رسالة من ميللر إلى نن
العدد 192 | 05 حزيران 2016
هنري ميللر


 

[كليشي]

[14 آب، 1932]

أناييس،

   لا تتوقعي مني أنْ أكون سليم العقل بعد الآن. كفانا عقلانيّة. كان زواجاً في لوفيسيين – لا جدال في ذلك. وخرجتُ منه وقطع منك عالقة بي؛ إنني أتجول، أسبح، في أوقيانوس من الدم، دمك الأندلسي، المُقطَّر والمسموم. إنَّ كل ما أفعل وأقول وأفكر فيه يعود في أصله إلى الزواج. لقد رأيتك كسيدة منزلك، مغربية بوجه مُثقل، زنجية بيضاء الجسد، والعيون تغطي جلدك، امرأة، امرأة، امرأة. لا أفهم كيف أستطيع أنْ أتابع حياتي بعيداً عنك – هذه الفترات المتقطّعة هي الموت. كيف بدا لكِ الأمر عندما عاد هوغو ؟ هل كنتُ لا أزال موجوداً ؟ لا أستطيع أنْ أتصورك تتنقلين معه كما فعلتِ معي. سيقان متقاربة. هشاشة. قبول خادع، عذب. طيّعة كعصفور. لقد أصبحتِ امرأة معي. كاد ذلك يُرعبني. أنتِ لست فقط في الثلاثين من العمر – أنت تبلغين ألف عام من العمر.

   ها أنا قد عدتُ ولا زلت أحترق بالشغف، كنبيذ يُدخّن. لم يعُد شغفاً باللحم، بل هو نهم كامل إليكِ، نهم مفترس. إنني أقرأ في الصحف عن حوادث الانتحار والقتل وأتفهّمها كلها. أشعر بميل إلى القتل، إلى الانتحار. أشعر بصورة ما بأنَّ من العار ألا أفعل أي شيء، أنْ اكتفي بتبديد الوقت، أنْ أتناول الأمر فلسفياً، أنْ أكون عقلانياً. أين ذهب العصر الذي كان فيه الرجال يُقاتلون، ويُقتلون، ويموتون من أجل قفّاز، أو نظرة خاطفة، إلى آخره؟ (ثمة آلة فيكترولا[1]  تعزف تلك الآريا من أوبرا Madame Butterfly – ” سوف يأتي ذات يوم !”)

   إنني لا زلت أسمعك تغنين في المطبخ – غناءً خفيفاً، ذا طابع زنجي لا يشبه صوتك، يشبه عويلاً كوبيّاً رتيباً، يفتقر إلى التناغم. أنا أعلم أنك سعيدة وأنت في المطبخ والوجبة التي تعدّين هي أفضل وجبة أكلناها معاً. وأعلم أنكِ سوف تؤنبين نفسك ولن تشتكين. إنني أعيش أقصى حالات السكينة والفرح وأنا جالس في غرفة الطعام أُصغي إلى حفيف ثوبك وأنت تتنقّلين، كثوب الإلهة إندرا[2] مُرصّع بألف عين.

   أناييس، من قبل كنتُ فقط أعتقد أنني أحبك ؛ لم يكن يُشبه في شيء هذا اليقين الذي يتملّكني الآن. فهل كان هذا كله رائعاً فقط لأنه كان لفترة وجيزة ومسروقة ؟ هل كنا نمثل كلٌ من أجل الآخر، كلٌ على الآخر ؟ هل كنتُ أنا أقلّ من أنا، أم أكثر، وأنتِ أقلّ أم أكثر من أنت ؟ هل من الجنون تصديق أنَّ هذا يمكن أنْ يستمر ؟ متى وأين ستبدأ لحظات الملل ؟ إنني أتفحّصك كثيراً لأكتشف العيوب الممكنة، نقاط الضعف، مناطق الخطر. فلا أعثر عليها – ولا واحدة. وهذا يعني أنني عاشق، أعمى، أعمى.أعمى إلى الأبد ! (الآن هم يغنون “السماء والمحيط ” من أوبرا La Gioconda)

