حوار حي ومباشر: جوزيف عيساوي
العدد 198 | 05 أيلول 2016
خالد بن صالح


تسعى أوكسجين إلى ضبط عوالمكم متلبسة بما تصوغه من إبداع وتتوهج فيه وهي تعيش وتحيا، على شيء من العفوية ومن دون تحضير مسبق سوى تحديد موعد للقاء في مربع “الشات” على “الفايسبوك” لنمضي في دردشة حية ومباشرة: سؤال فجواب، أسئلة سريعة خاطفة وإجابات أتطلع لأن تكون سريعة مكثفة أيضاً، كما لو أنه حديث ودي وشيّق يجري في حانة أو مقهى، أو حديث يخرج من حيث لا ندري في مشوار لا نريد له أن ينتهي.

الحوار ها هنا مع الشاعر اللبناني جوزيف عيساوي فهلموا إليه:

لحظة الكتابة الأولى متى كانت؟ وكيف تستعيدها اليوم؟

– لعلها المكاغاة الأولى مع الأم أو البكاء الأول أو احتكاك شفتيَّ بحلمتيها. كان جسدها كاملاً قارئي الأول وكوني. قد لا يكون الشعر إلا استعادة تلك العلاقة المفقودة مع الأم والطفولة الآفلة عبر تحويلها لغةً وتمتمات.

 

يظهر ذلك بشكل مدهش ومكثف في ديوانك “ميت سكران يطلب المزيد” بمخيلة الطفل التي تستعيد الكثير من الأشياء الضائعة، هل هو هاجس قديم؟

– بدوري أسأل أليست الطفولة هي الروح التي تتحدث عنها الديانات منذ القدم، وفيها جوهر الإنسان، السعادة والحزن وما بينهما من لهو ولا مسؤولية ومجانية في كل شيء؟ الشعر هو استعادة تلك الروح وتحويلها وضخّها في اللغة.

 

الملمح الذي يلمسه القارئ لشعرك، هو تلك الجرأة والمشاكسة التي تكتب بها. كما أنها جزء من حسك الصحفي خاصة في حصتك التلفزيونية “قريب جدا”. إلى أي مدى الكتابة لصيقة بحياة الشاعر وشخصه؟

–  بالطبع هي لصيقة مهما حاول الشاعر الانزياح عن ذاتيته للانتقال بإحساسه وكشوفاته وتجاربه نحو ما هو عامّ في الطبيعة البشرية. غياب الذات عن النص لتغميس الكلمات ببئر العدم لن يتحقق ما لم تنطلق الكتابة من تجربة أو انفعال شخصيّين. حياة الشاعر، صدماته، جراحاته البعيدة كما الآنية، منجمُ صنيعه الشعري. علماً أن ديواني الأخير، “ميت سكران…”. ضمّ قصائد روى لي مشاغلها أصدقاء وصديقات. ذلك أن حياتهم لا تقل أهمية للقصيدة عن حياتي، بعد تحويلها مادة شعرية تتسق ونظرتي الوجودية. لكن تلك القصائد المبنية على ما رواه آخرون كمادة أولية ليست سوى جزء من الديوان.

 

وهم الذين أهديتهم القصائد المستوحاة من تجاربهم بأسمائهم؟

– البعض نعم والبعض لم أهده قصيدته. الأمر مزاجيّ. لكني أهديت قصائد لأصدقاء لا علاقة لحكاياتها بهم مباشرة. إحداها نُشرت قبل طبع الكتاب في منبر ثقافي، فتمنى عليّ الشاعر الذي أهديته إياها استبدالها بأخرى. ربما توجّس أو تطيّر من موضوعها وهو سيناريو مأتمي الشخصيّ. هههههه الحقيقة أنني شئت إهداءها لشاعر يستطيع تقديرها ولما فيها من حميمية مع زائر يخشاه الجميع.

 

من قصيدة “أمي يا ملاكي” أقتطع التالي: 

الزهور لو استعارت

الإنسان منَّا

لكسرت يدًا تقطعُها

هاتفةً:

كس أمّك

بشوكي.

