سلمان رشدي: أنا مجرد خادم مخلص لعملي 1-2
العدد 177 | 01 أيلول 2015
ترجمة: شادي خرماشو


ولد سلمان رشدي في مومباي عشية استقلال الهند في العام 1947. وتلقّى تعليمه في إنجلترا حيث أمضى العقود الأولى من حياته الأدبية. وهو يقيم حالياً في نيويورك، المدينة التي احتضنت هذه المقابلة التي جرت على مدى بضع جلسات في العام الفائت. وشاءت الصُدف أن يجري الجزء الثاني من هذا الحديث في عيد العشاق في العام 2005، والذي يصادف في الوقت نفسه الذكرى السنوية السادسة عشرة للفتوى التي أصدرها آية الله الخميني بحق رشدي والتي كفّرته لكتابته رواية “آيات شيطانية”، وأباحت دمه بموجب أحكام الشريعة الإسلامية. في العام 1998 قام الرئيس الإيراني محمد خاتمي بإبطال هذه الفتوى، ويزعم رشدي أن الخطر الذي يتهدده قد زال الآن. إلا أن المتشددين الإسلاميين ما زالوا يعتبرون هذه الفتوى قائمة، وما زال عنوان منزل رشدي غير مُعلن خوفاً على سلامته. 

هذا الرجل الذي أثار لغطاً وسخطاً، وشغل الناس وأربكهم، ولُعن ومُجّد، وقُبّح وكُرّم، وحُرقت صوره ومجسماته، وحُملت صوره كرمز لحرية التعبير، هذا الرجل نفسه يُفاجئك بدماثته  وبساطته، فلا تشعر أنك في حضرة فريسة هاربة، ولا كارثة حلت بالناس. تراه حليق الذقن مرتدياً سروال جينز وسترة صوفية، فيتراءى لك وكأنه النسخة الأكثر شباباً من ذاك المتهم الذي يحدق بمتهميه من داخل إطار الصورة الشهيرة التي التقطها له ريتشارد أفيدون في العام 1995. يقول رشدي ضاحكاً: “عائلتي لا تُطيق هذه الصورة”. وعندما أسأله أين الصورة الآن، يبتسم ابتسامة عريضة، ويقول “معلّقة على الجدار.” 

يقول عن نفسه عندما يعمل: “من غير المألوف في العادة أن تراني خارج منزلي في وضح النهار.” كان في أواخر السنة الماضية قد سلّم مخطوطة “شاليمار المهرج”، وهي روايته التاسعة، إلا أنه لم يكن قد بدأ بمشروع كتاب جديد بعد. وعلى الرغم من زعمه أنه استنزف كل طاقاته في كتابة تلك الرواية، فقد بدا وكأنه قد تلقى جرعة من الطاقة وهو يتحدث عن ماضيه، وكتاباته، وسياساته. هو في الحوار، كما في أعماله الأدبية، يمارس تلك البهلوانيات العقلية… يتلوى، ويخرج عن الموضوع، ويستطرد ليعبر حديثه عدة قارات وحقب تاريخية قبل أن يعود إلى النقطة التي خرج عندها عن الحديث. 

 كانت هذه الفتوى كفيلة بأن تجعل من سلمان رشدي الاسم الأشهر عالمياً بين كل كتّاب جيله. لكن لم تتمكن كل التعديات السياسية من طمس سمعته المضيئة ككاتب. وقد تم منحه في العام 1993 جائزة Booker of Bookers، وهي عبارة عن ميدالية شرف تكريماً له على رواية “أطفال منتصف الليل” الذي اعتُبرت أفضل عمل فاز بجائزة بوكر منذ تأسيسها منذ خمسة وعشرين عاماً. وهو يشغل حالياً منصب رئيس مركز PEN الأمريكي. بالإضافة إلى رواياته، تحفل مسيرته إلى الآن بخمسة أعمال سردية، ومجموعة قصص قصيرة واحدة. في عيد العشاق يهيئ نفسه للجلوس في مقعده الوثير، بينما تتساقط نُتف من الثلج في الخارج، ومدخنة إحدى المباني على بُعد بضع كتل من الأبنية شرقاً تنفث عموداً من الدخان نحو السماء. يأخذ رشفة من كأس الماء الذي أمامه، ويحكي لي عن عثور زوجته على الهدية المناسبة له قبل أن ندخل معاً في معترك الأسئلة. 

