د. وائل فاروق وجدلية الفرار من الماضي وإليه | زياد عبدالله

العدد 269 | 21 كانون2 2022

فيما يلي وقائع مقاربتي لكتاب الدكتور وائل فاروق Conflicting Arab Identities – Language, Tradition and Modernity، (الهويات العربية المتصارعة – اللغة، التقليد، والحداثة) الصادر عن دار Muta في ميلانو أو منشورات المتوسط بالانجليزية، وليس استخدامي كلمة "وقائع"  آت فقط من المزج بين قراءتي للكتاب وحواري مع الدكتور فاروق (أستاذ اللغة العربية وآدابها في الجامعة الكاثوليكية في ميلانو)، بل يأتي أيضاً من أطوار تلك المقاربة المتأسسة على رحلة تتشعب دروبها، سرعان ما تمسي وقائع، تارة متصارعة مع الكتاب وأخرى متناغمة معه، كما هو عنوان الكتاب، وليتحول الحوار مع الدكتور فاروق انتقالاً إلى طور آخر يبدأ من الكتاب إلا أنه يمضي إلى عوالم أخرى تستكمله، أو تضيف فصولاً جديدة إليه، قد تضيء على خلفياته وقد تتعارض معه أيضاً، وهي جميعاً بطبيعة الحال متمحورة حول الثقافة العربية، والدين، والهوية، والذات والآخر، والحداثة، وبالتأكيد صراع الهويات عنوان الكتاب، وصولاً إلى الصراع بين الأذن والعين في الثقافة العربية، ولأجد في كل ما سيلي حوارية أستطيع تحديد بدايتها لكني لا أعرف نهايتها، فهي تفتح الباب على مصراعيه أمام الجدل والأخذ والرد.

من هو العربي؟

يدفعني الكتاب أولاً للتساؤل: من هو العربي؟ من هو هذا العربي الذي يتحدث عنه الكتاب وهوياته المتصارعة؟ ولعل هذا السؤال شرعي طالما أن الكتاب يتأسس على أدوات معرفية ولغوية في بناء شخصية العربي، وثمة مساحة لا بأس بها من الكتاب، تقود إلى تأصيل سمات وخصال العربي، والبناء على نصوص تراثية مثلما هو الحال مع الحوار الشهير بين النعمان وكسرى:

"فقال كسرى ـ وأخذته عزة الملك ـ يا نعمان، لقد فكرت في أمر العرب ولم أر للعرب شيئاً من خصال الخير في أمر دين ولا دنيا، ولا حزم ولا قوة مع أن مما يدل على مهانتها وذلها وصغر همتها، محلتهم التي هم بها مع الوحوش النافرة، والطير الحائرة، يقتلون أولادهم من الفاقة، ويأكل بعضهم بعضاً من الحاجة. قد خرجوا من مطاعم الدنيا وملابسها ومشاربها ولهوها ولذاتها، فأفضل طعام ظفر به ناعمهم لحوم الإبل التي يعافها كثير من السباع، لثقلها وسوء طعمها وخوف دائها وإن قرى أحدهم ضيفا عدها مكرمة، وإن أطعم أكلة عدها غنيمة، تنطق بذلك أشعارهم، وتفتخر به رجالهم. ثم لا أراكم تستكينون على ما بكم من الذلة والقلة، والفاقة والبؤس، حتى تفتخروا وتريدوا أن تنزلوا فوق مراتب الناس. قال النعمان: أصلح الله الملك، (..) ألا إن عندي جوابا في كل ما نطق به الملك، في غير ردٍّ عليه ولا تكذيب له، فان أمنني من غضبه نطقت به، قال كسرى: قل، فأنت آمن. قال النعمان: (..) وأما أنسابها وأحسابها، فليست أمة من الأمم إلا وقد جهلت آباءها وأصولها، وكثيراً من أولاها وأخراها حتى أن أحدهم  ليسأل عمن وراء أبيه دنيا، فلا ينسبه ولا يعرفه، وليس أحد من العرب إلا يسمي آباءه أباً فأباً، ماطوا بذلك أحسابهم، وحفظوا به أنسابهم فلا يدخل رجل في غير قومه، ولا ينتسب إلى غير نسبه، ولا يدعى إلى غير أبيه. وأما سخاؤها، فإن أدناهم رجلا الذي تكون عنده البكرة او الناب (الناقة المسنة) عليها بلاغه، في حموله وشبعه وريه، فيطرقه الطارق الذي يكتفي بالفلذة (القطعة) ويجتزئ بالشربة، فيعقرها له، ويرضى أن يخرج له عن دنياه كلها فيما يكسبه حسن الاحدوثة وطيب الذكر. وأما حكمة ألسنتهم، فإن الله تعالى أعطاهم في أشعارهم ورونق كلامهم وحسنه ووزنه وقوافيه، ما ليس لشيء من ألسنة الأجناس، ثم خيلهم أفضل الخيل، ونساؤهم أعف النساء، ولباسهم أفضل اللباس، ومعادنهم الذهب والفضة، وحجارة جبالهم الجزع، ومطاياهم التي لا يبلغ على مثلها سفر، ولا يقطع بمثلها بلد قفر".

