سلالة التبغ
العدد 214 | 13 حزيران 2017
علي بهلول


“أنا أيضاً لم أكن شيئاً! لولا ذلك الانفجار الذي مزّقني أشلاء متناثرة لما رأيتني هنا”.

لملمت أنفاسي من بين غيمة الدخان التي نفثها هذا القذر في وجهي، قبل أن يقول جملته التي قرأتموها لتوكم بطريقة هجينة بين النصح والاستعلاء.

شققت ابتسامة ساخرة على شفاهي، وسددت عدة نظرات سريعة عشوائياً كفأرٍ أدرك المكيدة قبل مقتله، كنت أشعر بالضيق، فما بال الرجل الغريب يسعى إلى إهانتي بفطنته!

“هل تعاني من رائحة القدمين؟!”. سأل معلِّقاً سيجارته بين طرفي شفتيه.

أجبت وأنا أشعل سيجارة بيدين مرتجفتين لأبدد بإتلافها غضبي:

“أحياناً، يتوقف ذلك على -“

قاطعني الخبيث: “بالتأكيد تعاني! يبدو ذلك جلياً من رائحة فمك”.

لم أتمكن من ازدراد هذا النوع من الفظاظة، حتى أنني بالكاد دفعت ريقي عبر حلقي، ورميته بجملة هادئة:

“ربما لأنني كنت أخبر الشباب قبل قليل عن مهارات والدتك”

دحرجنا الهواء المثقل بالتبغ بيننا بتؤدة مهرج يعبر حبل الموت، وبدا أننا نبحث عن ذرات الأوكسجين ليس بأنوفنا فقط، بل بكل مسامات جسدنا الغارقة في التعرق، إلا أنه هوا بكفيه على الطاولة وأنَّ معاتباً:

“أحاول تقديم نصيحة لابن القحبة فيشتم والدتي”. زأر فجأة وهو يحملق بي بعينين محمرتين:

“برهان، هل طحنتك الحرب أيضاً يا ابن الثورة، هل ستذر رمادك في أعيننا أيضاً، هل ستمر ركيكاً هكذا كعاصفة في الصحراء”.

شعرت برغبة ملحّة في التقيؤ، جحظت عيناي مع وتيرة صوته المتصاعدة، ثم ما لبثت جفوني أن ضيّقت النطاق محاصرة مجرى الرؤية، كجيشٍ من العمى يدلف على جيفة المشهد.

نعم، اسمي برهان، لكن ليس على وجه التأكيد، فحيثما كنت أثرت موجات من التشكك والقلق، ضريبة توجّب عليّ دفعها كوني برهان مجاني سواء وُجدت فرضية أم لم توجد، وكأنني من نافلِ الحجّة وتذلّقها، ولطالما ترافق ذكر اسمي مع سؤال “لماذا؟”، عوضاً عن “من” يكون هذا برهان؟!.

وربما لهذا السبب تحديداً كنت أبحث عن الافتراض والحيرة لأبرر وجودي، أُهيل الحجج على الحجج لأشفّ من خلالها، وكأنني خُلقت من حبر سحري.

لكن ما إن رأيت العرّاف ذاك، يستل من كبكوبة الغيب خيوطاً ليحيك بها اسمي بإبرة لسانه الحاد، حتى تشككت بهذا الأمر أيضاً، ولم أعد متأكداً على وجه اليقين إذا ما كان اسمي برهان فعلاً، أم أنني تقبلته فقط لكوني نعت به قبل قليل.

شعرت فجأة أن الخمّارة رداء بالي، وأن أعين القلّة الحاضرة في تلك الساعة رتوق تتسرب منها الرياح الباردة من صحراء الارتباك، لذا حجبت الرؤية بكف يدي، ودعكت عجينة الأحرف جيداً في فمي، لكنها بدت هزيلة وغيرة متماسكة، وينقصها الكثير من النشاء، فالتصقت بسقف حلقي وأسناني، وتسرب ما تبقى منها من مغارف اللسان.

وشم العرّاف عينين محدقتين بي بغضب وسط الإضاءة المترنّحة أمام غارات الدخان المتتالية، وكأنني حصلت على درجة متدنية في اختبار مدرسي، أشعل لفافة تبغ جديدة بينما كنت أنزل من على مشجب نظراته الصارمة، ثم كشف عن ساقين مبتورتين:

“كل ما سيخبرك به مندوبي التسويق، سواء أولئك الذين يقفون على بابك، أو الذين تصلهم أنت حتى عياداتهم ومخابرهم، محض خراء، لن تتخلص من رائحة قدميك حتى تفقدهم”.

ضغطت بأصابعي على فلتر السيجارة، وشعرت أن دمي يتبخر من مسام جسدي مع العرق المشبع بالكحول، لوّحت بعدة إشارات ضوئية شاحبة للتجويف المظلم داخلي:

“لا أذكر، لا أذكر”

أضاف بعينين نبيذيتين وكأنه يعاتبني:

“أشعلت سيجارتي، نعم، وكأنني لازلت أسمع احتكاك الحجر في القداحة، وانفجار أولى خيوط التبغ في رأس السيجارة، ثم صمت العالم فجأة في ساحة السيوف، وتصاعد دخان من فمي بدى واضحاً لجميع سكان جرمانا، وكأنني أنفثه بوجه الله متأففاً”.

كررت إشاراتي الضوئية للظلام اللزج داخلي بإلحاح، فأفلتت منه بعض الصور المغبشة عن رجل يتحرك بليونة وكأنه يطفو، أو كأنه أشبه بخيوط الدخان التي تنبعث من سيجارة في فصل الصيف تحت شعاع شمعة وحيدة، ثم يغرق مرة أخرى في الظلام.

وقف العرّاف بطريقة استعراضية:

“منذ ذلك اليوم، وأنا أمشي بقدمين من دخان”.

انساب إلى طاولة أخرى ووضع أمامي منفضة سجائر جديدة:

“لا أعبر الفراغ، لا يعبرني، إنما يزاحم أحدنا الآخر، والرّفعة دائماً لسلالة التبغ”.

أشعل سيجارة أخرى ووضعها في فمي، تمتمت:

“سلالة التبغ؟!”

أجاب: “نسل متفوق من الفراغ، أسياد هذا الكون يوماً ما”.

هززت رأسي مستنكراً: “مسحوق الماجي اللعين”.

“لست تهذي، نحن أولئك الغرباء الذين جمعهم أكثر الأسرار دوياً على سطح الأرض”. بكى العرّاف سليل التبغ والدخان.

تبدد بهدوء في جوّ الغرفة، ثمّ جمع شتات صورته من جديد، وهمس بصوت مخنوق في إذني:

“أسياد هذا الكون ما أن نعي أنفسنا، ما أن تزول الريبة بكوننا نحن حقاً، هباء مكثّف من صلب الفراغ المستعر”.

نشر غلالته على وجهي، شعرت بدودة التبغ تأكل رئتي، وتنسج لي على منوالها رئة من دخان:

“تنفس من هنا، من فلتر السيجارة مباشرةً، ذرّة أوكسجين واحدةً ستبدد رئتيك”.

*****

خاص بأوكسجين


كاتب من سورية