 

س: وأنت تكتب، هل تفكر في من سيقرأ ما تكتبه؟ 

 

رشدي: صدقاً لا أعلم. عندما كنت شاباً، اعتدت أن أقول: “لا، أنا مجرد خادم مخلص لعملي”.  

 

س: هذا نبيل. 

 

رشدي: نبيل أكثر من اللازم! لقد أصبحت أكثر اهتماماً بالوضوح كفضيلة، وأقل اهتماماً بالفضائل المتأتية عن الصعوبة والإشكاليات. وهذا يعني افتراضياً أنني بت أمتلك رؤية أكثر وضوحاً للكيفية التي يقرأ بها الناس، وأعتقد أن هذا يعود في جزء منه إلى المعرفة التي أصبحت لدي بالطريقة التي قرأ بها الناس ما كتبته حتى الآن. لا أحب تلك الكتب التي تبالغ في إرضائها للذوق العام، لكنني أصبحت أكثر اهتماماً بسرد قصص واضحة ومسلية قدر المستطاع. لكن هذا ما ظننته في البداية عندما كتبت “أطفال منتصف الليل”. اعتقدت أنه من الغريب أن يبدو وكأن الأدب يفترق عن رواية القصة عند نقطة معينة. وبدا لي أنه ليس لزاماً أن تقع هذه الفرقة بينهما. ليس على القصة أن تكون بسيطة، أو أن تكون ذات بعد واحد، لكن يجب أن تعثر على الأسلوب الأوضح والأكثر جذباً لسردها، وخاصة إذا كانت متعددة الأبعاد. من الأمور التي أصبحت جلية بالنسبة إلي، وخاصة في ما يتعلق بالمواضيع التي أتطرق إليها، هو النهج الذي تصبح فيه القصص التي تسرد سيرة أي مكان قصصاً تتحدث عن كل مكان. بت أعرف ذلك إلى درجة اليقين لأنني نشأت في مومباي… المدينة التي يندمج فيها الشرق بالغرب في كلٍّ واحد. الحوادث التي تعرضت إليها في حياتي منحتني القدرة على تأليف قصص تلتقي فيها أجزاء مختلفة من العالم، تتآلف أحياناً، وتتصارع أحياناً أخرى، وفي كثير من الأحيان تتصارع وتتآلف في آن معاً. تكمن صعوبة هذا النوع من القصص في أنك إذا ما كتبت فيها عن أي مكان، فأنت مهدد بأن ينتهي بك المطاف بالكتابة عن لا مكان. تلك مشكلة لا يواجهها هؤلاء الكتّاب الذين يكتبون عن مكان واحد بعينه. كتّاب كهؤلاء يواجهون مشاكل أخرى… كالمشاكل التي يواجهها كاتب كفوغنر أو كويلتي – أولئك الذين يتعاملون مع رقعة من الأرض يعرفونها حقّ المعرفة وينتمون إليها بشكل كامل إلى درجة انهم يستطيعون الاستمرار في سبر أغوارها طوال حياتهم دون أن يستنفدوا ما تخبئه – أنا أحترم ما يقومون به، لكن هذا ليس ما أفعله.  

 

س: وكيف تصف ما تفعله أنت؟ 

 