هذا النص مفصلي في الكتاب، فهو حاضر ومهيمن على ما يؤسس لخصال العربي، ومكنوناته النفسية والثقافية، "فاللسان هو العقل وليس أداة للتعبير لما في العقل"، عدا عن تطرفه بالفضائل كالكرم مثلاً، ونحو ذلك، وهنا يحضر ابن خلدون بوصف الاقتباس من مقدمته أيضاً مفصلياً في تأصيل تلك الخصال وإضافة أخرى غيرها:

"العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب والسبب في ذلك أنهم أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم فصار لهم خلقاً وجبلة وكان عندهم ملذوذاً لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم وعدم الانقياد للسياسة‏.‏ وهذه الطبيعة منافية للعمران ومناقضة له‏.‏ فغاية الأحوال العادية كلها عندهم الرحلة والتغلب وذلك مناقض للسكون الذي به العمران ومناف له‏.‏ فالحجر مثلاً إنما حاجتهم إليه لنصبه أثافي للقدر فينقلونه من المباني ويخربونها عليه ويعدونه لذلك‏.‏ والخشب أيضاً إنما حاجتهم إليه ليعمدوا به خيامهم ويتخذوا الأوتاد منه لبيوتهم فيخربون السقف عليه لذلك‏.‏ فصارت طبيعة وجودهم منافية للبناء الذي هو أصل العمران‏.‏ هذا في حالهم على العموم‏.‏ وأيضاً فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي الناس وأن رزقهم في ظلال رماحهم وليس عندهم في أخذ أموال الناس حد ينتهون إليه بل كلما امتدت أعينهم إلى مال أو متاع أو ماعون انتهبوه‏.‏ فإذا تم اقتدارهم على ذلك بالتغلب والملك بطلت السياسة في حفظ أموال الناس وخرب العمران‏.‏ وأيضاً فلأنهم يتلفون على أهل الأعمال من الصنائع والحرف أعمالهم لا يرون لها قيمة ولا قسطاً من الأجر والثمن والأعمال كما سنذكره هي أصل المكاسب وحقيقتها وإذا فسدت الأعمال وصارت مجاناً ضعفت الآمال في المكاسب وانقبضت الأيدي عن العمل (..)".

وعليه فإن العربي لا يبني ويؤسس بل يتذكر، يعيش على الذاكرة بوصفه رحالة، والتطرف بالفضائل آت من الذاكرة ورغبة العربي بأن يبقى ماثلاً في ذاكرة الآخرين، طالما أنها أداته الوحيدة ليبقى ماثلاً في الزمن هو المناقض للعمارة والعمران، ويورد الدكتور فاروق في هذا السياق أن كل الكلمات المستخدمة التي تشير إلى الاستقرار هي كلمات تشير إلى التوقف عن متابعة المسير والترحال مثلما وهو الحال مع "سكن" المعاكسة للحركة، و"دار" بمعنى الدوران في ذات المكان.

لا يمكن التعامل مع هذه النصوص بوصفها ثوابت، وهي بالتأكيد ليست كذلك، لا بل إن أي تفكير مادي أو تثويري يرفضها رفضاً قاطعاً، وينفي الدكتور وائل فاروق أن تكون تلك الخصال التي سبق واستعرضتها ثابتة، مؤكداً أنه يقدم مقاربة تأويلية لاستعصاء الحداثة في العالم العربي، وهنا أعود وأتساءل من هو هذا العربي الذي يحدثنا عنه الكتاب؟ وهذه المرة أوجه السؤال إلى الدكتور فاروق، فيجيب "العربي هو كل من تشكل اللغة العربية وعيه بذاته ووعيه بعالمه" إذن لا سلالة ولا نسب ولا بداوة، فالعربي هو من ينتمي إلى الثقافة العربية، لكن كما سيتبدى من الفصول التالية في الكتاب المتصلة بالفتوى والحداثة، والمسلمين في أوروبا فإن اللغة بحد ذاتها حامل لكل ما تقدم من الخصال المستخلصة من النعمان وابن خلدون طالما أنها تأصلت وتوطدت قواعدها وفق لسان القبائل العربية، هذا ربط أتبعه كقارئ، كما لو أن الفتوى أيضاً تضعنا حيال القبيلة الأمة مجدداً.

