحصول على الوظيفة نفسها. بطل الفيلم هو واحد من مليون شخص، ومن يجرون المقابلة لا يعلمون كيف سيختارون واحداً من بين كل هؤلاء المتقدّمين، هكذا يبدأون بطرح أسئلة جنونية. السؤال الذي أطاح بفرصة البطل في الحصول على الوظيفة كان: ما هو وزن القمر؟ السؤال المتعلق بمارتن كان شبيهاً بهذا السؤال. حصلت في آخر الأمر على منصب في وكالة أصغر حجماً كانت تحمل اسم “شارب ماكمانوس” في شارع “ألباماريل”. كان هذا أول عمل لي، ولم يكن لدي أدنى فكرة عن كيفية القيام به. أُوكل إلي العمل على مشروع لسيجار رديء انتجته شركة “بلاير”. كان عرضاً خاصاً بفترة عيد الميلاد، وكانوا سيقدمون للمستهلكين صندوقاً من المفرقعات، وكما تعلم تفجير المفرقعات من الطقوس المفضلة في الحفلات البريطانية التقليدية. وضعوا داخل كل صندوق أنبوباً صغيراً يحتوي على سيجار. وكان قد طُلب مني أن أكتب شيئاً عن ذلك، ولم يخطر في بالي أي شيء. في النهاية ذهبت إلى المدير الإبداعي أوليفر نوكس، الذي كتب بعد ذلك في خريف عمره ثلاث أو أربع روايات، فما كان منه إلا أن قال لي: “أنا نفسي لا أعلم”. ولم يلبث بضع ثوان حتى صرخ: “وجدتها… ست أفكار صاخبة من بلاير لتفجر فرحك في عيد الميلاد”. كان هذا جلّ ما تعلمته في عالم الدعاية والإعلان. 

 

س: وهل كنت تمارس الكتابة الأدبية في الوقت نفسه؟ 

رشدي: كنت في البدايات فقط وأبعد ما أكون عن النجاح. لم أكن قد وجدت وجهتي ككاتب بعد. كنت أكتب أشياءً لا أجرؤ على السماح لأحد بقرائتها… شذرات تجمّعت في نهاية المطاف لتصبح شيئاً شبيهاً بكتاب، ومسخاً ارتدى اسم رواية كرهها كل من قرأها. كان هذا قبل أن أنشر روايتي الأولى “جريموس” Grimus. حاولت أن أكتبها باتباع أسلوب تيار الوعي كما في أعمال جويس، بينما كان الأسلم في الواقع أن تُكتب بلغة مباشرة واضحة ومشوقة. كان الكتاب يدعى The Book of the Peer “كتاب القديس”، فكلمة peer تعني قديساً أو شخصاً تقياً في لغة الأوردو. كانت قصة عن بلد شرقي مجهول الاسم يعيش فيه قديس محبوب يدعمه شخص ثري وجنرال في الجيش. يقرر الأخيران وضعه في موضع قوة وتعزيز سلطاته للاستفادة من تأثيره على الناس. لكنهما عندما نفذا الخطة اكتشفا أنه أقوى منهما بكثير. كانت تلك، بطريقة أو بأخرى، نبوءة تستبق ما حدث بعد ذلك مع آية الله الخميني، والسيناريوهات التي صعد بها الإسلام المتطرف واستلم مقاليد الحكم كنتيجة لقناعة السياسيين بقدرتهم على استخدامه كواجهة. لسوء الحظ، جاء الكتاب رديئاً لا تُحتمل قراءته بسبب الطريقة التي كُتب بها. صراحة ًلم يرغب أحد، حتى أولئك المتعاطفين معي بشدة، في التعاطي والتعاطف مع هذا الكتاب. فما كان مني إلا أن نسيت أمره وتابعت عملي في الدعاية والإعلان. 

 

س: يبدو وكأن في جعبة كل كاتب خلال مسيرته عمل فاشل ينبغي أن يوضع على الرف.  