رشدي: حياتي منحتني موضوعاً آخر يتمحور حول العوالم التي توجد في حالة تصادم. كيف يمكنك أن تجعل القرّاء يدركون أن أي قصة أصبحت في صميمها الآن جزءاً من كل قصة؟ وهذا جانب واحد من الحكاية، أما الجانب الآخر فيجابهك بالسؤال عما عليك فعله لتجعل القارئ يشعر أن ما تحتويه تلك الكتب هي عبارة عن سرد لتجارب حقيقية عاشها أناس من لحم ودم. كانت الروايات الثلاث الأخيرة التي كتبتها عبارة عن محاولات للعثور على أجوبة لهذه الأسئلة: “الأرض من تحت قدميها” The Ground Beneath Her Feet و”غضب”Fury ، وآخرهم “شاليمار المهرج” Shalimar the Clown التي تبدأ وتنتهي في لوس أنجلوس، لكن تنتقل الأحداث في منتصفها لتجري في كشمير وستراسبورغ المحتلة من النازيين، ويجري بعض منها في إنجلترا خلال ستينيات القرن الماضي. يجسّد ماكس أفولس في “شاليمار المهرج” شخصية بطل من أبطال المقاومة خلال الحرب العالمية الثانية. المقاومة، التي تجسد لنا البطولة والنبل بالمطلق، كانت تعني في زمن الاحتلال ما نعتبره اليوم تمرداً وانقلاباً. أما الآن فنحن نعيش في زمن يشهد أنماطاً جديدة من التمرد لا نطلق عليها صفة البطولة، بل نلصق بها صفة الإرهاب. لا أريد أن أطلق هنا أحكاماً أخلاقية. ما أريد أن أقوله هو: ذلك ما حدث في ذاك الزمن، وهذا ما يحدث الآن، هذه القصة تجمع هذين الشيئين معاً، لاحظ كيف يمكثان قرب بعضهما البعض. لا أعتقد أن من واجب الروائي أن يبيّن لقرّائه ما يقصده في كتبه.  

 

س: وهل عليك أن تمنع نفسك من أن توضح المقصود من كتاباتك؟ 

 

رشدي: أنا أعارض ممارسة ذلك في الرواية. يختلف الأمر عند كتابة مقالة افتتاحية أو رأي في وسيلة إعلامية. أنا شخصياً أعتقد أن توجيه القارئ يُسئ إلى الرواية. يجسّد شاليمار مثلاً شخصية قاتل شرير. تشعر بالخوف منه، لكن في أماكن معينة – كما يحدث في المشهد الذي يقفز فيه عن جدار سان كوينتين – تشعر أنك تتعاطف معه. هذا بالضبط ما أرمي إليه، أريد للناس أن يروا الأشياء من منظوره… أن يشعروا كما يشعر، وألا يفترضوا أنهم يعرفون جيداً أي نوع من الأشخاص هو. من بين كل الكتب التي ألفتها، كان هذا أكثر كتاب حددت شخصياته مصيره بشكل كامل. اضطررت إلى التخلّي عن الكثير من أفكار الكتاب الرئيسة لأن شخصياته أرادت أن تسير في طريق آخر.  

 

س: ماذا تعني؟ 

 

رشدي: في كل لحظة وأنا أكتب تحدث أشياء ليست في الحسبان. وفي هذا الكتاب بالذات حدث أمر غريب… شعرت بأنني مسكون بتلك الشخصيات لدرجة أنني وجدت نفسي أبكي على مصير شخصيات أنا من خلقها، وأنا من أودى بها. تلك اللحظة التي يموت فيها والد بونيي، بانديت بايريلال، في بستان الفاكهة، تلك لحظة كانت فوق قدرتي على التحمل، ولم يتقبلها عقلي. وجدت نفسي جالساً أبكي على مكتبي. قلت في نفسي: “ما هذا الذي أفعله؟ إنها مجرد شخصية من ورق أنا من خلقها”. أتت بعد ذلك تلك اللحظة التي كنت أكتب فيها عن تدمير قرية كشميري. لم أستطع تحمّل فكرة الكتابة عن ذلك. كنت جالساً على مكتبي أفكّر وأتأمّل. كنت عاجزاً حتى عن تركيب جملة واحدة. كتّاب كثر ممن وجدوا أنفسهم في مواجهة موضوع الوحشية لم يتمكنوا من تناوله بشكل مباشر وصريح. لم أتصور أن يأتي يوم أرى فيه نفسي عاجزاً عن تحمل فكرة سرد قصة… هذا أمر في غاية الفظاعة. تلك حادثة لا أريد أن أحكي عنها، فهل من الممكن أن يحدث شيء آخر؟ فكرت ملياً بعد ذلك وأدركت أنه لا يمكن أن يحدث شيء غير الذي حدث، هذا هو الواقع. 

 

س: كشمير هي الأرض التي أتت منها عائلتك. 