حدثني عن علاقتك بالكائنات والموجودات التي تلامس أدق التفاصيل كما في هذا المقطع؟

– تمثّل لحظة الكتابة نقاوة حدسية قادرة إما على تصعيد العلاقة اليومية مع الذات والآخر وسائر الموجودات وإما على تخفيفها، وفي الحالين علي التقاط السرّي والخفيّ والخارق والخامل في النفس والعالم. وهكذا تنتهي القصيدة إلى تقديم صلات وبيانات كشفية متمايزة وربما متعارضة عن الظاهر والمألوف سواء في الواقع أو اللغات الشعرية السائدة والسابقة.

 

“ما من وسيلة للتآلف مع الموت أفضل من ربطِهِ بفكرة داعرة”. العبارة للماركيز دو ساد وتذكرتها بمجرد قراءتي للعنوان والقصائد الغارقة فيما سماه الشاعر محمد علي شمس الدين بـ”شعر غير أدبي. هذا جميل وجديد، مستفز ووقح. أعني أنه حقيقي”. واصفاً إياك بالفتى الأزرق العينين المشاكس، ما قولك؟

– للشاعر محمد علي شمس الدين موقف ليس بالإيجابي من قصيدة النثر عامة وهو إذ رأى ذلك في المجموعة فهذا مفرح لكلينا. أما عن حضور الجنس العاري والايروسية في الديوان بل في قصائد الموت نفسها فربما يؤكد ربط الماركيز الماجن، ومن بعده فرويد، اللذة بالألم والموت. بعد دفن والدتي مباشرة شعرت برغبة عارمة في الجماع وكانت القذائف تتساقط أيضاً قرب بيتنا. حضور الموت وخشيته يوقظان في الإنسان شهوة الحياة مركّزة ومكثّفة في الجنس. لاحظ كم تزداد سيقان النساء وصدورهن إثارة في المآتم والجنازات. هل فقط بسبب انقشاع بياض الأجسام من سواد الملابس، أو لِما تنشئه الجثة الطازجة من توتر ورعب خفيّين يصّعدان من رغبة الجنس كنقيض لها واعتراض عليها؟ 

 

لكنك بشكل ما تجاوزت العدمية التي كانت واضحة في كتاباتك خاصة في ديوانك ما قبل الأخير “القديسx ” وجاءت القصائد بحس طفل يلهو بالموت والأجساد والآباء والآلهة؟

– يمكن القول أن في الكتاب الأخير بداية قبول النهايات والفناء في الطبيعة. بل إنه قبول يصل في ارتياحاته في بعض القصائد حد اللهو مع صور الموت وإنشاء تخيلات مرحة للدفن الشخصي وانتقاء الملابس والموسيقى والمكان وشكل النعش ومصممه -فيرساتشي- وطلب القهوة للجثمان الذي يُحرم منها بينما هي تُغدَق مع السجائر على المعزّين.  

 

أظنك تتفق مع عبارة: في البدء كانت الأسئلة، وهو ما لم يفارقك منذ إصدارك الأول “قصائد المنزل” ما هي الأسئلة الوجودية التي ترافق جوزيف منذ وعيه بالوجود؟ 

– هل تعرف أني حين أعود إلى “قصائد المنزل” وأقرأ فيه قصائد الموت أتساءل كيف انسكب هذا الهاجس جنباً إلى جنب شهوات الجنس وقصيدتَيْ حب وقصائد الأصدقاء؟ هذا عدا قصيدة تتوقع للشاعر النهاية بقرار ذاتي وبندقية: “هي رقصة شابّ/ سينتحر يوماً للاسبب/ سوى بندقية البيت/ وإصبعٍ غير مقطوعة”.

إذن ليس الموت والحب وحدهما بل أيضاً سؤال الانتحار الذي اعتبره كامو المسألة الفلسفية الوحيدة الجديرة بالنقاش. ولكنه لا يحضر في شعري إلا من نزعة داخلية فوّارة تتصل بحزن منذ الصغر مع أبوين مثابة جدّين، لزواجهما متقدمين في العمر، ولكوني المولود الوحيد، ولطبعٍ موروث ربما، وحتى اكتشاف مبكر للجنس يقلب الكثير من الأمور. زد على ذلك تربية مسيحية في مدرسة للراهبات مع كل ما تتجرعه من مشاعر ذنب وتماه مع المسيح وآلامه. زد حرب لبنان ومئة وخمسين ألف ضحية ورعب خلال 15 عاماً.