الأمة القبيلة

يتخذ الكتاب من القبيلة بنية متأصلة في الثقافة العربية، ويرصد انتقال القبيلة إلى أمة مع الدعوة المحمدية ووثيقة المدينة، ومن ثم التحول إلى الأمة/القبيلة مع سقيفة بني ساعدة، البنية التي – على ما يخلص إليه الكتاب – ما زالت حاضرة في ثقافتنا – بحيث يختتم الفصل المعنون بـ "الأمة القبيلة" باقتباس من كتاب عبدالله الغذامي "القبيلة والقبائلية أو ما بعد الحداثة": "تقوم الثقافة العربية على رافدين جوهريين، هما الإسلام والقبيلة. اللذان يتنازعان التأثير على الفكر العربي على مدى قرونه كلها، ويتفقان في وجه، ويختلفان في وجوه، ويتناقضان في أخرى، أحدهما يعطي مثاليات معنوية راقية ومتعالية، والآخر يعطي قيماً ثقافية متضاربة بين العملي والإنساني من جهة وبين العنصري والنسقي من جهة ثانية، وعلى ذلك علامات تكشفها المقولات مثلما يكشفها السلوك".

والحامل الرئيس لذلك هو اللغة حسب كتاب "الهويات العربية المتصارعة"، وحين أسأل الدكتور فاروق عن ذلك، يمضي بعيداً بالأثر الفكري المتواصل لمنابع اللغة العربية وعلاقتها الجوهرية بالدين الإسلامي، ويوضح ذلك من مقاربة من خارج الكتاب على اتصال بوجود صراع بين الأذن والعين في الثقافة العربية، "ففي الخبرة الصحراوية لا تتواجد علاقة بالمكان بل بالزمان وأنت ترى الأشياء ذاتها، والعربي كان يملك اللغة وهي مرجعيته والقرآن معجزة لغوية. في أوروبا لم يكن الإنسان يملك اللغة التي كانت لاتينية والغالبية أمية أو لا تعرف اللاتينية، وعليه فقد تم رسم الكتاب المقدّس في الكنائس وتكاد لا تخلو كنيسة من تلك الرسوم، وأصبحت الثقافة البصرية حاضرة بقوة، والإيمان مرتبط بالعين، فبدأت المعاني الجديدة تنتج من خلال العين وليس من خلال البلاغة وامتلاك اللغة، بل من فقر اللغة ما أدى إلى ثورة بصرية مهدت لعلاقة مختلفة مع العالم".

ويضيف الدكتور فاروق: "هناك نمطان من التدين، النمط الأول مرتبط بالنقاء والطهر والصفاء ولحمايته بوصفه مركزاً للخبرة الدينية، سُنّت القوانين والشرائع، لكن حين غابت اللغة وأصبحت الصورة أداة للتعبير عن الإيمان انتقل المركز من النقاء إلى الجمال وأصبح هذا الأخير مركز القيم الدينية، والجمال يدفع إلى المغامرة والقيم الدينية المرتبطة به لا تعود إلى الشريعة بل إلى المغفرة وهي قيمة جوهرية في المسيحية. التمحور حول اللغة عكس ذلك، يدفعك لتكون استثنائياً تمضي بعيداً في البلاغة، وبالتالي تغوص عميقاً في التجريد، ولكي لا يكون هذا التجريد بحراً بلا حدود فإنه بحاجة إلى قواعد وقوانين الأمر الذي يفضي إلى القضاء على المغامرة".

الدين كظاهرة عميقة

يؤكد الدكتور فاروق على أن الإسلام مكون أساسي في الثقافة العربية "كما هي المسيحية المكون الرئيسي للثقافة الغربية"، ويرى أن تعاملنا مع الدين خاطئ وتصورنا أن الدين ضد التحديث، والتخلص منه هو السبيل إلى التحديث تصور خاطئ، "الدين لم يختف حتى في أوروبا وكثير من المثقفين العرب يعتقدون أن أوروبا تقدمت بعد أن تخلصت من الدين وهذا غير صحيح! بل هي تقدمت حين حُجِّمت سلطة المؤسسات الدينية، والخلط يكمن بين الدين كمنظومة فكرية تنتج المعرفة وبين الدين بوصفه مؤسسة تنتج السلطة وهذا الفرق إذا انتبهنا إليه سنقوم بتحديث الخبرات الروحية لدعم حركة الحداثة. فالدين ليس شراً مطلقاً، والقول إن الرب وهم لا يستدعي شطب كل التجربة الدينية. إن افقار الدين يأتي من المؤسسات الدينية التي تحوله إلى سلطة ومجموعة حدود وقوانين من جهة، ومن المناهضين له من جهة أخرى باعتباره محض تخلف"، ويجد الدكتور فاروق في الدين أداة لإنتاج المعرفة في الفن والأدب، وصولاً لاعتباره أن كنيسة القرون الوسطى "رمز الشر" أنتجت كل الفن الذي تعيش عليه أوروبا سواء في التشكيل والموسيقى أو الأدب".