 

رشدي: نعم في الأصل عائلتي من كشمير، وهو موضوع لم أتمكن حتى الآن من منحه المساحة التي يستحقها في أعمالي. تجري الأحداث في بداية “أطفال منتصف الليل” في كشمير، و”هارون وبحر القصص” هي عبارة عن قصة خرافية عن كشمير، لكن لم يحدث من قبل أن تحدثت عن كشمير بقضها وقضيضها في أدبي. العام الذي شهد الانفجار الفعلي في كشمير، وهو العام 1989، صادف أن يكون العام نفسه الذي شهد انفجاراً في حياتي. وهذا ما حرف تفكيري عن هذا الحدث الجلل. وبالمناسبة يصادف اليوم الذكرى السنوية لصدور الفتوى. اليوم الذي يحتفل فيه العالم بعيد العشاق ليس من أجمل أيام السنة بالنسبة إلي، وهو ما يُغضب زوجتي بالمناسبة. على أي حال، يجسّد شاليمار محاولة لكتابة ما يمكن أن نسميه “نعيم كشمير المفقود”. “النعيم المفقود” يتحدث عن سقوط الإنسان من الجنة فقط، وليس فقدان الجنة بحد ذاتها، فالجنة ما تزال موجودة، لكن جلّ ما حدث أننا طُردنا منها فأصبحت بالنسبة إلينا “مفقودة”. يجسّد شاليمار فكرة نسف الجنة، وكأن آدم قد رجع إلى الجنة وبحوزته قنابل نسف بها الجنة ودمرها عن بكرة أبيها. لم أرَ مكاناً أجمل من كشمير في العالم كله. وأعتقد أن هذا يعود في جزء منه إلى حقيقة أن الوادي صغير جداً، أما الجبال التي تحيط به فهائلة ضخمة ما يكوّن لوحة فنية خلابة لريف تحيط به جبال الهملايا من كل صوب. يا له من جمال ساحر، والسكان هناك لا يقلّون جمالاً عن الأرض التي يقيمون فوقها. التربة خصبة غنية تجود بمحاصيل وفيرة. هي أرض كثيرة الشجر والعشب بخلاف معظم أراضي الهند التي تعاني من شح المياه والقحط. لكن كل هذا قد انتهى الآن، وبات المكان ومن فيه يعانون من الجفاف وشظف العيش. كانت السياحة تشكّل مصدر الدخل الرئيس في كشمير. ليس السيّاح الأجانب، بل السيّاح الهنود. خذ الأفلام الهندية مثلاً، ترى أنه كلما رغب أبطالها في الذهاب إلى مكان ما للترويح عن أنفسهم، يختارون التوجه إلى كشمير. جسّدت كشمير أرض السحر والجمال بالنسبة إلى الهند، وكان الهنود يقصدونها لأن سكان البلدان الحارّة دائماً ما يختارون الذهاب إلى الأماكن الباردة. منظر الثلج كان يبهر هؤلاء السياح ويأسرهم. ترى الناس في المطار، حيث توجد أكوام من الثلج القذر الموحل مجمّعة على جانبي الطريق، واقفين هناك يحدقون بدهشة وكأنهم قد عثروا على منجم ألماس. كل ما في كشمير يمنحك إحساساً بأنك موجود في فضاء مسحور. كل هذا أصبح من الماضي الآن، وحتى لو تم التوصل إلى معاهدة سلام غداً، فلن يعود الحال على ما كان عليه، لأن الأشياء التي نُسفت، وهذا ما كنت أحاول أن أكتب عنه، هي ثقافة كشمير التعددية القائمة على التسامح والتعايش. بعد الطريقة التي طُرد بها الهندوس خارج البلاد، والأسلوب الذي عُذب فيه المسلمون ودُفعوا نتيجة لذلك إلى التطرف، فمن غير الممكن أن تجمع شتات البلد من جديد. أردت أن أقول: تلك ليست مجرد قصة عن ساكني الجبال الذين يبعدون عنّا آلاف الأميال، إنها قصتنا نحن أيضاً. 