 

هكذا كانت “قصائد المنزل” تجربة أولى في الكتابة والحياة، التجربة الشبيهة بالشاعر في بداياته؟

– هذا الديوان كُتب في نصف عشرينياتي الأول ومع ذلك تجده طافحاً بوجوه من رحلوا : وجها أبي وأمي. وجوه امرأة او أكثر. أصدقاء اقتلعتهم الحرب إلى خارج البلاد. وشعور بالاغتراب لا أعرف له سبباً إذ لطالما فضلتُ العزلة عن الرفاق منصرفاً إلى المطالعة وهم يلعبون الكرة في الشارع أو يرقصون في حفلات الديسكو في بيوت بيروت في الثمانينات أو على سطوحها.

سنشرب كأساً بين الحين والآخر مع الميت السكران ولكن دعني الآن أعود بك إلى برنامج “قريب جدا” وهذه التجربة المتفردة على مدار سبعة أعوام، وجرأتك في استضافة مفكرين ومثقفين إشكاليين، خاصة لمناقشة القضايا الفكرية والدينية والحرية في العالم العربي، حدثنا عن هذه التجربة أو أهم ما ربطك بها؟

– تجرأنا على تحويل الحوار التلفزيوني مادة كشوفات شخصية وفكرية للضيف تكاد تقارب كشوفات الشعر. نزق الشعر وهواجسي الشخصية وضعتها في محاور البرنامج مورّطاً الضيف، أديباً، ممثلاً، مخرجاً، مفكراً، دافعاً إياه بالإحراج او بالتدرج بالأسئلة إلى مدى ليس بالقليل. القضايا التي تفجرت بعد “الربيع العربي” ثم انكمشت، عالجتها قبله بأعوام بلا تورع أو خوف مغامراً بتنقلي بين العواصم أو وجودي في بيروت. مغامراً خاصة بخسارة عملي، بعد توقيف برنامجين لي على فضائيات لبنانية، بسبب رد فعل جهات أو أنظمة على سؤال أو موقف أو اسم ضيف. تخيّل أن استقبالي نصر حامد ابو زيد تأخر سنوات لم يجرؤ خلالها برنامج ثقافي على استضافته باعتباره “سلمان رشدي العرب” من وجهة نظر البعض. لكني عدت والتقيته في حلقة أطلق فيها مواقف غير مسبوقة من المسألة القبطية ودعوته الى العلمنة الإيجابية تجاه الأديان. باختصار، أسئلة الإسلام السياسي والعلاقة مع الغرب في عز حرب العراق، أسئلة الفكر التوحيدي والعنف الكامن فيه، الإلحاد في العالم الاسلامي، مواقف الضيوف من أنظمة بلادهم ومعارضاتها، تجاربهم في الحب والجسد، جميعها محرّمات طرحها “قريب جداً” وكنت مديناً بالنجاح لسخاء الضيوف والضيفات.

 

هل تكفي كأس ويسكي لتحل أحجية الخير والشر؟

– ههههه لعلها القصيدة الوحيدة المكتوبة بتأثير كأس أو اثنتين من الويسكي في حانة الـ”موجو-كلوب” في شارع الحمراء. قصيدة “ميت سكران” كتبتها على محرمة ورقية لأنهيها بعد ساعتين في ذهني وأنا أتمشى على الرصيف. أما أحجية الخير والشر فستبقى حتى بعد فناء البشر في اختصام الآلهة مع بعضها وخصام إله التوحيد مع فروعه الثلاثة وملاكه العاصي.

 

“حانة ظنون” كما سميتها بقصيدة تقول فيها:

بعد كأسين،

الثالثة والرابعة،

للجزَر تحت أسنانكَ

وقْعُ راقصة فلامنكو.

إلى ماذا يحتاج جوزيف عيساوي لكي يكتب؟

– لا أحتاج للكتابة إلا مزاجاً رائقاً، صافياً، واستعداداً مسبقاً مع طقوس أهمها فنجان إسبريسو وزاوية في المقهى ونوع من الورق أو الدفاتر قبل أن أتحول منذ عامين إلى الكتابة على تطبيق في الموبايل باصبع واحدة. لكن يبقى الأهم وهو أن تنقدح شرارة تجعل خيط القصيدة منساباً من إبرة الرأس. في الماضي لم أكن لأكتب إلا عندما تأتي تلك الشرارة. لكني بتّ في السنوات الأخيرة أجلس ساعات أكتب أي شيء وأشطبه في انتظارها. وباتت القصائد أطول وتحتمل سرداً وتجريباً ومساحة تعبير لم تكن في السابق حيث غلب التقشف في الكلمات وكانت قصائد الشاعر الشاب كما حركة روحه أشبه بالطلقة.