رشدي: أما أنا فعندي ثلاثة. إلى أن جاء الوقت الذي بدأت فيه بكتابة “أطفال منتصف الليل”. حدث ذلك على الأرجح في نهاية العام 75 وبداية العام 76. كان الإخفاق يطاردني في تلك الفترة، وكانت المسألة تتعدى الجانب الفني. لن تتمكن من أن تكتب شيئاً ذا قيمة إلى أن تتمكن من أن تعرف من أنت فعلاً. ولأن حياتي كانت حائرة مشتتة بين الهند وإنجلترا وباكستان، لم أتمكن من فهم نفسي جيداً لأحكم عليها بصورة صحيحة. كنتيجة لذلك جاءت كتاباتي رديئة، بعضها كان ذكياً مع ردائته، لكنه كان في المحصلة رديئاً. أظن أن هذا ينطبق على “جريموس” أيضاً. لا يشبه هذا الكتاب أياً من كتاباتي الأخرى، أو ربما تجد فيه لمحات هنا وهناك من أعمالي اللاحقة. يجعلني هذا الكتاب أرغب في الاختباء تحت السرير. لكن ها هو الآن مطبوع ومتاح للجميع، ولم أبادر أبداً إلى سحب نسخه من التداول. إذا ما ارتكبتَ خطأً في نشر كتاب رديء، عليك أن تتركه وشأنه بين أيدي الناس. كان كتابي هذا يُقرَأ بشكل منتظم، حتى أنه لاقى استحساناً عند البعض، وهذا ما يزال باباً من أبواب الغموض بالنسبة إلي. لكن إحدى الروايات التي تخليت عنها كانت تحمل عنوان “The Antagonist “الخصم”، وهي عبارة عن قطعة أدبية مروعة، كانت تحمل في طياتها تلك الجراثيم التي أدت في ما بعد إلى ولادة “أطفال منتصف الليل”. شخصية هامشية تدعى سليم سيناي كانت قد ولدت في لحظة استقلال الهند. كان هذا الشيء الوحيد الذي بقي على قيد الحياة من هذا العمل. جهد عام كامل رميته جانباً ولم أبقِ على شيء منه سوى تلك الجرثومة. بعد النقد المبرح الذي تعرضت له “جريموس” أعدت التفكير في كل شيء. قلت في نفسي: “حسناً إذاً، علي أن أكتب عن موضوع يعنيني أكثر”.  كنت في حالة من الخوف الدائم. ظننت أن مسيرتي المهنية ككاتب لم تتقدم قيد أنملة. في تلك الأثناء، وجد العديد من الأشخاص الذين ينتمون إلى ذلك الجيل المبدع، والذي كنت جزءاً منه، وجهتهم ككتّاب وهم ما زالوا شباناً. كانوا وكأنهم يتجاوزوني في مسيرة تطورهم ككتّاب، وأنا كنت أكتفي بالنظر إليهم واقفاً في مكاني. مارتن إميس، أيان ماك إيوان، جوليان بارنز، وليام بويد، كازو إيشيغورا، تيموثي مو، أنجيلا كارتر، بروس تشاتوين – هؤلاء فقط غيض من فيض من الأسماء التي لمعت في ذلك الزمن. كانت تلك لحظة استثنائية في مسيرة الأدب الإنجليزي، وأنا كنت متروكاً هكذا عند بوابة المجد لا أعرف أي الطرق سأسلك. وهذا صعّب الأمر علي أكثر. 

 

س: ما الذي تتميز به شخصية سليم سيناء ليكون لديها القدرة على تحريرك؟ 

رشدي: لطالما أردت أن أكتب شيئاً يتحدث عن تجربتي كطفل في مومباي. لبثت بعيداً عن الهند ردحاً من الزمن، وبدأت أخاف من أن تنفصم العرى التي تربطني بها. كانت الطفولة هي الدافع قبل حتى أن أعرف ما هي القصة وكم سيكون حجمها بوقت طويل. لكن إذا كنت ستُرزق بطفل في الوقت نفسه الذي ولد فيه البلد، عندها تكون قد رُزقت بتوأم، وسيكون عليك أن تخبر قصة التؤأم معاً. هكذا كان لزاماً علي أن أغوص عميقاً في سراديب التاريخ. أحد الأسباب التي جعلت هذا الكتاب يستغرق خمس سنوات كي يُنجز هو أنني لم أكن أعلم كيف أكتبه. إحدى النسخ الأولى من الكتاب كانت تبدأ بعبارة: “أهم الأشياء في حياتنا تحدث عندما نكون غائبين”. ما أعنيه هو أن الأطفال لا يأتون عراة إلى هذه الحياة، بل مثقلين بالتاريخ المتراكم لعائلاتهم وعالمهم. لكنها كانت رواية تولستويانية أيضاً. قلت في نفسي: “شيء واحد لا يمكن لهذه الرواية أن تكونه، “آنا كارنينا” ثانية. ما زالت تلك العبارة موجودة، لكنني وأدتها في مكان ما من فضاء تلك الرواية. سرد الرواية بصيغة الغائب لم يفلح، لذا جرّبت أن أسردها بصيغة المتكلم، وأتى يوم جلست فيه وكتبت ما أصبح إلى حد بعيد الصفحة الأولى من “أطفال منتصف الليل”. هكذا حضر صوت سالم مكتمل الحكمة، مليئاً بكل أنواع الألغاز والأسرار، خفيف الظل لكنه سخيف إلى حد ما. ما خرج من آلتي الكاتبة أصابني بحالة من الهيجان. كانت واحدة من تلك اللحظات التي تشعر فيها أن الكتابة لا تنبثق منك وحسب، بل تتخللك وتخترقك. رأيت كيف يمكنني أن أستقي كل شيء من التقاليد القديمة للهند لأحوله إلى أسلوب السرد الشفهي، وفوق هذا وذاك إلى صخب المدينة الهندية وموسيقاها. المقطع الأول كشف لي الكتاب. تعلّقت بأذيال سليم وتركته يمضي في سبيله. ومع تقدم الكتاب، ونضوج شخصية سليم، مرت بي لحظات شعرت فيها بالإحباط منه. مع تقدمه في العمر، أصبح سلبياً أكثر. ولم أكف عن محاولة إجباره على أن يصبح فاعلاً، وأن يتولى زمام الأحداث بنفسه، لكنني لم أنجح في ذلك. بعدئذ، افترض الناس أن الكتاب كان عبارة عن سيرتي الذاتية، لكن كان سليم يبدو لي دائماً وكأنه شخص لا يشبهني في شيء، ذلك أنني خضت معه نزالاً تصارعنا فيه بالأيدي فهزمني شر هزيمة…   

_______________________________

أجرى الحوار جاك ليفينغز وهو مأخوذ عن “باريس ريفيو”

الصورة للفوتوغرافي الأمريكي ألفريد ستيغليتز (Alfred Stieglitz) 1864– 1946

*****

خاص بأوكسجين