   إنني أتصورك تُديرين الأسطوانات مراراً وتكراراً – أسطوانات هيوغو. ” Parlez moi d'amour” (حدّثني عن الحب). الحياة المزدوجة، الذوق المزدوج، الفرح والبؤس المزدوجان. كم تعذّبتِ وتألّمت من هذا. أنا أعلم هذا كله، ولكن ليس في مقدوري أنْ أفعل أي شيء لأمنعه.إنني أتمنى حقاً لو أنني أنا الذي يتعذّب. أعلمُ الآن أنَّ عينين جاحظتان. ثمة أشياء معيّنة لن تصدقيها بعد الآن، وإيماءات معيَّنة  لن تكرريها أبداً، أحزان معيَّنة، وهواجس، لن تمرّي بها بعد الآن. ما يشبه التوهّج الإجرامي، الأبيض، في رقّتك وقسوتك. لن تعرفي الندم ولا الانتقام، لا الحزن ولا الشعور بالذنب. سوف تعانين، ولن يُنقذك من الجحيم إلا الأمل الشامخ، والإيمان، والفرح الذي تذوّقته، وتستطيعين أنْ تجربيه متى تشائين.

   أمضيتُ فترة الصباح كلها في العمل على ملاحظاتي، مفتشاً بدأب في سجلات حياتي، متسائلاً من أين أبدأ، وكيف، أرى أمامي ليس فقط كتاباً جديداً بل حياةً من الكتب. لكنني لا أبدأ. الجدران جرداء تماماً – كنتُ قد أنزلتُ كل شيء عنها قبل أنْ أخرج لملاقاتك. وكأنني أعددتُ العِدَّة للخروج إلى الأبد. البقع على الجدران تظهر جليّة – مكان استرخاء رأسينا. وبينما تبرق الدنيا وترعد أستلقي على السرير وألجُ أحلاماً جامحة. أنتِ في اشبيلية ومن ثم في فزّان ومن ثم في كابري ومن ثم في هافانا. إننا نقوم برحلات باستمرار،ولكن هناك دائماً آلة وكتب، وجسمك دائماً قريب من جسمي والنظرة التي في عينيك لا تتغيَّر. الناس يقولون إننا سنكون تعيسين، سوف نندم،، لكننا سعيدان، ودائماً نضحك، ونغني. نتحدث بالإسبانية وبالفرنسية وبالعربية وبالتركية. يُسمَح لنا بالدخول إلى كل مكان ويفرشون دربنا بالأزهار.

   أقول إنَّ هذا حلمٌ جامح – ولكنْ هذا الحلم هو الذي أريد أنْ أدركه. الحياة والأدب مجتمعَين، والحب وفرط الحيوية، أنتِ مع روحك المتبدّلة تمنحانني ألف حب، راسخان دائماً في أية عاصفة تواجهنا، ونستقرّ حيثما كنا. في فترات الصباح نستأنف ما توقفنا عنده ؛ بعثٌ إثر بعث. أنتِ تؤكدين على ذاتك، تحصلين على الحياة الثرية، المتنوعة التي تمنيتها ؛ وكلما أكّدتِ على ذاتك ازدادت رغبتكِ فيّ، واحتياجك إليّ. إنَّ صوتك يُصبح أجشاً أكثر، وأعمق، وعينيك أشدُّ سواداً، ودمك أشدّ كثافة، وجسدك أكثر امتلاءً. إنه استسلام شهواني وضرورة استبدادية. أصبحتِ أشدّ قسوة من ذي قبل – قاسية بوعي، بإرادتك. إنها  بهجة التجربة التي لا ترتوي.

____________________________________________________

طبعا الرسالة موجهة من هنري ميللر (1891- 1980)  إلى أناييس نن (1903 – 1977)

[1] – فيكترولا : شكل بدائي للبيانو.

[2] – إندرا : إلاهة هندوسية شهيرة تتحكم في أحوال الطقس وتوزيع الأمطار. 

*****

خاص بأوكسجين