 

صورك الشعرية مكثفة، خاطفة ولا تخلو من الإحالات الدينية والفلسفية والتاريخية، هكذا دون كثير تفكير أستعيد ما علق في الذاكرة “إلهٌ ملولٌ، صنعَ تمثاله من طين” .. وقد وصفك الشاعر أنطوان أبو زيد بمناكف اللاهوت، ما تعليقك؟

– بالتأكيد يشير أنطوان أبو زيد الشاعر والصديق إلى حضور الدين ورموزه في الديوان، وهو حضور يغذّي الشعر ولا يتغذى منه، بمعنى الإتيان باللاهوت وتحويله معرفة شعرية تسائله وتخربطه وتهرطق عليه وقد تنتهكه وتتهكم بمرح أو لؤم. بقيتُ أصلّي حتى سني السادسة عشرة حين فقدت قناعتي بوجود إله. لكنّ هيمنة الدين ومعابده ورموزه والتربية عليه وغياب حرية النقد والتفكير في شأنه على الصعد الثقافية والبيتية والمدرسية والجامعية، تجعلك لا تنفذ من رشّاش خطابه وطقوسه منذ الصغر وحتى الحروب الحالية التي تبررها أيديولوجيات دينية.

 

ولكن هل يظهر في الديوان إلحاد؟

– لا أعرف. القصائد اشتغال في اللاوعي حيث يصعب أيضاً أن تسلخ عن الشاعر جلد الطفل المؤمن بإله ذي طبيعتين إلهية وبشرية، وبالإله الآب والروح القدس. ولكن أيضاً بوالدة الإله مريم العذراء، والقديسين والقديسات. فكيف تهرب من كل ذلك المحمول إن لم يكن بمواجهته وتفكيكه واستعادته من منظور الشعر وقلق السؤال الوجودي والمسافة التي يتيحها الاطلاع على أنثروبولوجيا الأديان مثلاً وتاريخها؟ لا يعنيني الإلحاد كما لم يعد يعنيني الإيمان، فكلاهما يشبه الآخر أكثر مما ينتبه إلى هذا الشبه الملحد والمؤمن (وبخاصة المتديّن)، اذ يحمل كلاهما أو يعتنق “حقيقة” يدافع عنها. أنحاز إلى اللاأدري الذي يبحث ويترجح بين شتى الاحتمالات على ضوء خبرته وتمزقاته الوجدانية.

 

الإيروتيكا والجسد والجنس، كما تذكر أنتَ الكلمة بوضوحها في قصائدك، تحضر بشكل يوحي بتجارب ومنعرجات حاسمة مع النساء، وتجربة مبكرة مع الجنس كما ذكرتَ قبل قليل؟

– أعتقد لا خلاص للإنسان الا باستعادة جسده من الآلهة وإعادة حواسه إليه. الجسد كنز الإنسان وحياته ومركز سعادته وبؤسه ومن لا يصنع منه جنة على الأرض لن يعرف كيف يصنع جنته -أو ملكوته- في السماء الموعودة. 

 

مرة أخرى أقتطع من ديوان “على سرير ينكسر” 

أغنى من يملكني

أنتِ 

سيدة هذا القصر

كثير الغرف والثريات

وخادم ضئيل يوقد في الليل صمته

لتري حُبَّه مذهباً بالغبار.

من أين يأتي كل هذا الألم والحب معاً؟

– من حبّ عذريّ عشته مراراً وكان الجماع مستحيلاً وأحياناً كان مجرد البوح صعباً. ودعني ألاحظ أن الحب العذري أكثر توليداً للهوامات الجنسية والشوق وإعمال الخيال الايروسي، من الحب المتضمّن جنساً.

 

أثرت نقاشاً حول النشر ومشاكله عربياً، خاصة نشر الشعر ودعوت إلى ضرورة اقتحام مجال النشر الإلكتروني على المزايدات والمصاعب التي يتعرض لها الشاعر من طرف الناشر، بعد خمس مجموعات شعرية كيف تقرأ هذا الواقع؟

– لم أعرف صعوبة في النشر ولكن واقع دور النشر اللبنانية والعربية بائس ولطالما اعتمد على حكومات الأنظمة التي يشتري بعضها كتب الدين والتراث، وبعضها الكتب المدرسية والجامعية عفنة المناهج، وبعضها كتب القوميات والتشبيحات، وبعضها كتب الأدب الحديث والشعر الحديث (لتُرمى هذه الاخيرة لفئران المخازن). بل يمكن القول أيضاً أن للناشر العربي أياديه البيضاء في هذا التخلف الفكري والسياسي العربي وفي التطرف الديني.