 

س: تقصد أن القصة تحكي عنّا نحن أيضاً؟ 

 

رشدي: كنت حريصاً في هذا الكتاب على أن أكتب قصة شخصية لا سياسية. أردت من الناس أن يقرؤها وأن يكوّنوا ارتباطات روائية وثيقة وإنسانية مع الشخصيات، ولو استطعت أن أتوصل إلى القيام بذلك بالطريقة الصحيحة أكون قد تلافيت أن أبدو وكأنني واعظ أو مرشد روحي. كل شخصية في الكتاب ستلقى اهتماماً خاصاً بها. أردت أن أكتب كتاباً لا وجود لشخصيات ثانوية فيه.  

 

س: هل كنت على دراية تامة بسياسات كشمير في صباك؟ 

 

رشدي: لم أكن قد بلغت بعد الثانية عشرة من العمر عندما ذهبت مع عائلتي في رحلة إلى كشمير. ترى هناك هضاباً جميلة يمكنك تسلقها على المهور لتصل إلى قمم الجبال فوق الكتل الجليدية. جميعنا ذهبنا إلى هناك – أنا وأخواتي وأمي وأبي – تجد هناك بعض القرى التي يمكنك قضاء الليل فيها والنوم في استراحة خاصة بالحكومة… وأنت هناك تشعر بالبساطة تحيط بك من كل مكان. عندما وصلنا إلى الاستراحة الخاصة بنا، اكتشفت أمي أن المهر الذي كان من المفترض أن يحمل زادنا على ظهره لم يكن يحمل أي شيء. كانت بصحبة ثلاثة أطفال بكاءين سيعضهم الجوع عما قريب، فما كان منها إلا أن أرسلت الفتى سائس المهر إلى القرية ليرى ما يمكن أن يبتاعه من طعام هناك. فذهب ورجع بعد قليل ليقول لنا “لا يوجد طعام، لا يوجد شيء يؤكل…” لم يستطع أن يعثر على شيء. تعجبت أمي وقالت: “ماذا تعني؟ لا يمكن ألا يكون هناك شيء يؤكل، لا بد من وجود بعض البيض. ماذا تعني بلا يوجد شيء ليؤكل؟ أجابها: “لا، لا يوجد شيء”. فقالت مغلوبة على أمرها: “حسناً إذاً لن يكون هناك عشاء، لن يأكل أحد”. بعد ذلك بحوالي الساعة لاحت لنا في البعيد مجموعة مكوّنة من ستة أشخاص كانوا يسيرون باتجاهنا قادمين من القرية، وكان بحوزتهم بعض الطعام. اقترب منّا زعيم القرية وقال: “أتقدّم إليكم باعتذاري فقد قلنا للصبي إنه لا يوجد لدينا طعام لأننا حسبناكم عائلة هندوسية. ولكن حين علمنا بأنكم عائلة مسلمة، توجّب علينا أن نحضر الطعام إليكم. لن نقبل أي نقود مقابل الطعام. وأرجو أن تعذرونا على فظاظتنا”. فكّرت وقلت في نفسي: “يا للهول، أهذه هي كشمير التي من المفترض أن تكون قائمة على التعايش والتسامح؟!” كنت أتردد إلى هناك كثيراً، وعندما كانوا يسمعون أن اسمي سلمان، وهو اسم مسلم، كانوا يتحدثون إلي بطريقة ما كانوا ليتحدثون بها لو كان اسمي “روغبير” مثلاً. كنت أُجري معهم أحاديث مطولة عن حياتهم وأسباب سخطهم. لكن عندما كنت أعود إلى دلهي أو مومباي وأنقل ما رأيته وسمعته من سخط وحنق لدى السكان هناك، كنت أشعر بوجود رغبة، حتى بين أوساط الطبقة المثقفة الهندية، بعدم الإقرار بفداحة هذا السخط. كان الناس يخبرونني بأنني لا يجب أن أتحدث بتلك الطريقة لأنني كنت أبدو متعصباً… أتصدق؟ أنا أُتهم بأنني مسلم متعصب! 

