حوارات المنفيين
العدد 184 | 16 كانون الأول 2015
برتولت بريشت


تقديم:

اتّبع برتولد بريشت في صياغة كتابه هذا، أسلوب التهكم والفكاهة والسخرية اللاذعة، بعد أن استعصى عليه التعبير بأسلوب آخر –كما أظن- عما يريده، بحيث يشعر بفرح وسرور غامرين. وهكذا نراه أختار هذا الشكل، الذي يذكر ببيتهوفن وسيمفونيته التاسعة، عندما أدخل لأول مرة –في تاريخ التأليف السيمفوني- مقطعاً مغنى، نشيد الفرح لشيلر. إذ يقول العارفون بشؤون الموسيقى الكلاسيكية، أن بيتهوفن لجأ إلى ذلك بعد أن أدخل كل الآلات الموسيقية، فوجدها قاصرة عن التعبير عما كان يعتمل بداخله من أفكار. فلم يجد بُداً من الخروج عن الشكل السائد آنذاك، فأحدث ما سُمّي فيما بعد “ثورة” في التأليف السيمفوني. وإذا لم أكن مغالياً، فإني أجد بريشت، في كتابه هذا، فعل الشيء ذاته، إذ اختار شكلاً مناسباً حرّر فرحته، وأتاح له العزف على كل “الآلات”.. الهزل، التهكم، السخرية والتغريب.. ليصل إلى ما أراد. 

في هذا كتاب “حوارات المنفيين” نجد واحداً من الذرى التي أبدعها بريشت وبشكل فني أخاذ في تعرية الفاشية والسخرية منها والحط من شأنها. ويعقب فريدريك أُوين في كتابه القيم “برتولد بريشت حياته، فنه وعصره” قائلاً:  “نادرة هي الكتب، التي تجلّى فيها ذكاء بريشت وحيوية ذهنه بشكل أكثر إشعاعاً وأكثر إمتاعاً مما تجليا في كتابه –حوارات المنفيين- الذي كتبه  عام 1941 في فنلندا ونشر بعد وفاته. إن هذا الكتاب يكشف لنا أصالة بريشت أكثر من أي كتاب آخر.. إنه يسحرنا خاصة بسبب اللذة التي يستشعرها إزاء التأمل التجريبي”. 

وهنا مقطع منه كتاب “حوارات المنفيين” الصادر بالعربية عن “دار كنعان” في دمشق عام 2002:

 

حول الجوازات / وتكافؤ البيرة والسيكار/وحب النظام

يعرض بريشت شخصين غريبين لاجئين من ألمانيا النازية، يلتقيان في مطعم بمحطة القطار في هلسنكي. أحدهما طويل، بدين، أبيض اليدين. اسمه تسيفل، عالم الفيزياء، أما الثاني فهو نحيف، صغير الحجم وله يدا عامل تعدين. اسمه كالا

البدين (تسيفل): يمكن للبيرة أن تكون شيئاً آخر غير البيرة، ويمكن للسيكار أن يكون شيئاً آخر غير السيكار، إلا أن جواز السفر يجب أن يكون جوازاً حقيقياً، كي يُسمح لحامله  بدخول بلدٍ ما. 

النحيف كالا: جواز السفر أثمن جزء في الإنسان فلا يُصنع بنفس السهولة التي يُصنع بها إنسان. فالإنسان يمكن أن يُصنع في أي مكان وبكل رعونة وبدون سبب معقول، غير أن جواز السفر ليس كذلك أبداً. لذلك يُعترف به عندما يكون جيداً، في حين لا يُعترف بالإنسان مهما كان جيداً. 

البدين: يمكننا القول أن الإنسان ما هو إلا حامل آلي للجواز. إذّ يُدَسُ في جيبه كما تودع الوثائق والمستندات الثمينة في الخزانة الحديدية، التي لا قيمة لها سوى أنها تحوي أشياء ثمينة. 

النحيف: ومع ذلك يمكن للمرء أن يدعي بأن الإنسان ضروري للجواز بمعنى من المعاني. الجواز هو الشيء الأساسي وعليك أن تخلع قبعتك احتراماً له. ولكن بدون أن يكون هناك إنسان تابع لا يمكن أن يحقق وجوده، أو قل لا يمكن أن يحقق وجوده كاملاً. تماماً كما هي الحال بالنسبة للطبيب الجرّاح، إنه يحتاج المريض كي يستطيع إجراء عملية. وبهذا المعنى فإنه غير مستقل، لأنه وبكل علمه وما درسه وتعلمه شيء ناقص، كذلك الحال في دولة عصرية. فالشيء الأساسي فيها هو الفوهرر، الدوتشه(*) إلا أنهما يحتاجان إلى من يقودان، ولا بد من وجود مَنْ يتكفّل بذلك وإلا فإن الأمور لا تسير. 