 

ما رأيك في سطوة الشللية والأجيال الأدبية وانعكاساتها على الأدب والثقافة؟

– وجدت الشللية دائماً ولكنّ الزبد يذهب بعد حين ويبقى الأدب.

 

أين المجلات العربية المتخصصة، ولماذا لا تستمر المشاريع الجادة التي تنزاح للشعر والتجريب والحداثة؟

– مع اندثار الطبقات الوسطى في العالم العربي بدءاً من الثمانينات انقصف مشروع الحداثة. فما مبلغ تأثير الكتب والمجلات وقيم الحداثة عندما تنتفي الطبقة الاجتماعية القادرة على حملها وتبنيها وتعميمها والدفاع عنها؟ لكن لاختفاء المجلات المتخصصة أسباب متعددة منها غياب الروح الجماعية التي جسدها شاعر كيوسف الخال أسس مجلة “شعر” وربما غياب المشروع الثقافي وعدم إيمان الأديب أو الباحث والفيلسوف بجدوى أي مشروع في عالم عربي يتشلّع. من غير أن يفوتنا غياب التمويل.

 

هل من أمكنة محددة في بيروت، تفضلها في شارع الحمراء مثلاً؟

– لا ارتاد الحمراء إلا لماماً وأمضي وقتي بين مقاهي ساحة ساسين في منطقة الأشرفية من العاصمة. الحمراء انقصف منذ بداية حرب لبنان وكان ينازع خلالها ولم يُسمح له من بَعدُ أن يستعيد حرياته ودورة اقتصاده ومقاهي ثقافته ومجلاته الأدبية لأن الطوائف والسياسة والاحتلالات العدوة والشقيقة والأهلية لم تكن ولم تعد تسمح بالتنوع. شيء من الكوزموبوليتية تلمحه اليوم في هذا الشارع بسبب وجود الجامعة الأميركية بالقرب منه أي في شارع بليس. قبل حرب لبنان العام 1975 كتبت “التايم”: “شارع الحمراء هذا النصف مايل من التنانير القصيرة”. اليوم أرى فيه تنانير طويلة ومسلحّي أحد الأحزاب وليس بعيداً منه على الشاطئ القريب من ضاحية بيروت الجنوبية ينتشر ما بات يسمى ب”البوركيني” أو “المايوه الإسلامي” المستورد إلينا بالترغيب والترهيب بواسطة الإسلام السياسي بشقَّيْه الشيعي والسني. لقد بات لبنان دولة شبه دينية تحكمها الطوائف المسلّحة وينازع ما بقي من مجتمعها المدني للحفاظ على مكتسباته الحداثية سواء في نمط العيش أو أشكال التعبير الأدبي والفني.

 

ما هي الكتب التي تظل قريبة منك دائماً؟

– كتب الشعر الغربي خاصة والعلوم الانسانية. أقرأ مئات الكتب سنوياً دون أن أضطر إلى إكمال الكثير منها إما بسبب الاكتفاء أو الملل من الموضوع وإما لاكتناهي الفكرة أو الأسلوب واستطاعة العودة إليها عند الحاجة.

 

هل من شاعرٍ تحب تجربته في الكتابة والحياة وتقرأ قصائده باستمرار؟

– تتغير أمزجتي وآرائي في الإعجاب بتجارب الشعراء بتبدل تجاربي الشخصية وتأملي وذائقتي وأيضاً اطلاعي على شعراء من شتى دول العالم وحقبه الزمنية البعيدة أو المعاصرة.