 

س: هل يمكن أن يأتي يوم تكتب فيه كتاباً بعيداً عن السياسة؟  

 

رشدي: أجل، ولدي رغبة كبيرة في القيام بهذه الخطوة التي لا تفتأ تشعرني بالغضب لأني لم أبادر إلى القيام بها حتى الآن. أعتقد أن المسافة بين العام والخاص قد تلاشت في وقتنا هذا. كانت هذه المسافة في السابق أكبر بكثير مما هي عليه الآن. وكأن جين أوستن تنسى أن تشير إلى الحروب النابليونية. ينحصر دور الجيش الإنجليزي في روايات جين أوستن بالنظر بلطف إلى الأطراف المتناحرة. وهذا ليس مرده إلى أنها تحاول تفادي الحديث عن أمر ما، بل يعود هذا إلى قدرتها على تفسير حيوات شخصياتها بشكل عميق وكامل بدون أي إشارة إلى الطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها تلك الشخصيات. هذا لم يعد ممكناً أبداً، ليس فقط لوجود تلفاز الآن في كل بيت، بل لأن ما يحدث حالياً في العالم يؤثر بشكل بالغ على تفاصيل حياتنا اليومية. لديك عمل أم لا؟ ما قيمة ما تملكه من نقود؟ كل هذه الأمور تحددها أمور خارجة عن سيطرتنا. هذا يتعارض مع فكرة هرقل القائلة بأن الإنسان يصنع مصيره بنفسه. في بعض الأحيان لا تحدد شخصيتك مصيرك. أحياناً تحدد طائرة تقتحم مبنى مصيرك وسير حياتك. العالم الأكبر يقتحم قصصي ليس لأنني أريد أن أكتب عن سياسات العالم، بل لأنني أريد أن أكتب عن سكان هذا العالم. 

 

س: لكن يبدو أن الكتابات الأمريكية تشهد صراعاً يتجسّد في إشكالية تفضيل السياسة على الأدب أم الأدب على السياسة، خاصةً أن ما يكتبه الروائي الأمريكي لن يؤثر على سياسة واشنطن. 

 

رشدي: أجل، ولكن من يكترث لهذا الأمر؟ 

 

س: هل تعتقد أن الأدب وثيق الصلة بالسياسة في الهند مثلاً؟ 

 

رشدي: لا، وكم أتمنى لو كان الحال مختلفاً. لكن ما يحدث هو أنه ما زال يُنظر إلى الكتّاب المعروفين على أنهم جزء من النقاش، وبخلاف الكتاب الأمريكان، آراؤهم تؤخذ في الحسبان. وهذا يحدث في إنجلترا أيضاً، وكان واقعاً في أمريكا أيضاً منذ زمن غير بعيد. كان هذا في عصر مايلر، وسونتاغ، وأرثر ميلر. 

 

س: ما الذي حدث؟ 

 

لا أعرف. عندما كانت الإمبراطورية البريطانية في أوجها، لم تُكتب سوى بضع روايات عن توسع النفوذ البريطاني. هو أمر يدعو إلى الاستغراب ألا نرى في تلك اللحظات التاريخية التي كانت فيها بريطانيا تتربع على عرش العالم بقوتها الأسطورية سوى قلة من الكتّاب الذين اهتموا بتوثيق هيمنة بريطانيا على العالم في كتاباتهم. ربما نشعر بأصداء ذلك الآن في وقت تتربع فيه الولايات المتحدة الأمريكية على عرش العالم بدون أن يحتفي أحد بذلك أدبياً. خارج حدود هذا البلد، عندما تنطق كلمة “أمريكا”، تسطع في الذهن في الحال صورة الهيمنة والقوة. لكن هذا لا يسري داخل الحدود. ما زال ثمة كتّاب يعارضون السياسات الأمريكية، كدون ديليلو وروبرت ستون وخوان ديديون وغيرهم. لكني أظن أن العديد من الكتّاب الأمريكان ليسوا مهتمين إلى حد كبير بالطريقة التي يُنظر فيها إلى أمريكا في الخارج. كنتيجة لذلك تجد القليل فقط مما كُتب عن الهيمنة الأمريكية. 

_____________________________________________

أجرى الحوار جاك ليفينغز وهو مأخوذ عن “باريس ريفيو”

الصورة للفوتوغرافي الفرنسي هنري كارتييه بريسون (Henri Cartier-Bresson‏)‏ الذي يُعتبر مؤسس التصوير الفوتوغرافي الصحفي الحديث.

*****

خاص بأوكسجين