البدين: الإسمان اللذان ذكرتهما تواً، يذكراني بالبيرة والسيكار هنا. وبودي أن أعتبرهما علامةً رائدةً لأفضل ما يمكن الحصول عليه هنا. وأجد ظاهرة صحية في كون البيرة ليست بيرة والسيكار ليس سيكاراً. إذ لو افترضنا عدم وجود اتفاق وتنسيق هنا، لما أمكن إدارة هذا المطعم، الذي نجلس فيه الآن. ويمكنني أن أتصور القهوة هي الأخرى مغشوشة وليست قهوة حقيقية. 

النحيف: ماذا تعني بظاهرة صحية؟ 

البدين: أعني أن التوازن قائم، فلا داعي للخجل من المقارنة، ذلك أنهما يتحديان العالم بأسره سوية(*)، لا يمكن لأحدهما أن يجد صديقاً أفضل من الآخر. فتعاونهما يجري بشكل منسّق. لننظر إلى الأمر من زاوية أخرى، لو افترضنا، على سبيل المثال، أن القهوة هي قهوة حقيقية وأن البيرة ليست بيرة، عندئذٍ سيعتبر العالم البيرة شيئاً رخيصاً ويلعنها. وعندئذٍ ماذا؟ يبدو أني ابتعدتُ بك عن موضوعك، أي الجواز. 

النحيف: آه، إنه ليس بموضوع أثير لا يمكنني التخلي عنه. إن ما يدهشني أنكَ بدأتَ تعدَّ الناس كما لو أن أحداً منهم قد فُقِد. ولكن عليك أن تعرف جيداً أن الإنسان يظل إنساناً ولا شيء غيره. وأن الأمر سيّان عندما يجوع. 

تسيفل: لقد ازدادت هموم الناس كثيراً في السنوات الأخيرة، خاصة في ظل هياكل الدولة الجديدة. ولم يعد الأمر كما كان في السابق، إذ أن الدولة قلقة. فالرجال العظام، الذين ظهروا في عدة أماكن من أوروبا، يُبدون اهتماماً متزايداً بالناس، ولا يكتفون  بأنهم بحاجة إلى مزيد من الناس. في البداية أَعيى الناس سؤال: لماذا قام الفوهرر بجمع الناس من كل مناطق الحدود وأمر بنقلهم إلى داخل ألمانيا. ولم يتضح الأمر إلا في هذا الوقت، وقت الحرب. حيث راح الفوهرر يستهلك الكثير منهم، وهو لهذا السبب بحاجة إلى المزيد. إلا أن الجوازات وجدت بالدرجة الأولى للمحافظة على النظام. إنها ضرورية جداً في هذه الأوقات. تصوّر، أننا، نحن الاثنين، نسير بدون وثائق تثبت هويتنا، بحيث يتعذر التعرف علينا إذا ما أرادوا طردنا من هنا، عندها سيكون ذلك مخالفاً للنظام. لقد تحدثتَ قبل قليل عن الجرّاح. إن الجراحة مستمرة لأن الجراح يعرف بالضبط موقع الزائدة الدودية في الجسم مثلاً. أما إذا أراد أحدٌ إجراء عملية في الرأس أو الركبة، على سبيل المثال لا الحصر، دون أن يكون متسلحاً بمعرفة الجرّاح ومهارته، فلا بد أن تسبب عملية الاستئصال تلك تَبِعات جمّة. ويستطيع أي محبٍ للنظام أن يؤكد لك صحةَ ذلك. 

كالا: كان شيفنغر من أكثر الرجال، الذين عرفتهم في حياتي، تنظيماً وحباً للنظام، كان من رجال الأس أس في معسكر اعتقال داخاو. ومما قيل عنه أنه ما كان يسمح لعشيقته أن تتغنّج وتهز عجيزتها، إثارةً له، في أي يوم آخر عدا أيام السبت، وفي المساء فقط. لم يكن يتسامح  معها حتى في حالات السهو. فلم يكن يسمح لها أن تضع قنينة الليمون على الطاولة، إذا كانت قاعدتها مبلّلة. وعندما كان يجلدنا بالسوط، كان يقوم بعمله بمنتهى الدقة. بحيث تكون آثار السوط منقوشة على أجسادنا بنسق دقيق يمكن قياسه بالمليمتر. كان شعوره وتعلّقه بالنظام يسري في عروقه إلى حد يُفضِّل معه عدم جَلدِنا، إذا لم يكن الجلد منظماً ومنسقاً. 