يطالب الدكتور فاروق بالتعامل مع الدين كظاهرة عميقة، ويشير إلى أنه دعوة إلى الاكتشاف وإنتاج صيغ جديدة للعلاقة معه، بينما الحاصل حالياً هو التحجر في الصيغ التي اشتقت من الدين، "إذ لا يوجد إنسان ولا جماعة دينية في أي لحظة في التاريخ أو في مكان ما في العالم ادعت أنها أحاطت علما بالإله، وقالت إننا نعرف كل شيء عن الرب، وعليه فإن الدين يحتكم على إمكانية دائمة للاكتشاف، طالما أن الغموض أو اللغز حاضر فيه على الدوام."

ويقود ذلك إلى اعتباره أن "أوروبا تتجه نحو الانقراض كما نعرف جراء العدمية أو سقوط السرديات الكبرى: الدين والأيدلوجيا والعلم. والتي لم تسقط حقيقة وما زالت تمارس يومياً، إنما الذي سقط هو المعرفة اليقينية وبالتالي لم يعد الإنسان يؤمن بالمستقبل وحين يختفي هذا الإيمان تتوقف المغامرة والاكتشاف، وفي الوقت نفسه لا نريد للدين أن يكون قبراً أو حبساً بل منطلقاً متجدداً نحو المجهول، ومسألة قبوله أو رفضه مقاربة سطحية أطالب بتجاوزها".

باسم الأمة وليس الله

يورد الدكتور فاروق في مقدمة كتابه اعتراض مصطفى نحاس زعيم حزب الوفد على ابتداء عضو في البرلمان المصري حديثه بـ "بسم الله الرحمن الرحيم" وليقول له نحاس "إننا هنا نتحدث باسم الأمة وليس باسم الله". وبعد مائة عام على هذه الواقعة، أي في الـسابع من فبراير 2012 رفع نائب سلفي الأذان في البرلمان، وذلك بعد أن أعلن غالبية أعضاء البرلمان عن امتثالهم للدين أولاً بإضافتهم إلى القسم بالالتزام بالدستور عبارة "إذا لم يتعارض ذلك مع الشريعة".

أجد المثال آنف الذكر، معبراً إلى قدرة الدولة على تذويب القبيلة الأمةالأمة/القبيلة وتنحيتها جانباً، فالعصبيات تظهر عند ضعف الدولة، فمتى كانت الدولة متماسكة تصون حقوق المواطنة، ويجد المواطنون فيها عقداً جامعاً فيما بينهم تبطل الحاجة إلى العصبيات والنكوص إلى الماضي والتحجر والتقوقع، والقبيلة أو القبائلية أو العصبية قادرة على إعادة انتاج نفسها سياسياً واجتماعياً واقتصادياً متى تحولت الدولة إلى أداة قمعية لا تجد إلا بالقمع وسيلة لحضورها وصيانة تماسكها، وهذا هو الحاصل في عالمنا العربي.

فيما تقدم خروج عن سياق الكتاب، الذي لا يخوض في ذلك! "فالعربي يمشي في الزمن الآن كما كان يمشي في الصحراء، ثمة طريق إلى الماء إن خرجت عنه فأنت ميت". وهذا توصيف واقعي، وفي هذا السياق المعرفي الذي يتبعه كتاب "الهويات العربية المتصارعة" يجد مؤلفه أن آليات الإنتاج الثقافي العربية تستدعي إنتاج صيغ جديدة من دون رفض المحتوى القديم، ولأختم هذه الوقائع بما قاله الدكتور حين أخذنا الحديث إلى دانتي: "الأوروبيون يفرون من ماضيهم بشكل مستمر، والعرب يفرون إلى ماضيهم بشكل مستمر. أين تلتقي الحضارتان؟ في جحيم دانتي!".

*****

خاص بأوكسجين

كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحررها. صدر له: " سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" (رواية، منشورات المتوسط 2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (رواية، منشورات المتوسط 2017)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (مجموعة قصصية، منشورات المتوس...

معلومات الصورة
الصورة من أعمال الفنان الباكستاني أنور جلال شيمزا (1928 – 1985)

مقالات أخرى للكاتب