 

تذكرتُ أنك وعدتني بكتاب فروست “قصائد مختارة” الذي ترجمه يوسف الخال، وإن كنت أعترض على مقولة فروست الشهيرة “الشعر هو ما يضيع في الترجمة” فسؤالي يتعلق بما يضيع من الشعر حين لا نمنح الترجمة مكانتها اللائقة؟

– بصدقٍ أقول أني قرأت شعراً معرَّباً أو مترجماً إلى الفرنسية، مثلاً، عن لغات أعرفها وأخرى أجهلها. وإني وعلى اختلاف جودة الترجمة والمترجم أمكنني أن أشمَّ وأفرح غالباً بروح النص الأصليّ حتى إذا داخَله أسلوبُ المترجم وذاكرة اللغة التي يُنقل إليها وعبقريتها الخاصة. طبعاً بعض الشعر يخسر بالترجمة أقل أو أكثر من سواه. فكلما تخفف النص من الاتكاء على اللغة وموسيقاها واندفاعاتها منحازاً إلى الصورة والمشهد أو حتى الحكمة الشعرية، كلما حفظتْ ترجمته مقداراً أوفر من قلبه ونسغه. أما بالنسبة لوعدي لك بكتاب روبرت فروست فإني سأفي بالوعد حال لقائنا.

 

ماذا تقرأ هذه الأيام؟

– أقرأ العديد من الكتب معاً. أعود أحياناً إلى شعراء قرأتهم في سن المراهقة: جبران، يوسف الخال، توفيق الصايغ. أقرأ روايات فاتتني من أميركا اللاتينية وبعض كتب اللاهوت الليبرالي لمؤلفين سويسريين وألمان يذهبون بعيداً في فهم “الكتاب المقدس” وتحريره من الكنائس المسيحية وعقائدها نحو إنسانوية عالية.

 

ما أهمية فضاء الفايسبوك اليوم في التفاعل واللقاء مع الكتاب والقراء، وكيف تقيّم مستوى الأداء إن جاز التعبير في استغلال ما بات واقعاً ليس افتراضياً؟

– فايسبوك منبر حرّ يصل مستخدمه بمليار أو مليارَيْ إنسان على الكوكب. التفاعل متنوّع الأشكال عمقاً وعرضاً لكنه يحقق بعض العزاء للكتّاب وقرائهم في آن. كما يحقق جزءاً من افتراض لوتريامون بأنه سيأتي يومٌ يكتب فيه الجميع الشعر، على تفاوت هذه الشاعرية ومستوى ما يُكتب. تستقبلني مواقع التواصل الافتراضية، والواقعية جداً كما جاء في سؤالك، كما تستقبل الشعراء الذين بينهم وبين القارئ، بحسب الشاعر الفرنسي نفسه، اتفاق يسمّي بموجبه الكاتبُ نفسه مريضاً ويرتضي بالثاني ممرّضاً. وهو اتفاق تنعكس فيه الأدوار اعتباطياً كما يقول لأن الشاعر “هو الذي يعزّي البشرية”. هذا ما حصل بعد 11 ايلول مثلاً حينما لجأ الاميركيون إلى قراءة الشعر عبر الإنترنت. وهذا ما يحصل كل يوم منذ سنوات على فايسبوك ومدوّنات الكتّاب والأدباء ومواقعهم الإلكترونية لتبادل النقاش، أو العزاء، حول ما يحصل من مآسي في بلداننا والعالم.

 

كلمة عن مجلة “أوكسجين”؟

– ماذا تتوقع أن أقول يا خالد وأنا أتحدث معك ل”أوكسجين”؟ ههههه سأقول أنه حديثي الوحيد عن شعري وحياتي منذ أعوام باستثناء ما أكتبه على حسابي في فايسبوك.

 

ماذا تقول لجوزيف في جملة واحدة؟

– لا تتعجّل الوداع فربما بدّلت الآلهة موقفها العدائيّ يوماً، أو انكشفت الطبيعة من تلقائها عن مصائر أدنى سوءاً.

 

وللعالم؟

– أوقفوا الإنجاب واهتموا بالإبداع والعمل المثمر من غير أن يستعبدكم العمل. وليكن الدين في خدمتكم ولا تبذلوا دماءكم على قدم من يدّعي حراسته أو حراستكم من أنفسكم ومن الآخرين المختلفين.

*****

خاص بأوكسجين


شاعر من الجزائر صدر له "سعال ملائكة متعبين" 2010، "مائة وعشرون متراً عن البيت" 2012، و"الرقص بأطراف مستعارة" 2016، و"يوميات رجل إفريقي يرتدي قميصاً مزهراً، ويدخن L&M في زمن الثورة" 2019. و"مرثية الأبطال الخارقين" 2023.