تسيفل: هذه نقطة هامة جداً. إذ لا يمكن للمرء أن يجد نظاماً أكثر دقة مما هو موجود في السجن أو الجيش. ثمة حكاية قديمة تقول أن جنرالاً فرنسياً قال لنابليون، عندما اندلعت حرب السبعينات، أن الجيش متأهب حتى آخر زر من الأزرار. وما كان ذلك بوعد قليل. إذ أن الأمر يتوقف إلى حدٍ بعيد على آخر زر. فبآخر زر من الأزرار تُريح الحرب. إن آخر قطرة من الدم مهمة، لكن ليس كأهمية آخر زر. هذا هو النظام بعينه،  والذي بواسطته يربح المرء الحرب. فلا يمكن إدخال النظام في الدم كما في الأزرار. فهيئة أركان الحرب لا تعرف فيما إذا سالت آخر قطرة من الدم أم لا، ولكنها تعرف بدقة عن آخر زر. 

كالا: كلمة آخر، التي قلتها، هي أجمل كلمة سمعتها منك حتى الآن، ففي المستنقع كان رجل الأس أس يقول لنا دوماً أن علينا أن نندفع بآخر ما لدينا من قوة. وبخلاف ذلك كانت تثور ثائرته. وهكذا فإنهم يريدون كسب الحرب بآخر ما لديهم من قوة: ويصرّون على ذلك. 

تسيفل: إنهم يريدون بذلك أن يكون الأمر جدياً. 

كالا: جدية دموية. فالجد غير الدموي ليس بجدٍ!

تسيفل: هذا ما يعود بنا إلى قضية الأزرار. فالنظام لا يلعب في الحياة التجارية ما يلعبه في الجيش، ففي الحياة التجارية يمكن تحقيق أرباح حتى بنظام مرتبك، في حين أن الأخير لا يجلب في الحرب سوى الخسائر، ويمكن القول، أن الأمر في الحياة التجارية يتوقف على كل قرش، وفي الحرب على آخر زر. 

كالا: في الواقع إن أمر الحرب لا يتوقف على الأزرار، إذ يعرف الجميع أن ليس هناك من مجال يتم فيه تبديد الثروات كما في الحرب. هل رأيتَ في حياتكَ إدارة عسكرية مقتصدة؟ النظام هنا، إذن، معاكس لمبدأ الإدخار والاقتصاد. 

تسيفل: كلا، طبعاً. إنما النظام هنا يعني التبذير بشكل مبرمج. فكل ما يجري تبذيره وهدمه وتحطيمه يجب أن يُخطّطَ له على الورق ويجري ترقيمه. هذا هو النظام. إن انتهاج النظام والالتزام به قضية تربوية محضة. إذ لا يمكن للمرء أن يقوم بأعمالٍ معينةٍ، ما لم يؤَدِها بشكل منتظم، بما في ذلك أتفه الأعمال. فلو أمرتَ أحد السجناء مثلاً أن يحفر حفرةً، ثم أمرته يردمها من جديد وتركته يكرر العملية عدة مرات على هواه، سترى أنه إما أن يجن أو يثور، وكلاهما سيان. ولكن على العكس من ذلك إذا علّمته كيف يمسك بالمجرفة بحيث لا يغرسها سنتيمتر واحداً أعمق مما يجب، وكيف يمكنه أن يحفر جدار الحفرة بشكل مستقيم مستخدماً شاقول البناء، وكيف يردم الحفرة ويساويها حتى لتبدو أرضاً مستوية..، عندها فقط سينجز العمل حتى آخر خطٍ –كما يقول الرسامون الهندسيون. من جهةٍ ثانيةٍ أن الإنسانية لا تتحقق هذه الأيام بدون رشوة، وهي نوع من النظام أيضاً. ستجد إنسانية عندما تعثر على موظف يأخذ رشوة. فبقليل من الرشوة يمكنك أن تنشر العدالة. فلكي أقف في الطابور بدائرة الجوازات في النمسا، دفعتُ “بقشيشاً”. إذ نظرتُ في وجه أحد الموظفين، كان طيب القلب فأخذ “البقشيش” مني. إن الأنظمة الفاشية لا تسمح بالرشوة لأنها أنظمة لا إنسانية!

