خيط الضوء والدخان
العدد 271 | 18 حزيران 2022
نسيم الجعبري


يرتفع خيط دخان رفيع من سيجارة لم تنطفئ بعد، بين عشرات أعقاب السجائر الهامدة في منفضة خشبية محترقة الأطراف، ليمتزج خيط دخانها بانسيابية مع خيط ضوء هارب من ثقب في الجدار البارد، راح يتماهى مع الغبار المتساقط من السقف.

استغرقت وقتاً قبل أن أُدرك أن أصابعي الملتفة خلف رواية “موت إيڤان إيليتش” بدأت تحترق عندما لامست الشمعة المثبتة على الطاولة. نفضت يدي بقوة ليسقط الكتاب أرضاً، ومع ذلك لم أُعر اهتماماً للألم بل عدت مشدوهاً إلى خيط الضوء والدخان. أدت تلك الحادثة إلى تحرك الفراغ الساكن في الغرفة، بدت ذرات الغبار وهي تدور داخل شعاع الضوء الأسطواني أكثر إبهاراً، لتلمع كالنجوم في السماء الداكنة، في حين أن خيط الدخان انحرف عن مساره وتلاشى.

لابد أن الشمس بدأت تشرق في الخارج! كيف لذلك أن يحدث فقد أحكمت إغلاق النافذة ووضعت عليها قماشاً سميكاً لتأجيل ذلك الشروق. يبدو أنها لم تنفع مجدداً، ولابدَّ من إيجاد طريقة أُخرى. لا أريد لظلمتي أن تنتهي بهذه السرعة . فأنا لم أكتفِ من عزلتي بعد.

 ككل صباح وفي نفس التوقيت تقريباً يبدأ قرع الطناجر في المطبخ. أستطيع التمييز بين صوت كل طنجرة وأُخرى وأعرف اللحظة التي وجدت فيها أمي ركوة القهوة، وأميّزُ صوت الماء داخل الركوة، ومتى على أمي إغلاق صنبور الماء. ولا تقف موهبتي عند هذا الحدّ فأنا أستطيع الاستنتاج بأنه ليس لدينا ما يكفي من البنّ من خلال كمية الماء المسكوب داخل الركوة، والذي أستطيع تقديره من صوت امتلاء الماء والمدة التى استغرقتها في ذلك، ومع كل هذا الذكاء والاستنتاج، فإنني لا أعرف حتى اللحظة: ما  العلاقة بين إعداد فنجان القهوة والطناجر؟ ولماذا عليها إصدار كل هذا الضجيج؟

ترقبت محدّقاً في مقبض الباب.

سال لعابي. القهوة إدمان متوارث!

 أخرجت سيجارة، وتناولت الولّاعة من على الطاولة وبدأت أشعلها وأطفئها وكأني أُهيّىء السيجارة نفسيًا على الموت حرقًا، وعيناي تحدقان بمقبض الباب.

مرت عشر دقائق ولم يُفتح الباب، ولم تظهر رائحة القهوة سرعتها وتسبق الفنجان وأمي نحو الغرفة.

مرت عشر دقائق أُخرى وبدأتُ أفقد التركيز.

بالمناسبة أنا لم أنم منذ الأمس أو قبله لا أذكر.

متعب جداً! أنا حقاً متعب! تتردد في رأسي مرة تلو الأخرى: متعب ..تعبت!

 فتحت عينيَّ … هل أغمضتهما حتى؟ لا أذكر! فنجان القهوة أمامي!؟ متى دخلت أمي؟ القهوة بلا رائحة، وأمي أيضاً فالغرفة لم تنتعش بعبق شذاها.

أخذت رشفة واحدة وعلى غير العادة إنها بلا طعم! أمي أفضل من أعدّ القهوة على الإطلاق وهي تعرف وتتباهى بذلك، هل نفد البنّ؟

البنّ لم ينفد وغرفتي مظلمة تماماً، وخيط الدّخان لم ينحرف عن مساره ويتلاشى، إنما خيط الضوء…

خيط الضوء من فعل.

*****

خاص بأوكسجين