كالا: ذات مرة ادعى أحدهم أن القاذورات والأوساخ ما هي إلا مادة في غير محلها الصحيح. فالنفايات والقاذورات في أصيص الورد لا يمكن تسميتها قاذورات. في الأساس أنا من محبي النظام. ولكني شاهدت مرة فلماً لشارلي شابلن وضع، في أحد مشاهد الفلم، ملابسه وحاجيات أخرى في حقيبة وأغلقها. كان المنظر غير منظم، لأن  أجزاءً كثيرة من الملابس بقيت مدلاة خارج الحقيبة. عندها تناول مقصاً وبتر الأكمام وأرجل البنطلون وكل ما لم تتسع له الحقيبة، مما أصابني بدهشة. أراك لا تكترث بحب النظام؟ 

تسيفل: إني أعترف بالفوائد الجمّة للإهمال والتراخي فقط. فقد أنقذ الإهمال والتباطؤ أرواح آلافٍ من الناس. أما في الحرب، فغالباً ما يؤدي أقلُّ تراخٍ أو إهمالٍ للأوامر، إلى إزهاق الأرواح. 

كالا: هذا صحيح، كان عمّي في الجبهة، مرة. وبينما كان وزملاؤه منبطحين في الخندق، سمعوا عبر التلفون أمراً بالانسحاب الفوري. إلا أنهم لم يصغوا جيداً إلى نص الأمر. ذلك أنهم كانوا مشغولين بأكل البطاطا المشوية. وهكذا وقعوا في الأسر وبذلك أُنقذت حياتهم. 

تسيفل: أو خذ، على سبيل المثال، طياراً منهكاً من شدة التعب، يقرأ أجهزة القياس بشكل غير دقيق، فيلقي بحمولته من القنابل جنب عمارة سكنية بدلاً من أن يلقيها فوقها. وهكذا يتم إنقاذ حياة خمسين شخصاً على الأقل. إن ما أريد قوله هو أن الناس لم ينضجوا بعد لعمل الفضيلة كما نضجوا في حبهم للنظام والالتزام به إذ ما زال فهمهم للفضيلة ناقصاً. فكل ما يتخذونه من إجراءات غبي، ويظل التطبيق المهمل والمتراخي للخطط هو ما ينقذهم ويحميهم من الشرور الكبيرة.. 

تسيفل: كان لدي مساعد مختبر اسمه هايسش يعنى كثيراً بتنظيم كل شيء. عندما أكون قد أعددتُ بعض الأجهزة للقيام بتجربةٍ ما، وخلال ذلك يجري طلبي على التلفون، كان يقوم بجمع كل الأشياء على عجل ويرتب المكان. وفي كل صباح كان “ينظف” المناضد من الأجهزة والأدوات.. حتى قصاصة الورق التي أسجل فيها الملاحظات لليوم التالي، كان يرميها في سلة المهملات. كان.. والحق يقال: يبذل جهداً في ذلك، حتى لا يمكن الشكوى منه. ورغم ذلك حصل بعض التذمر فعلاً، وكان في غير محله. فعندما كان يختفي شيء، أي يجري كنسه، كان هايسش ينظر بعينين بليدتين ليس فيهما أي بريق لذكاء، مما كان يبعث على الشفقة. 

لم أكن أتصور أبداً أن لهايسش حياة خاصة وسرية. إلا أنه كان يملك هذه الحياة فعلاً. فعندما جاء هتلر إلى السلطة، ظهر أن السيد هايسش كان طوال الوقت محارباً قديماً في صفوف حزب هتلر. وفي صبيحة اليوم، الذي أُعلن فيه هتلر مستشاراً للرايخ، قال صاحبي وهو يُعلّق معطفي، سيدي الدكتور، الآن سيعم النظام كل ألمانيا. وعندها ألقى عليّ خطبة.. 

كالا: يمكنك أن تصوغ الأمر على النحو التالي: حيث لا تكون الأشياء في مكانها الصحيح، تكون الفوضى. وحيثما يكون المكان الصحيح خالياً من أي شيء يكون النظام. 

تسيفل: يوجد النظام هذه الأيام، حيث لا يوجد هناك شيء، وهو دليل نقص. 

_____________________________________

يحيى علوان: كاتب ومترجم عراقي مقيم في برلين. درس الأدب الانكليزي في “جامعة بغداد”. عمل في الصحافة والترجمة منذ عام 1968، من مؤلفاته: “الجثة لا تسبح عكس التيار”، و”تقاسيم على وطن منفرد”. من ترجماته: ” “أيها القناع الصغير أعرفك جيداً” نصوص أدبية لأوغستو مونتيروسو، و”المشط العاج” (رواية فيتنامية)، و”حوارات المنفيين” المقتبس عنه هنا. 

*****

خاص بأوكسجين